في كتابه «في مديح الحدود»، يصر الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه على طرح فكرة «الحدود» في الحياة البشرية، وهو بذلك يضع نفسه في مواجهة ما يعرف اليوم ب»العولمة» التي تنهش البشر، وتحول القيم، وتصنع خرائط الدم والنار، وتدفع إلى مزيد من الحروب التي تلتهم كل شيء، وتبقي على تحكم الشركات العابرة للقارات على حساب هويات الشعوب وثقافاتها واستقلالاتها السياسية. يصرخ ريجيس دوبريه، الذي يعتبر مرجعا في العالم للكثير من المفكرين والسياسيين: «من لا حدود له لا مستقبل له». الكتاب غني بالأفكار، وقد صدر مؤخرا مع مجلة «الدوحة» القطرية وترجمته الكاتبة السورية ديمة الشكر، وهو يصر، في خلاف تام مع «الأنتليجانسيا الفرنسية المسيسة» والتابعة للدوائر الرسمية الفرنسية، على ما يعتبره فضائل للتنوع والاختلاف الثقافي والإنساني، رافضا دعاوى العولمة التي تسوق نفسها تحت بريق شعار أن الإنسانية ستكون أفضل بدون حدود، في حين أن العولمة «نفسها تستدعي إقامة الجدران المكهربة والمراقبة عن طريق الفيديو ضد تهديدات»، منها التدفق البشري من الجنوب إلى الشمال. هل هذه استيقاظة المفكر الحر، النقدي، التي نحتاجها اليوم في العالم العربي، وفي المغرب تحديدا، حيث تجري مياه كثيرة تحت الجسر، دون أن يحرك أحد من أعلام الثقافة العربية الأحياء ساكنا، وكأن الأحداث التي تعبر وتمر والدم الذي يسفح لا قيمة لهما في ميزان المصالح والانتفاع البئيس. يطرح دوبريه فكرة في غاية الخطورة حين يؤكد على المفارقة التالية: لماذا تفرض الدول الأوربية قيودا صارمة على تنقل البشر في حين تمنح السلع التي تنتجها حرية مطلقة في المرور إلى الجنوب؟ يقول في كتابه، وهو في الأصل نشر لمحاضرة ألقاها في البيت الفرنس-الياباني في طوكيو عام 2010، إن الحدود «تصمد بتحولاتها وتبقى بتغيراتها، فالثبات بداية الدمار». ومن يستفيد من هذا الوضع؟ يجيب دوبريه: «اللاحدودية محببة إلى المستفيدين منها، وهم ثلاثة أصناف: الاقتصاديون والتقنيون والمستبدون». بالتأكيد، هذا الوضع ينطبق تماما على العالم العربي، حيث يستفيد أصحاب المال والأعمال من فكرة الحدود المفتوحة بتحويل أرصدتهم إلى الخارج، ويستطيع المستبدون أن يجدوا لهم الملاذات والغطاءات الدولية التي تحميهم، تحت مسميات متعددة. وليس أسهل من رسم خريطة بالرمادي للعالم، وفيها سنجد القنابل والمتفجرات والسواطير.. ومنها إفريقيا الوسطى والقرن الإفريقي، الصومال-إريتريا، القوقاز وجنوب شرق آسيا... كشمير... ويبقى النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي المثال الأكثر دلالة على خريطة العالم. واليوم، تضاف إلى هذه المناطق الرمادية، بلدانُ الربيع العربي التي تعبر من وضع سالب يكرس مزيدا من الاستبداد، ويؤدي إلى تدمير المقدرات الوطنية، ويزكي فكرة دوبريه في تحويل العالم العربي إلى أكبر مزرعة استهلاكية على الإطلاق للقنابل والمتفجرات ومعدات الحرب والبضائع، وهذا ما تريده العولمة تحديدا، وهي نجحت في الوصول إلى غايتها بتدمير الحدود الوطنية، حيث يتنقل السلاح والعصابات وينزل الأمن القومي إلى مستوياته الدنيا. يشرح دوبريه الفكرة كالتالي، فإسرائيل تطالب بحدود آمنة معترف بها «لكنها لا تحددها»، وينقل عن الكاتب اليساري الإسرائيلي أوري أفنيري (90 عاما) قوله إن لب السلام هو الحدود وهو «ما لم توضحه أبدا الحركة الصهيونية، فاتحة بذلك المجال لقضم لانهائي للأراضي»، فأول رئيس لوزراء إسرائيل دافيد بن جوريون قام «بمجازفة حين لم يأت في إعلان الاستقلال على ذكر الحدود» في إشارة إلى ما يطلق عليه العرب والفلسطينيون «عام النكبة» سنة 1948؛ ويقول إن ذلك سيتضح في قول رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير: «الحدود موجودة حيث يوجد اليهود لا حيثما يوجد خط على الخريطة». أخيرا، يوجه دوبريه سهام نقده إلى حروب الولاياتالمتحدة على «الإرهاب» التي تقودها تحت شعار «عدالة بلا حدود»، وهذا هو مقتل الرأسمالية في نظره، لأنها تستخف بفكرة الحدود، مستشهدا بمقولة لشارل ديغول يقول فيها: «إن ما سيؤدي بألمانيا إلى الخسارة هو احتقارها للحدود التي خطتها التجربة ورسمها الفكر الصائب والقانون».