مع كل سنة دراسية، يتحول الدخول المدرسي من مناسبة لتصحيح الاختلالات التعليمية التي تشهدها السنة الماضية والوقوف على مكامن الضعف، في إطار سياسة تهدف إلى تطوير الأداء التعليمي، إلى كابوس مخيف يقف في طابور طويل من المناسبات التي تضرب في الصميم القدرة الشرائية للأسر المغربية. وقد أصبحت شركات القروض، بدورها، تجد في هذه المناسبة فرصة لتنويع عروضها بهدف إغراء عدد من المواطنين بتسهيلات في الأداء تمكّنهم من اجتياز هذه المناسبة بسلام، خاصة مع ارتفاع تكاليف الأدوات والرسوم المالية، لاسيما في القطاع الخاص، الذي استفاد من الطلب المتزايد في السنوات الأخيرة، علما أن عددا من الأسر المغربية تجد نفسها في ورطة حقيقية نتيجة توالي كل من شهر رمضان، الذي تعرف فيه وتيرة الإنفاق والاستهلاك ارتفاعا واضحا، وتزامنه مع العطلة الصيفية، قبل أن يحين دور الدخول المدرسي، الذي لا يقتصر فيه الأمر على دفع مصاريف التمدرس، بل يتعداها إلى شراء ملابس جديدة تنعش سوقا أخرى، ما يساهم في تأزيم الوضعية الاقتصادية للأسر متعددة الأطفال، التي تضع في حسبانها اقتراب عيد الأضحى وضرورة توفير ثمن الأضحية.. ولا ينفي هذا الواقع أن الأسر المغربية «قدّمت استقالتها» أيضا من أي دور في تطوير المنظومة التعليمية، التي لا تنتهي خلف أسوار المدرسة والمؤسسات التعليمة، علما أن أي نجاح مفترض للمدرسة يقتضي وجود شراكة حقيقية بين الفاعلين التربويين والآباء والأمهات من أجل النهوض بواقع التعليم، عوض دفع رسوم جمعية الآباء و«الاختفاء» في انتظار نتائج آخر السنة.. كما أن نجاح العملية التربوية ليس محكوما إطلاقا بواقع المنظومة التعليمية ككل، وهو ما تؤكده نتائج بعض المؤسسات التي حققت الاستثناء وتمكنت، بتضافر الجهود، من تحقيق نسب قياسية في معدلات النجاح والتفوق وخلق جيل من الأطر المغربية التي حققت نجاحا باهرا في عدد من المجالات. ورغم أن بعض الأسر تلجأ إلى التعليم الخاص، كنوع من البحث عن مبرر أخلاقي يُعفيها من تأنيب ضمير غيرِ معلن نتيجة انشغال كل من الأب والأم بالعمل لمواجهة متطلبات الحياة، فإن هذا الخيار لا يحاط دائما بضمانات تكفل تقديم خدمة تعليمية وتربوية للأطفال المعنيين بالتعليم الخاص، بعد أن تحولت بعض المؤسسات التي تشغل في هذا القطاع إلى محلات تجارية هاجسها هو الربح فقط، بشكل دفع وزارة التربية الوطنية، في عهد الوزير السابق اخشيشن، إلى التفكير في وضع دفتر تحملات واضح يصنف مؤسسات التعليم الخاص على أساس نوعية الخدمات التي تقدّمها، ومنحها نجمات، مثل الفنادق، يتم اعتمادها في وضع تسعيرة التمدرس، غير أنه تم إقبار هذا المشروع من طرف بعض «لوبيات» التعليم الخاص.. وبعيدا عن المدن، فإن الدخول المدرسي في العالم القروي يكتسي نكهة أخرى، في ظل نسب الفقر المرتفعة والعوز، الذي يجعل التعليم مجرد رحلة قصيرة لعدد من الأطفال ممن يُجبَرون على توديع فصول الدراسة للعمل إلى جانب آبائهم من أجل إعالة باقي الأفواه، علما أن واقع التعليم في القرى لا يتحكم فيه العامل المادي فقط، بل تنضاف إليه عوامل أخرى، منها بُعد المؤسسات التعيلمية، ما يفرض على عدد من الأطفال الصغار قطع مسافات طويلة ببطون فارغة، وفي ظروف مناخية شديدة القسوة، لتعلم القليل من المعرفة، تساعدهم على «فك الخط»، قبل أن يختفوا من قوائم المتمدرسين، فيما تتمكن نسبة قليلة ممن تساعدها الظروف على إتمام مسارها التعليمي في مناطق نائية لا تتوفر على مستوصف ولا على ماء أو كهرباء.. فبالأحرى مكتبة ومؤسسة تعليمية تضيء الظلام الذي يحاصر مستقبل آلاف الأطفال في جزء من الوطن حُكم عليه بأن يقبع في خانة «المغرب غير النافع».. إلى ذلك، فان واقع التعليم المغربي، على امتداد عقود، والى الآن، ما يزال -حسب عدد من العاملين في القطاع- مُختزَلا في شعار طفوليّ ردده الألوف منذ عقود: «أش قراوكُوم؟ قرد، بقرة برتقال».. وهو الشعار الذي تتبنّاه، أيضا، آلاف الأسر مع كل دخول مدرسي، وهي تجد نفسَها مثقلة ب«لوائح» طويلة من اللوازم والمقررات التي أصبحت، وفي مفارقة غريبة، تختلف من حي إلى آخر، بعد أن تعوّد المغاربة على «توارث» الكتب المدرسية من إخوانهم الذين سبقوهم في الفصول الدراسية، أو مقايضتها في «الجوطيات» الشعبية بمقررات السنة الموالية مقابل بعض الدراهم.. يحل الدخول المدرسي الحاليّ، إذن، في وقت ما تزال فيه المدرسة المغربية، والتعليم عموما، غارقين في التقليدية والتلقين الشفهي، الذي لا يميز بين التعليم والتعلّم، في الوقت الذي قطعت عدة دول «نامية» أشواطا مهمّة مكنتها من خلق نموذج لتعليم مرِن ومتغير يوازي الانقلاب الذي شهده واقع الحياة والتحولات الاجتماعية والسياسية المتسارعة منذ مطلع القرن الماضي. تحوّلَ إصلاح التعليم إلى شعار استُهلك في المغرب عقودا من الزمن، كغيره من الشعارات، دون أن تظهر أي نتائج تمكّن المغاربة من حصد النتائج، باعتبار أن هذا المكسب يُعدّ أول خطوة حقيقية نحو التقدم، بشكل يُتيح خلق مجتمع يسود فيه مبدأ تكافؤ الفرص، مجتمع قادر على اللحاق بالركب وتحقيق تنمية متوازية، وهو الشعار الذي تبنته أيضا القوى العظمى في العالم، لكنْ بواقعية وفعالية، لكونها تتعامل بحساسية شديدة مع قطاع التعليم وتترصد أي فجوة قد تقع بينها وبين باقي الدول، وهو الأمر الذي دفع الولاياتالمتحدة إلى تبني سياسة إصلاح عميقة لقطاع التعليم في سنة 1983 ما تزال مستمرة إلى الآن، علما أن اليابان تنبّهت إلى الأمر قبل ذلك بوقت طويل، وهو ما يسفر كيف أصبح التعليم في عدد من الدول يشكل الاستثمار الحقيقي للدولة والمجتمع، استثمار يعطي نتائج على المدى البعيد، لكنها نتائج شاملة وواضحة، بعيدا عن الأرقام التي يختبئ وراءها المسؤولون في المغرب من أجل «تسويق» نجاحات ظرفية وقصيرة المفعول، مثل نسب التمدرس ونسب النجاح في امتحانات الباكلوريا وأعداد المؤسسات التعليمية. تؤكد عدد من الفعاليات أن المغرب لم يتمكن، إلى الآن، من وضع اليد على مكامن الخلل التي تعتري النظام التعليمي، بعد أن اكتشف المغاربة أن المدرسة خرجت من رحم المخطط الاستعجالي للإصلاح دون أن تملك الطاقة التي تجعها قادرة على النهوض بواقع التعليم، وهو ما تأكد بما لا يدع مجالا للشك بعد الخطاب الملكي الأخير، الذي أكد أن التعليم المغربي ما يزال يشكو من مكامن خلل كثيرة تجعله عاجزا عن إدماج أطفال الوطن في مجتمع العلم والمعرفة.. وأكد رجل تعليم، قضى في المهنة أكثر من 20 سنة، أن البرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم حقق نتائج إيجابية على مستوى تدعيم البنية التحية للمدرسة المغربية وتحسين ظروف الاشتغال والتدريس.. لكن ذلك جاء على حساب أولويات أخرى، أهمهما المناهج التي تم حقنها ب«خلطات غريبة وهجينة»، أسهمت في إرباك رجال التعليم و المتمدرسين، نتيجة اعتماد وصفات جاهزة استهلكت الملايير وتم اعتمادها بالكامل دون أي تحيين يجعلها مطابقة لواقع المدرسة المغربية ولحجم الفوارق بنيها وبينها المدارس الأجنبية التي طبقت فيها هده المناهج بشكل تدريجي.. كما أكد المتحدث نفسه أن المغرب أضاع وقتا طويلا كان بالإمكان استثماره من أجل خلق مدرسة تصنع «حضارة ومستقبل البلد»، في عالم يؤمن بالمعرفة كأقوى سلاح.. مشيرا إلى أنّ أي إصلاح تتبناه الدولة لن يُكتب له النجاح ما لم يرتبط بثورة فكرية لدى العاملين في القطاع، تجعلهم ينخرطون في إصلاح جذري يُخرج المغرب من مراتبه المتدنية على مستوى نسب التمدرس والأمية وملاءمة الشهادات لسوق العمل، ويخلق مجتمعا متفتحا لا تنتهي فيه المعرفة عند حدود الحصول على الشواهد، قبل أن يردف رجل التعليم ذاتُه أن إمكانيات التلميذ المغربي تتجاوز بكثير ما تتيحه له المدرسة والمناهج التعليمية من هوامش لتصريف طاقته.. لذا يلجأ إلى الواقع الافتراضي والأنترنت ليبحث عن ذاته ويكتشف عوالم أخرى أكثر انفتاحا من تعليم ما يزال رهينا بشعار «قرد، بقرة، برتقال»..