لا أعرف إن كانت الكتابة لا تزال تعني شيئا في هذا الجو الجنائزي المفتوح على مزيد من «الموت الذكي» بالقنابل الذكية التي تخترق أديم الأرض في غزة، وتقض مضجع الموتى في مقابرهم، وتعصف بالنخيل والصفصافة، وبكل الألوان التي أضفاها الشعر الفلسطيني على المكان الفلسطيني المقدس والنبوي، في بلاد ليست كالبلاد، عامرة بركاب الأنبياء، وبمرور دوابهم وقوافلهم، وبأضواء معجزاتهم وبنور قديسين وصلحاء وملاحم، نذكر منها نحن العرب ملحمة صلاح الدين الأيوبي، وأيضا بالشعراء. وفي كل الشعر الفلسطيني الذي قرأت، كان يعجبني عز الدين المناصرة، كنت أراه على خلاف محمود درويش شاعرا له قوة أخرى، متمكنا من التاريخ العبراني لبلاده، أي التاريخ الفلسطيني الحقيقي، البعيد، الذي يسافر إلى الماوراء و يسائل الأسطورة ويرتقي إلى مستوى الرمز. وفي رعوياته، كان يبدو شاعرا غنائيا قريبا من لغة الشعب الفلسطيني، ومن شعر الأمهات، أولئك الأمهات الفلسطينيات اللواتي جربن الفجائع على مر التاريخ وتغنين بها، في أجمل الأغاني التي قيلت في المناحات، والتي تحولت مع الوقت إلى رمزيات في البطولة وإلى مناسبات للتطريب لا البكاء، والتي تحكي عن بطولة الرجال الذين كانوا يخرجون في الليل الحالك من أجل مقاتلة «الذئب». ولعل الذئبية تهيمن على مناخ الشعر الفلسطيني من شاعر إلى آخر ومن نص إلى نص ومن تجربة جيل إلى تجربة جيل، وأبرع من كتب عن الذئب أو من «استذأب» في الشعر الحديث الشاعر الفلسطيني يوسف أبو لوز، وهو شاعر جيد من أجود الشعراء الفلسطينيين المعاصرين قال عنه الراحل محمود درويش: «أبو لوز مستقبل الشعر الفلسطيني». ليوسف، وهو من قرية «بئر السبع» في فلسطين، يعيش أهله في المخيم في الأردن، ويعيش هو في الصحافة في الإمارات، ديوان شعري بعنوان «خط الهزلاج»، والهزلاج هو صغير الذئب. ومن شدة ولع يوسف بالذئب رباه في شعره من قصيدة إلى أخرى، حتى أصبح الهزلاج ذئبا حقيقا يعوي في الغابة الشعرية، لشاعر فلسطيني لم تبرحه صورة الأرض الأولى حتى وهو في الجهة الأخرى من نهر الأردن. ولأننا كنا نعمل معا على مرمى مكتب، وتجمع بيننا مساراة كثيرة وغربة مشتركة، فقد كان ينتهز الفرصة كلما بقينا رأسا لرأس كي يقرأ علي مقطعا من «هزلاجه» الذي كان بصدد الطبع، بل إنه كان يغافلني في آخر الليل كي يوقظني من تعب العمل، ليقرأ علي في الهاتف مقطعا من مقاطع قصيدته الجديدة، وهي كلها أقمار وسماوات تحلم بأن يأتيها ذئب جائع ويقضمها. وحين كانت تأتيه أحزان ما في ساعات الليل والنهار، كان يصمت وينكمش على نفسه، وقتها تكتسي وجهه ملامح ذئبية.. ذئب بري ضائع في فلوات قاحلة، ذئب صغير في الغابة الكونية، وسط حيوانات مرضى بالطاعون، تقهقه بأنياب من دم في صراعها الأبدي. كتب أبو لوز ديونا شعريا جميلا أصدره في بداية تجربته الشعرية بعنوان «صباح الكاتيوشا أيها المخيم»، لكنه برع في ديوانه الثاني»فاطمة تذهب إلى حقول الباميا مبكرا»، وفاطمة هي زوجته التي ولد منها غسان، والذي سار على درب والده في الصحافة... كنت أقول ليوسف: عن أي حقول باميا تتحدث يا يوسف، أكاد أراهن أنك لم تر حقلا واحدا في حياتك، حينها كان يعترف لي بأنه حرث وحصد في قرية دير الكفير في الأردن. يكتب أبو لوز في إحدى قصائده الذئبية: «ما جعتُ يوماً ولا نبتُ صيداً فمثلي من دون ناب لستُ ذئباً ولكن، تقنعتُ وجهاً لذئبٍ لكي لا تعض حياتي الكلاب».