«القاضي يجب أن ينأى بنفسه، عن كل ما من شأنه أن يمسّ هيبته ومروءته».. هذا أول وأهمّ خطاب يُمرَّر إلى قضاة المملكة فور التحاقهم بالمعهد العالي للقضاة. هو «الدرس» نفسه الذي يعيد المسؤولون القضائيون تكراره على مسامعهم، غداة لقائهم الأول بالقضاة الملتحقين حديثا بالمحاكم، كما أن القاضي يؤدي القسم على احترام شرف المهنة وعدم الإخلال بمبادئها وصيانة مروءة القاضي، التي تعني أساسا الحفاظ على صورة مثالية تجعله في مكانة مُميَّزة وخاصة بين أفراد المجتمع.. سرد كل القضاة الذين التقتهم «المساء» لائحة من الشروط والقيم والأخلاق والمواصفات التي يفرض على القاضي التحلي والالتزام بها. لهذا، عليه دائما أن يتذكر ضرورة الحفاظ على الهندام الأنيق والمتميز وارتداء البذلات العصرية فقط لا غير، أو على أقصى تقدير ارتداء اللباس التقليدي المغربي (الجلابة).. وتُمنَع على القاضي الإقامة في الأحياء الشعبية والهامشية، ومن الأفضل أن يقطن في حي راق، حتى لا يكون عرضة للمؤثرات الخارجية، التي يمكن أن تساهم في التأثير على عمله، خصوصا أنه يمثل السلطة القضائية في دواليب الدولة ويتمتع بمكانة بارزة داخل المجتمع. ولا تنتهي «لائحة الممنوعات»، التي تحول دون اختلاط القاضي ببقية أفراد المجتمع، الذين سيفصل بينهم عند دخوله المحكمة، عند هذا الحد، إذ يتعين على القاضي التوفر على سيارة خاصة تليق بمكانته، أو في أقصى تقدير ركوب سيارة أجرة صغيرة، إذ لا يجوز أن يذهب إلى عمله مشيا على الأقدام، أو في الحافلات وسيارات الأجرة من الحجم الكبير.. كما تخضع الأماكن التي يرتادها القاضي لمجموعة من الضوابط، فكما سبقت الإشارة إلى ذلك، يفرض عليه الحرص على عدم الالتقاء بالمواطنين أنْ يتجنب الجلوس في المقاهي العادية والمطاعم الشعبية.. ومن المستحسن أن يرتاد مقهى بعيدة بكيلومترات قليلة عن مقر المحكمة، إنْ هو أراد احتساء قهوة أو تناول أكلة في مطعم محترَم، حتى لا يسيء إلى مركزه وعمله. لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يُفرَض على القاضي عدم الدخول إلى الحانات والكازينوهات، ليس فقط لعدم الاختلاط مع أفراد المجتمع، بل أيضا لتجنب التقارير التي يمكن أن تُرفع بشأنه إلى أجهزة التفتيش في وزارة العدل، لهذا يحرص القضاة الذين يتوجّهون، من وقت إلى آخر، إلى الحانات والعلب الليلية على ارتياد أماكن لا يمكن أن يتعرّضوا فيها لأي مضايقات ويحرصون على عدم إظهار هويتهم المهنية، «يجب أن يكون القاضي بعيدا عن أي شبهة، لا يمكن أنه قانونا يصدر أحكاما ضد مواطنين بالسكر العلني وفي الوقت نفسه يتوجه إلى البارات والعلب الليلية.. فماذا لو حلت بغتة فرقة من الأمن الوطني أو نشب شجار داخل هذا المكان؟ ماذا سيكون موقف القاضي؟».. يشرح أحد القضاة في تصريح للجريدة. تؤكد مصادر «المساء» أيضا، أن القاضي مُلزَم بحصر لائحة معارفه في دائرة ضيقة جدا، لا تتجاوز زملاءه في المهنة، وعليه أيضا أن يتجنب حتى استدانة المواد الأساسية من التجار وأصحاب المحلات الغذائية، لكي لا يتعرّض موقعه للتأثير على حياد واستقلاليته في القرارات، «ماذا لو كانت هذا للتاجر الذي استدان منه القاضي علاقة -من قريب أو من بعيد- بحكم سيَصْدُر عن هذا القاضي، ألن يكون في موقع محرج إذا طلب منه التدخل في هذه القضية؟».. هذا بخصوص «الجانب التنظيري»، الذي يتلقاه القاضي أثناء مرحلة التدريب وبعد انطلاقه في مزاولة المهنة.. لكنْ هل يُطبّق قضاة المملكة كل هذه الشروط ويلتزمون بلائحة الممنوعات سالفة الذكر؟ تسأل «المساء»، ليجيب محمد عنبر، نائب رئيس «نادي قضاة المغرب»: «تبقى هذه شروطاً يُجمع الكل على ضرورتها.. لكنْ فينا هي فْلوسها بْعدا؟.. فهذا الخطاب الذي يضع أمام القاضي كل هذه الممنوعات، يضع أمامه أهدافا كثيرة، لكنه لا يهتمّ بتبيان الوسائل الكفيلة بتحقيقها، بل ويمارس ضغوطا على القاضي»، يشرح المتحدث نفسه، متابعا: «لنأخذ مثالا بالفوج الجديد من القضاة الذين أدَّوا اليمين خلال هذا العام، سيتقاضى هؤلاء، قبل أن تسوى وضعيتهم الإدارية والمالية، ما مجموعه 4000 درهم، تخصَم منها حوالي 1500 درهم مقابل التكوين الذي تلقوه في المعهد العالي للقضاء، لتبقى منها 2500 درهم.. وأغلب القضاة ينتمون إلى فئات متوسطة أو شعبية في المجتمع، فكيف تريد له أن يقطن في حي راقٍ بهذا المبلغ الهزيل أو يتجنب الرّكوب في وسائل النقل الجماعية والالتزام بكل هذه الشروط؟».. هنا، يردف عنبر أن «هذا الوضع يجعل من القضاة هدفا أو «لقمة سائغة» للسماسرة، الذين هم على اطلاع بهذا الوضع ويَعرِضون على هؤلاء القضاة الجدد، في كثير من الأحيان سكنا في منطقة معينة من دون مقابل، مثلا، وإذ قبل بهذا العرض، يتصل به مباشرة في ما بعد، من أجل التدخل في قضية معروضة على القاضي، لهذا لا يجب أن يظلّ القضاة لقمة سائغة في أيدي هذه المافيات.. وحتى بعد أن تسوى وضعيته المهنية ويصبح رابته ما بين 8000 أو 9000 درهم بعد التخرج، يكون القاضي قد وقع في شباك مافيات الفساد».. وتساءل المتحدث نفسه: «كيف تخسر الدولة على تكوين القاضي الملايين وعندما يتخرّج «ترميه» وزارة العدل لقمة سائغة لمافيا الفساد؟ حيث يجد نفسه فقيرا وسهلا لقبول إغراءات مادية».. بالنسبة إلى عنبر فإنّ «الحل الوحيد للخروج من هذا الوضع هو الزيادة في أجور القضاة»، معتبرا أن ذلك يمثل مفتاح استقلالية القضاء، خصوصا أن القاضي مُلزَم بالتقيد بمجموعة من الشكليات التي تُعتبَر ضرورية في عمله ولو من الناحية النظرية»، مثيرا الانتباه إلى أن «الدولة مُلزَمة بالنهوض بأوضاع القضاة لكي تنقل الخطاب النظري إلى الواقع بالفعل، وتكفل للقاضي الحفاظ على الصورة التي يحملها المواطن العادي عن القاضي أو القضاة، وعدم الاختلاط بالمواطنين، كما هو مطالب به». وأثار المتحدث نفسه الانتباه، أيضا، إلى أنّ «الدولة توفر لبعض موظفيها من رجال السلطة سيارة الخدمة والسكن الوظيفي وأجرا محترما بمجرد التحاقهم بأماكن عملهم، مع أن أعدادهم تفوق بكثير أعداد القضاة المتخرّجين، بهدف الحفاظ على تجرُّدهم ومكانتهم داخل المجتمع بالنظر إلى جسامة المسؤولية والمهام التي تناط بهم».