إسبانيا التي استعمرتنا لحوالي نصف قرن، وإسبانيا التي قصفتنا بالأسلحة الكيماوية، إلى درجة أن ضحاياها غير المباشرين لا يزالون يتعالجون من أمراض السرطان، وإسبانيا التي شردت مئات الآلاف من الأندلسيين ونزح جزء مهم منهم نحو المغرب، وإسبانيا التي جندت عشرات الآلاف من أطفالنا وشبابنا في حربها الأهلية الطاحنة، وإسبانيا التي لنا معها ألف مشكلة ومشكلة، هذه البلاد هي التي نحس نحوها هذه الأيام بكثير من التعاطف، وكأننا نحن الأغنياء والإسبان هم الفقراء. رئيس «حكومتنا»، عبد الإله بنكيران، أطال الله في عمر لسانه، كان في إسبانيا ودعا الإسبان إلى الاستثمار في المغرب من أجل الخروج من أزمتهم. ولأنه أول رئيس حكومة «نْكايتي» في تاريخ المغرب، فقد دعاهم أيضا إلى الاستثمار في الكسكس. الإسبان ليسوا محتاجين أبدا إلى من يقدم إليهم المشورة، فهؤلاء هاجروا نحو مختلف بقاع العالم عندما كانت بلادهم فقيرة وتخضع لحكم دكتاتوري. ولما حان الوقت المناسب، انتفضت البلاد وتوجهت نحو الديمقراطية والازدهار، لذلك فهم لم يصنعوا تقدمهم بالكسكس ولا ب«الباييّا»، بل بالجد والمعقول، أي بالعمل وقلة الكلام. الهجرة عند الإسبان ليست عيبا، وهم هاجروا نحو المغرب بالآلاف منذ بداية القرن العشرين بحثا عن الخبز؛ وبمجرد أن بدأت أزمتهم الاقتصادية الحالية قبل بضع سنوات، عاد حنينهم إلى الهجرة وصاروا يبحثون عن أي مكان للعمل، فصرنا نرى بوابا إسبانيا يقف على باب عمارة مغربية، وجاء مدرب سابق لريال مدريد، بينيتو فلورو، ليشتغل في الدارالبيضاء مدربا للوداد البيضاوي، وصار المقاولون المفلسون يبحثون في المدن المغربية عن أي قشة يتعلقون بها. من بين الأشياء التي يعول عليها الإسبان من أجل المساهمة في إنقاذ «حصْلتهم» السياحة المغربية في الجنوب الإسباني، لأن مغاربة كثيرين يفضلون قضاء عطلهم في هذا المكان الذي يوصف بكونه من بين أفضل الأماكن السياحية في العالم. وهناك مندوبون سياحيون إسبان ينزلون إلى المغرب بحثا عن سياح مغاربة ويقدمون إليهم عروضا مغرية، لكن الحقيقة أن الإسبان ليسوا محتاجين أبدا إلى إغراء المغاربة بذلك، لأنه منذ سنوات طويلة كان الجنوب الإسباني مستقبلا لنوع متميز من المغاربة، وهم في غالبهم من لصوص المال العام والمفسدين وتجار المخدرات والمنتخبين المرتشين ومن شابههم. وفي الحملة الشهيرة التي قادتها وزارة الداخلية المغربية، أواسط التسعينيات، ضد التهريب وتجارة المخدرات، فر عدد كبير من تجار المخدرات والقضاة والأمنيين الفاسدين نحو الجنوب الإسباني، واستضاف الإسبان مئات الملايير من أموال الاختلاسات والمخدرات، وبيّض الكثير من المغاربة أموالهم هناك، وخصوصا في ماربيا وما جاورها، أي أنه في الوقت الذي كان فيه المغرب يمارس نفاقا عجيبا بدعوى محاربة التهريب والحشيش، كانت إسبانيا تستقبل تجار المخدرات وأموالهم، وتستقبل أيضا الموظفين والأمنيين والقضاة والمحامين الفاسدين، والذين كانت ثرواتهم تفوق أحيانا ثروات تجار المخدرات. هكذا اغتنى الجنوب الإسباني من أموال المغرب وحشيشه، لأن المغرب، عوض أن يكون واضحا مع نفسه ويجفف الحشيش من منابعه فإنه رسم خارطة عشوائية للحشيش والتهريب وطارد هذا وعفا عن ذاك؛ وفي النهاية، هرب أغلب الناجين نحو إسبانيا ووضعوا أموالهم هناك، ولم يصدر عن إسبانيا هذه المرة أي احتجاج على الحشيش.. لأن الحشيش حرام وأمواله حلال. المغرب يزرع عشرات الآلاف من الهكتارات بالحشيش، وهذه مساحة لا توجد في قبو منزل حتى يقول البعض إن السلطات لا تراها، لذلك لا يفهم أحد كيف أن الحشيش يراه الجميع بينما آلاف المزارعين البسطاء يطاردهم القانون، مع أنهم لا يجنون سوى الفتات من وراء ذلك، بينما الملايير يجنيها أباطرة المخدرات من كل مناطق المغرب، والذين يقضي عدد كبير منهم عطلهم في «الكوسطا ديل صول» و«الباهاماس» و«هاواي» و«المالديف»، بينما صغار المزارعين يقضون أيامهم مختبئين في الجبال والأقبية. هكذا تبدو إسبانيا متفوقة علينا كثيرا، ليس في الاقتصاد فقط، بل حتى في الذكاء، لأنها في أوقات الرخاء تفتح أبوابها على مصراعيها لكبار المهربين وتمنحهم جنسيتها؛ وفي أوقات الشدة تتوجه نحو المغاربة العاديين والمتوسطين لكي يزوروا مناطقها السياحية، بينما نحن نزرع الحشيش ونطارد زارعيه، أما سياحتنا الداخلية فهي أكثر غلاء من زيارة جنوبإسبانيا.