من هم الذين يقتلون اللغة أي لغة كانت وليس العربية فقط؟ إنهم الذين يجهلونها ولا يتكلمونها ولا يفهمونها حتى، ويهرولون نحو لغات أخرى في حين هم يهملون لغتهم بدعوى قصورها وتخلفها وعدم قدرتها على استيعاب التطورات التي يعرفها العالم على مختلف المستويات وفي كل القطاعات. فاللغة حية بأصحابها وميتة بهم. والواقع الذي أصبحنا نعيش فيه ليس غريبا فهو نتيجة لهذا الجهل وهذا الاحتقار للغتنا ومن ثم احتقار لأنفسنا وانبطاحنا لمستعمرنا الذي ناضلنا بالأمس من أجل أن يرفع قبضته عن عنقنا ويتركنا نعيش أحرارا. ذهب المستعمر لكنه بقي فينا من خلال زرع لغته فينا وتثبيت من يدافع عنها من أبناء جلدتنا. وإني أرى أن هذا أحد الخطوط الحمراء التي لا تسمح تلك الدول المستعمرة بالمس بها. فمن يفعل ذلك كأنه يعلن الحرب ضد مستعمر الأمس، صديقنا الحميم اليوم الذي يدخل بيوتنا بحذائه. هنا في المغرب لا أحد يمكنه مثلا أن يصيح في وجه سيده: «أنا لا أريد أن أتكلم لغتك، فأنا حر ولي الحق في اختيار أي لغة أريد». لا أحد يمكنه أن يفصح عن ذلك حتى وإن على سبيل المزاح. فالحقيقة أن الدولة المستقلة هي التي تكون لها حرية الاستقلال والاختيار. وهذا هو ما لم يتحقق للبلدان التي عانت من ويلات الاستعمار وعلى ظهرها بنى دوله من خلال استغلال ثرواتها وبشرها. وما دام أن هذه الدول لا تزال تملك من الثروات والعدد الهائل من البشر كي تكون «سوقا «استهلاكية لما تنتجه، فهي من المستحيل أن تفرط في عدم فرض لغتها عليهم. إن اللغة هي الخيط السحري الشفاف الذي يجعلنا ننقاد لمستعمرنا بلا مقاومة مثلما تنقاد الفريسة ل«الضبع». نحن نملك أكبر احتياطي في العالم للفوسفاط ونملك ثروات سمكية هائلة ونملك الرمال ونملك بشرا موكولا له أن يستهلك في المستقبل ما ينتج من تكنولوجيا وسيارات، فكيف بالله يمكن لهذه الدول أن تفرط فينا؟. هذه الدول تعمل بالحكمة التالية: «ما لا يمكن أخذه بالقوة، يمكن أخذه بالحيلة» وهذا ما يفعل مستعمرنا إنه «فرض» علينا لغته ورعى المدافعين عنها منا، إذ أصبحوا أكثر شراسة في الدفاع عنها أكثر من السيد صاحب اللغة. فمتى نتحرر؟ وتصبح لنا الحرية في اختيار اللسان الذي نتحدث به وننفتح به على العالم ؟ ومن هنا جاء ذلنا فذل لغتنا هو ذل لنا. صحيح أن لغتنا العربية تعيش مشاكل، لكن تلك المشاكل ليس فيها هي وإنما في من يتكلمونها وكيف يعلمونها للأجيال. طريق تعليم اللغة العربية الحالي وما يقدم للأجيال من نصوص ومواد وطرق تقديم القواعد .. فيها أشياء كثيرة تستدعي إعادة النظر، بل ويستدعي تعلم اللغة العربية وتعليمها لا بد من خلق ثورة من الداخل فيها وفي ما تنتج، وهذا لن يقوم به الجهلة والأغبياء الذين حتى وإن كتب بعضهم عن بعض قضايا وآفاق إنسانية عرفتها مجتمعات العرب فهم لم يكتبوا عنها إلا من خلال لغة الآخر وخاصة الفرنسية لا لغايات علمية ولكن لغايات مادية واحتفاء بهم. فكم كنت أصاب بالخيبة حينما كنت أنصت لبعض هؤلاء في اللقاءات التي يتحدثون فيها، فكان يبدو جهلهم كبيرا للمواضيع التي كتبوا فيها وطبلوا لها تطبيلا. فهم لم يكتبوا عما عرفته هذه الحضارة من داخلها، أي من خلال الرجوع إلى ما خلفت من تراث باللغة العربية، وإنما هم كتبوا عن ذلك من خلال ما كتب بلغات وسيطة، والأجدر ومن أجل البحث العلمي الموضوعي وشرف البحث أن يكون الباحث متقنا للغته؟ أعجب لمن يكتب عن التصوف والحب الإلهي والشعر والفلسفة العربية وهو لا يزيد زاده من لغة الضاد سوى بضع كلمات. وهذا ليس محصورا في أسماء مغمورة بل هو ينسحب على أسماء اعتبرت فارقة وعملاقة في تاريخنا الفكري والأدبي والفلسفي.. هؤلاء هم أيضا من يساهم في «الجريمة» أفلم يكن من الأجدر الكتابة باللغة العربية، وجعل ذلك الآخر هو من يسعى إلينا ولسنا نحن من نسعى إليه، وإني أستغرب أشد الاستغراب من عربي يكتب بالفرنسية عن مواضيع وقضايا تهم ما يفوق 300مليون نسمة. وبعد ذلك تترجم للعربية. أليس هذا غباء. هؤلاء كانوا سيساهمون في حياة لغتهم من خلال جعل الآخر يتعلم لغتنا ويترجم لها ما أنتجنا. وهذا رافد من روافد حياة أي لغة لغة. فكفى من أن نبقى عبيدا للسيد ونحن ندعي التفكيك والدعوة للحرية والمبادئ الكبرى للمجتمعات الإنسانية..هذا فقط غيض من فيض في بحر لا حدود له .