يمارسه المئات من سكان مشيخة أولاد ترية بجماعة مكرس، التابعة لإقليم الجديدة، منذ عشرات السنين، وكان يدر عليهم مداخيل محترمة يواجهون بها متطلبات الحياة، لكن الحصير البلاستيكي زاحمه بشكل كبير إلى درجة التهديد بالانقراض. إنه الحصير التقليدي، الذي كان إلى وقت قريب يغزو بيوت المغاربة من الشمال إلى الجنوب، خاصة في البوادي، لكن هذه الصناعة تعيش اليوم تحت وطأة الانقراض في غياب مبادرات لتطويرها وتأهيل المشتغلين بها. وفي غياب التفاتة المسؤولين إلى الأزمة الاقتصادية التي قد تخلفها بالمنطقة. على بعد حوالي 45 كيلومترا جنوب مدينة الجديدة في اتجاه مدينة مراكش، وبالضبط على تراب جماعة مكرس، تتناثر مجموعة من الدواوير التي ارتبط اسمها منذ زمن بصناعة الحصير التقليدي، المعد من نبات «السمار» و»الدوم» و» الشريط» ... الوصول إلى أحد هذه الدواوير التي يقدر عددها بخمسة تقريبا يستلزم قطع بضعة كيلومترات من الطرق غير المعبدة، التي تمت تهيئتها، مؤخرا، عن طريق ما يصطلح عليه ب «البياضة» لفك العزلة عنها وعن ساكنتها، لتسهيل عمليات التنقل للوصول إلى الطريق الثانوية الرابطة بين هذه الدواوير وأقرب «فيلاج» الذي هو مركز سيدي إسماعيل، أو أولاد افرج، ساكنة هذه الدواوير اشتهرت منذ سنوات طويلة بصناعة الحصير التقليدي وبيعه بعدد من الأسواق المغربية بمدن الشمال والوسط والجنوب، قبل أن يغزو المغرب الحصير البلاستيكي الذي خلف وراءه أزمة اقتصادية بهذه الدواوير، التي تعاني أصلا من البؤس والفقر. «المساء» زارت دوار الهيامنة الذي يعد واحدا من بين الدواوير، التي تنشط ساكنتها في مجال صناعة الحصير التقليدي أو «البلدي»، وهي ولاد ترية، بني حسان، أولاد مومن ...وهو واحد من الدواوير التي تعيش على نفس الإيقاع في صناعة الحصير التقليدي، لا يخلو أي بيت من بيوت الدوار من الأدوات والوسائل الخاصة بصنع الحصير. « عمري 57 سنة وملي عقلت وأنا خدامة في الحصيرة «، بهذه العبارة ردت علينا مي عيشة التي فتحت لنا باب بيتها وأطلعتنا على أسرار صناعة الحصير التقليدي، منذ أن كان عمرها ثماني سنوات وأمي عيشة تشغل في هذا المجال، تبدو خبيرة بالمجال وبأسراره، يشتري أبناء الدوار «الكافة» من منطقة زعير نواحي الرباط، وهي شريط الدوم المفتول قياسه حوالي 34 «كامة» حولي 50 مترا، بثمن درهمين ونصف، كما يشتري أبناء المنطقة حزمة «السمار» كذلك من مناطق زعير، وهو أنواع وأجود أنواعه «الغلمية» وهو نوع السمار الجيد ويتميز برقة سمكه، و»البكرية»(الكاف بثلاث نقط) وهو النوع متوسط السمك ثم «ميرة» وهو نوع السمار الغليظ وهو أرخص الأنواع، مي عيشة وبعض أبناء الدوار الذين استقبلونا، يشرحون للجريدة المراحل التي تمر منها الحصير ... مراحل نسج الحصير عندما تعد الأسرة أشرطة الدوم المفتول وحزم نبات السمار تبدأ عملية صنع الحصير» كنسديها» و»نكضدها»، و» نكميها» وهي مصطلحات متداولة بين أبناء المنطقة، والمقصود بها العمليات المرتبطة بنصب «الكباري»(الكاف بثلاث نقط) المخصص لصنع الحصير، والذي يسميه أبناء المنطقة «الكادرة» (الكاف بثلاث نقط)، هذه العمليات تقوم بها كل أسر المنطقة بشكل يومي تقريبا، وهي عمليات تقوم بها النساء والفتيات، فيما قد يساعد الرجال والذكور والأولاد في عمليات إعداد «الدوم المفتول» وتنقية السمار من الشوائب. معاناة كبيرة ومداخيل هزيلة بعد الانتهاء من عمليات نسج الحصير التي تستمر طيلة الأسبوع، الذي قد تنتج فيه الأسرة أزيد من ثلاثين حصيرا صغيرا «السجاد» أو سبعة من الحجم الكبير، يأتي دور الرجال الذين يتكفلون بحمل المنتوج إلى أقرب سوق للمنطقة وهو سوق أربعاء مكرس، هناك يأتي تجار متخصصون في شراء كل ما تجود به المنطقة من أنواع الحصير على اختلاف أحجامها، العملية تنطلق في الصباح الباكر ولا تدوم سوى بضع ساعات، أثمنة الحصير الصغير «السجاد» يتراوح بين 6 دراهم و 10 دراهم للواحدة حسب الجودة ونوعية «السمار» المستعمل في إعدادها، عندما تجمع الحصائر من السوق من طرف تجار الجملة يتكفل هؤلاء ببيعها من جديد لأشخاص يبيعونها بالتقسيط، حيث يقومون بالتجوال عبر مدن المغرب( البيضاء، الجديدة، الراباط، مراكش ومدن الشمال والجنوب)، لإعادة بيعها للمستهلكين الذين يستعملونها كل حسب حاجته. بنفس السوق أربعاء مكرس، تباع المواد الأولية لصناعة الحصير من جديد حزم «السمار» و أشرطة « الدوم» المفتول و كل المعدات المتعلقة بإعداد الحصير، لتنطلق الدورة من جديد بشراء تلك المواد الأولية، وحملها إلى الدواوير، والاشتغال أسبوعا كاملا ثم حملها إلى السوق لبيعها بالجملة وهي الدورة التي يمتد عمرها إلى عشرات السنين بالمنطقة. «مي عيشة» ومعها أغلب نساء وأطفال الدوار، تعبوا من الاشتغال بهذه الحرفة، التي قل مدخولها، لعدة أسباب وعلى رأسها، حسب ساكنة المنطقة، الغزو الكبير للحصير البلاستيكي، الذي عوض الحصير التقليدي وبالتالي قلصت كميات إنتاجه وخفضت أثمنة بيعه، « الله يجعل البركة وصافي « عبارة اختزل فيها محمد، الرجل العجوز الذي قضى عمره كاملا تقريبا في مزاولة هذه الحرفة، قبل أن يستدرك « واخا مابقا مايدار كيشيطو لينا شي ريالات كانعاونو بيهم «. فتح محمد عينيه بالدوار ووجد سكانه يمارسون هذه الحرفة و ظل هو الآخر كذلك ولازال رغم كبر سنه، لكن دوره اليوم يقتصر فقط على جلب المواد الأولية ونقل الحصير إلى السوق لبيعه يوم السوق لجلب قوت أولاده مما تجود به الحصير من أرباح رغم بساطتها، ثمن الحصير الصغير لا يتعدى العشرة دراهم، فيما يتراوح ثمن الحصير الكبير ما بين 90 و 100 درهم حسب الجودة، يؤكد محمد أن كل هذه الدوامة توفر للأسرة الواحدة بكامل أفرادها ربحا صافيا يتراوح بين 100 و 150 درهما في الأسبوع الواحد، «كانقضيو بيها تفاتف السوق» يتابع محمد. بعد أن كان أبناء المنطقة في السابق يوفرون من عائداتها كل مستلزمات العيش..
الدعوة إلى التأهيل و التنظيم
الحديث اليوم في المنطقة عن ضرورة تطوير هذه الحرفة وعدم تركها عرضة للانقراض التدريجي، هناك تفكير في تأسيس جمعيات تنظم عملهم، كما يراهنون على مندوبية الصناعة التقليدية، وغرفة الصناعة التقليدية لدعم هذه الجمعيات وتأهيل المئات من النساء والفتيات والشبان ...الذين يمارسون هذا النشاط. يود هؤلاء، حسب تصريحاتهم، الرقي بهذه الصنعة التي ارتبطت بمنطقتهم، ويطمحون إلى صنع مواد أخرى بالاعتماد على نباتي «السمار» و» الدوم»، لكن غياب التكوين وضعف الإمكانيات وعدم تنظيم الحرفة في إطارات موحدة يجعل العشوائية هي السائدة في هذا المجال، ويترك المئات من تلك الأسر تركن إلى صناعة السجاد البسيط والحصير العادي، الذي يقرون بأن الإقبال عليهما في تراجع يوما عن يوم، وينذر بأزمة اقتصادية خانقة بالمنطقة ككل، على اعتبار أن أبناء المنطقة يعولون على مدخول هذه الحرفة رغم هزالتها للمساعدة في توفير متطلبات الحياة اليومية. كما أسر لنا بعض سكان المنطقة أن بعض من كانوا يشتغلون في هذا المجال هجروه ولجؤوا إلى التسول بالمدن المجاورة، بعد تراجع عائدات نسج الحصير التقليدي بالمنطقة. وحمل سكان المنطقة المسؤولية الكاملة في تدهور مستوى عيش ساكنة المنطقة إلى المسؤولين عن القطاع، الذين قالوا إنهم لا يلتفتون إليهم بالمرة، بل يتفرجون على انقراض حرفتهم.