الكعبي يتألق في أولمبياكوس اليوناني    رسميا.. اكتمال مجموعة المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    الجيش الملكي يُخرج بركان من كأس العرش    الخطوط الملكية تستعد للمونديال برفع أسطولها إلى 130 طائرة بحلول 2030    بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي    تطورات جديدة ومثيرة في أزمة مباراة إتحاد الجزائر ونهضة بركان    كأس العرش لكرة القدم.. الجيش الملكي يبلغ ثمن النهائي بفوزه على نهضة بركان بالضربات الترجيحية 8-7    مجلس جماعة بني بوعياش يعقد دورته العادية لشهر ماي    عمور.. مونديال 2030: وزارة السياحة معبأة من أجل استضافة الفرق والجمهور في أحسن الظروف    تفكيك مخيّم يثير حسرة طلبة أمريكيين    الملك يعزي بن زايد في وفاة طحنون آل نهيان    وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية    حجز زورق ومحركات.. الديستي وأمن الحسيمة يوقفان 5 أشخاص تاجروا بالمهاجرين    العقائد النصرانية    تنفيذ قانون المالية يظهر فائضا في الميزانية بلغ 16,8 مليار درهم    الأمثال العامية بتطوان... (588)    قرار بعدم اختصاص محكمة جرائم الأموال في قضية اليملاحي وإرجاع المسطرة لمحكمة تطوان    مركز دراسات.. لهذا ترغب واشنطن في انتصار مغربي سريع في حال وقوع حرب مع الجزائر    تركيا تعلق المعاملات التجارية مع إسرائيل    أوروبا تصدم المغرب مرة أخرى بسبب خضر غير صالحة للاستهلاك    أنور الخليل: "الناظور تستحق مركبا ثقافيا كبيرا.. وهذه مشاريعي المستقبلية    أمطار طوفانية تغرق الإمارات وتتسبب في إغلاق مدارس ومقار عمل    أول تعليق من حكيمي بعد السقوط أمام بوروسيا دورتموند    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة    ارتفاع حصيلة القتلى في غزة.. واعتقالات في الضفة الغربية    "الأمم المتحدة" تقدر كلفة إعادة إعمار غزة بما بين 30 إلى 40 مليار دولار    أزمة طلبة الطب وصلت ل4 شهور من الاحتقان..لجنة الطلبة فتهديد جديد للحكومة بسنة بيضاء: مضطرين نديرو مقاطعة شاملة    المخزون المائي بسدود الشمال يناهز مليار و100 مليون متر مكعب    فوضى «الفراشة» بالفنيدق تتحول إلى محاولة قتل    مصرع سائق دراجة نارية في حادثة سير مروعة بطنجة    مجلس النواب يعقد الأربعاء المقبل جلسة عمومية لمناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    ندوة بطنجة تناقش مكافحة غسل الأموال    ها التعيينات الجديدة فمناصب عليا لي دازت اليوم فمجلس الحكومة    بايتاس رد على لشكر والبي جي دي: الاتفاق مع النقابات ماشي مقايضة وحنا أسسنا لمنطق جديد فالحوار الاجتماعي    باحثون يكتشفون آليات تحسّن فهم تشكّل الجنين البشري في أولى مراحله    المكتب الوطني للمطارات كيوجد لتصميم بناء مقر اجتماعي.. وها شنو لونصات لقلالش    بذور مقاومة للجفاف تزرع الأمل في المغرب رغم انتشارها المحدود    النفط يتراجع لليوم الرابع عالمياً    طاهرة تودع مسلسل "المختفي" بكلمات مؤثرة        رسميا.. جامعة الكرة تتوصل بقرار "الكاف" النهائي بشأن تأهل نهضة بركان    مؤسسة المبادرة الخاصة تحتفي بمهرجانها الثقافي السادس عشر    البرلمان يستعرض تدبير غنى الحضارة المغربية بالمنتدى العالمي لحوار الثقافات    إلقاء القبض على إعلامية مشهورة وإيداعها السجن    آبل تعتزم إجراء تكامل بين تطبيقي التقويم و التذكيرات    تسرب الوقود من سفينة بميناء سبتة كاد يتسبب في كارثة بيئية    الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    مسؤولة في يونيسكو تشيد بزليج المغرب    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" يعلن عن أسماء الفائزات والفائزين بجائزة "الشاعر محمد الجيدي" الإقليمية في الشعر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الرئيس الكولومبي يعلن قطع العلاقات مع إسرائيل    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    عبد الجبّار السحيمي في كل الأيام!    العربية للطيران ترفع عدد رحلاتها بين أكادير والرباط    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«المساء» تكشف حكايات مأساوية لأطر «سامون» شردهم الإدمان
دركيون ورجال الأمن ومحامون وربابنة وموظفون بالداخلية ورجال أعمال غدر بهم الإدمان وهزمهم بالضربة القاضية مسؤولون حكم عليهم الإدمان بالإقامة الإجبارية بدار الخير مدمنون مشاهير فقدوا صوابهم
نشر في المساء يوم 04 - 05 - 2014

كانوا إلى وقت قريب سادة القرار، سواء في مكاتبهم أو حتى في الحانات والملاهي الليلية المصنفة، قبل أن يغدر بهم الزمن وتخونهم دورته اللعينة، ليصبحوا مواطنين من الدرجة الثالثة. موظفون بالداخلية ورجال أمن ومشاهير كرة ورجال أعمال ودركيون وآخرون لعب معهم الحظ وورثوا كثيرا، غير أنهم انتحروا طبقيا، فبعد أن كانوا يمدون أيديهم لتوقيع القرارات والمحاضر، وجدوا أنفسهم يمدون أيديهم ببطء وفتور من تحت الغطاء لتحسس الكرتون الذي يفترشونه والغطاء البالي الذي يتوسدونه.
قصة محامي معروف يوجد الآن بحي العنق تبلغ عنه أسرته أكثر من مرة رجال الأمن، بعد أن دخل عالم اللاوعي من بابه الواسع، وأصبح مدمن «دوليو»، فبعد أن كان صوته يهز قاعات أشهر المحاكمات، أصبح كأي رجل ستيني متشرد بجسمه النحيل وثيابه الرثّة يجوب الشوارع والطرقات، يستجدي من الناس النقود لشراء ربع لتر من «الدوليو» من «تيران المكسيك بمنطقة «العنق»، وآخر ربان طائرة قاد رحلات لمختلف بقاع العالم قبل أن يتحول إلى مواطن بدون هوية، يوجد الآن بالمركز الاجتماعي تيط مليل بضواحي البيضاء، ومسؤول معروف لم يجد الخير إلا في بناته اللواتي لا يجدن بدا من انتشاله من الأزقة المتاخمة لدرب السلطان من بين المتشردين المسالمين، إضافة إلى دركي مازال لحدود الساعة ينتظر «الكومندار» الذي سبق أن وعده آخر مرة خلال زيارته ل»تيط مليل» بإخراجه من المركز ومساعدته في البحث عن أسرته التي تنكرت له بعد أن طرد من وظيفته وأصبح مواطنا من الدرجة الثالثة.
قصص يصعب سرد كل تفاصيلها بجرة قلم، لأنها تحكي عن سنوات من المجد والمتعة التي انقلبت إلى تشرد وضياع بعد انتحار مجتمعي، وتحكي عن أماكن تجمع موظفين ومسؤولين وكتاب تحولوا إلى متشردين بالعاصمة الاقتصادية، يبيتون ليلا في الأزقة الخلفية لحي درب عمر، ويتخذون من قطع الكارتون بالسوق فراشا، بينما يتدثرون بأغطية رثة يلفونها بقطعة بلاستيكية كبيرة لاتقاء البلل، كما أنهم يتسابقون للظفر بمكان قرب المخابز والأفرنة التقليدية، مازالوا يمرون بزنقة الأمير مولاي عبد الله و ممر «الكلاوي» الذي يتخذون منه مكانا لتجمعهم، لينتهي بهم المطاف بالنقطة الأمنية المسماة 180، والواقعة بالقرب من ملعب «الفيلودروم»، المكان الذي تجمع فيه سلطات المدينة المتشردين قبل شحنهم في «سطافيطات» وإرسالهم إلى مركز «تيط مليل» في أحسن الأحوال.
ألف حكاية وحكاية لأشخاص كانوا أسياد مكاتبهم أصدرت الأقدار في حقهم حكما بالمؤبد، دون أن تطأ أقدامهم دهاليز السجون، ورمتهم نائبات الدهر في محطة أرذل العمر، بعد أن اختاروا عالم «القصارة» والليالي الحمراء وتدرجوا في عالم الليل من الفنادق المصنفة إلى العلب الليلية والملاهي ثم الحانات العادية والحقيرة لينتهي بهم الحال «كويلات» يدمنون «الدوليو» لينعموا بالنسيان.
التنقيب جيدا في حياة الأشخاص وخصوصا المسؤولين ليس بالشيء السهل، ورغم توفر «المساء» على الأسماء اختارت أن تخصص ملفها الأسبوعي لأشخاص تقلدوا مناصب معروفة، كحالة «بوشعيب م»، الذي فقد نعمة البصر، وهو دركي سابق، مزداد سنة 1945 يتهم كولونيلا بارزا في الدرك بكونه سبب معاناته، قال إن تفانيه في العمل ورفضه المشاركة في انقلاب الصخيرات ضد الملك الحسن الثاني كان وراء طرده من سلك الدرك، الأمر الذي جعله مدمنا، لا يتذكر إلا وعد دركية برتبة «كومندارة» سبق لها أن زارته بمركز الخير تيط مليل وأنجزت له بحثا اجتماعيا ووعدته بتقديم المساعدة، لكنها لم تعد أبدا إلى المركز وقال «الكومندارة وعدتني بمساعدتي وقالت لي إن الدرك سيساعدني ومازلت أنتظر».
حكاية موظفين ومسؤولين خرجوا من حياة الترف إلى عتمة مكان أشبه بمحطة انتظار، منهم فنانون ورجال أمن مفلسون، يعيدون ترتيب وقائع تاريخهم ويخفون سحناتهم المهمومة وسط كائنات أخرى، ويبحثون عن سبل التعايش مع متسولين ومشردين بلا عنوان.
مسؤولون حكم عليهم الإدمان بالإقامة الإجبارية بدار الخير
رجال أمن وجنود وآخرون سقطت منهم النياشين وأوقف الإدمان قطارهم بمحطة تيط مليل
زيارة غير عادية لأناس من صنف خاص كانوا من علية القوم قبل أن تتقاذفهم أركان الأزقة والشوارع، من دون عنوان إقامة ولا بطاقات هوية، سلموا أمرهم لخالقهم بعد أن رفعوا الراية البيضاء، معلنين استسلامهم أمام معركة غير متكافئة الأطراف ليصنفوا مواطنين من الدرجة الثالثة.
الحالات التي وقفت عليها «المساء» تتجاوز المتوقع بكثير ويصعب الإمساك بجميع تفاصيلها في صفحات قليلة، فإلى جانب المتسولين المحترفين الذين يملكون عقارات وأرصدة بنكية، هناك مدمنون منذ عقود وآخرون دفعتهم الحاجة وغدر بهم الزمن إلى مد يدهم بعد أن كانوا إلى وقت قريب يصدرون الأوامر والقرارات، كحالة دركي سابق مازال يتأمل شريط ذكرياته بسريره، وينتظر زيارة «كومندارة» سبقت أن زارته ووعدته بإخراجه من دار الخير بتيط مليل.
جدران دار الخير الحمراء تختفي وراءها قصص اجتماعية يصعب سردها بجرة قلم، فمن بين النزلاء يوجد ربان طائرة معروف، غدره الزمن وانتهى به الحال في دار الخير بعد أن تخلى عنه الأهل والأحباب وتنكرت له الزوجة والأولاد، بدأ عالم التيه بالإدمان على الكوكايين حسب رواية أحد المساعدين الاجتماعيين بالدار، وتوالت أيامه في عالم اللاوعي إلى أن وجه له رؤساؤه إنذارين متتاليين نظرا لأنه كان يتغيب عن العمل لمدة شهر أو أكثر دون مبرر، كما تبين أن حاجاته للمال ازدادت، وأنه كان كثير الطلبات سواء من مشغليه أو حتى أصدقائه.
رواية المساعد الاجتماعي تقول إنه جرى التقاطه من حي كاليفورنيا الراقي، والذي كان يدعي ربان الطائرة أنه يملك به فيلا فاخرة قبل أن يوجه له الإدمان الضربة القاضية.
ربان الطائرة الذي يوجد في عزلة استثنائية يعيش على المهدئات ولا يكلم أحدا، حتى أن وفودا زارت الدار أكثر من مرة وحاولت الدخول معه في حوار غير أنه رفض.
تقول الرواية الوحيدة بالمركز أنه كان زوجا لأجنبية ووالدا لابنين لم يتجاوزا عقدهما الأول، غير أن سفرياته الكثيرة ووجوده خارج أرض الوطن جعلت المشاكل الأسرية تطفو إلى السطح، ما عجل بدخوله دائرة الإدمان المصنف عبر تعاطيه بشكل غير منظم مخدر الكوكايين عن طريق أحد معارفه الذي كان يقيم بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن جرى طرده من شركة الطيران التي يعمل بها رفض العمل بأي مكان آخر، وبعد أن هاجرت زوجته إلى فرنسا احتجاجا على وضع زوجها الجديد، لم يجد ربان الطائرة السابق غير التمادي في الإدمان ودخول بوابة مخدرات أخرى ابتدأت بالخمر والليالي الحمراء، وانتهت ب»الدوليو» قبل أن يفقد ربان الطائرة صوابه، ليحتفظ بسره الحقيقي معه.
ربان الطائرة ليس الحالة الوحيدة بل هناك آخر معروف اسمه محمد صابر، حط منذ عقد من الزمن بمرقد في دار البر والإحسان بمراكش. كان الرجل قبل هذا التاريخ من أمهر الطيارين في السلاح الجوي، قبل أن يغادره صوب الطيران المدني، إلا أن القدر كان يخبئ له نهاية مفجعة، بعد أن تعرض لحادث سير أنهى مساره المهني، وحوله إلى أجير سابق يطارد عبر ردهات مصالح المعاش وحوادث الشغل تعويضات معطلة، وفي أحسن الأحوال مجرد قطرات تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة.
حكاية النزول الاضطراري للطيار الحزين في «قاعدة» دار تعنى بشؤون المسنين المتخلى عنهم، تعود إلى عشر سنوات، حين أصيب الطيار في القوات الجوية بعاهة مستديمة أنهت مساره المهني.
بدار الخير الجميع يعرف حكاية طبيب، تحول إلى مختل عقليا بعد أن هزمته دواليب الحياة الصعبة وتخلى عنه الجميع، ليجد الدار خير مكان يقضي بها باقي أيام حياته، الطبيب يعاشر مشردين ومدمني «دوليو» وقبل أن يلتحق بالدار تبين أن بداية إدمانه كانت عبارة عن أقراص مهدئة، ليتطور الأمر ويصل إلى أقراص مهلوسة، ويقال عن الطبيب أنه أدمن المخدرات وعاش مشردا لأيام، بعد أن فقد وظيفته وأسرته التي راحت ضحية حادثة سير.
كما يوجد بين النزلاء جمركي، ومهاجرة، كانت إلى وقت قريب بالديار الفرنسية، قبل أن تضيع ثروتها. وموظف بوزارة الداخلية، لم تسعفه الظروف للعيش بين أولاده وأسرته فقادته الأقدار للانزواء بصمت فوق سرير بدار الخير.
داخل أحد الأجنحة التي تغلق أبوابها الحديدية بسلاسل وأقفال كان شاب في الثلاثينات من عمره، يجلس إلى سرير، خلفه يضع نسخة من القرآن الكريم، علقت وراءها صورة للملك محمد السادس.
قال هذا الشاب الذي يحمل وجهه ندوبا غائرة والذي اشتغل إمام مسجد لمدة طويلة، إنه ازداد بدرب السلطان، مضيفا أن والده تخلى عن أسرته وغادر نحو مدينة أكادير ليكون الشارع نصيب إخوته، أما والدته فكانت تحترف التسول لتتمكن من إطعامهم.
الشاب مل حياة الشارع وإدمان «الدوليو» والتسكع، ففضل الإقامة بدار الخير، معلنا استسلامه أمام شبح لقمة العيش.
القصص كثيرة ومختلفة، وموظفو دار الخير اعتادوا سماع مآسي أشخاص تجرعوا مرارة غدر الزمان، كقصة إبراهيم الروداني، الملقب ب «شيشة»، الذي شاءت الأقدار أن ينتهي مشواره الرياضي داخل دار الخير عن عمر يناهز 80 سنة، بعد أن أفنى عمره في كرة القدم، حيث مارس ضمن فرق منها الوداد البيضاوي والجيش الملكي.
تقول إحدى الموظفات بدار الخير، المرحوم «شيشة» أحيل على دار الخير بتاريخ 6 أبريل 2009، من طرف وحدة المساعدة الاجتماعية التابعة لعمالة أنفا، في إطار حملة لمحاربة التسول والتشرد، إذ جرى انتشاله من ميناء الدار البيضاء على «كرسيه المتنقل»، كونه يعاني إعاقة.
اللاعب الدولي الذي كان يشاهد جميع مباريات كرة القدم، بدار الخير، بشغف طفولي، كانت الابتسامة لا تفارق محياه، وكأنها ابتسامة المنهزم الذي يأبى أن يعلن استسلامه حتى لا يحسس عدوه بنشوة الانتصار.
«شيشة» انتهت قصته وراء جدران دار الخير، دون أن يرى ابنته المقيمة بفرنسا، أو أي أحد ممن كانوا يهتفون وراءه فوق المدرجات، في حين مازالت فاطمة الملاح البالغة من العمر 62 سنة، بجناح النساء، الذي توجد به 62 امرأة، بعضهن رحلن من المركز القديم المسمى «العنق» وهن نزيلات بمركز الخير لتيط مليل منذ افتتاحه، فاطمة تتقاسم مع «شيشة» الكثير من الأشياء، فهي بدورها تخلى عنها أبناؤها المقيمون بفرنسا، وذات صباح وجدها عمال المركز أمام باب دار الخير، مخدرة وفي حالة يرثى لها، دون أن تعلم من أراد التخلص منها بتلك الطريقة.
فاطمة الآن في صحة جيدة ورغبتها الوحيدة أن لا يعلم أحد بخبر وجودها وراء جدران دار الخير بتيط مليل، خاصة بالذكر أبناءها القاطنين بفرنسا، «الله يخرجنا من دار العيب بلا عيب» تقول إحدى المساعدات الاجتماعيات.
هنا محطة نهاية المدمنين
هنا دار الخير تيط ميليل، التي جرى افتتاحها منذ أزيد من عقد من الزمن، بالجماعة القروية سيدي حجاج وادي حصار، التابعة لإقليم مديونة. مساحة المركز تتجاوز 8 هكتارات وطاقته الاستيعابية تتجاوز 960 مستفيدا أو معدما قادتهم دورة الزمن اللعينة أو الإدمان غير العادي إلى بنايات المركز الحمراء.
قبل أسبوعين كان بدار الخير أزيد من 600 نزيلا، من بينهم مختلون عقليون ومشردون ومتسولون وقاصرون ونساء لا يملكن من حطام الدنيا شيئا يتباهين به أمام نظيراتهن.
المكان يبدو نظيفا وشبيها بالإقامات الصيفية ذات المواصفات الجيدة، فالمركز عرف تغيرا شاملا، قطع بالكامل مع ما كان في السابق، ويشغل مساحة واسعة تضم بنايات كثيرة، عبارة عن أجنحة يقيم فيها النزلاء وتحف بها حديقة جميلة ومعتنى بها.
تكفيك جولة صغيرة بعدد من الأجنحة ليتضح لك بالملموس أنه لا وجود لمساعدين اجتماعيين، ولا أشخاص لهم تكوين في المجالات النفسية، ماعدا الطبيب النفساني الذي يوجد بالمركز، ورغم أن مسؤولا بالمركز حاول إضفاء صورة أخرى عليه، إلا أنه يبدو أن عوائق كثيرة تحول دون ذلك، منها أن الجهات الوصية مازالت تخلط بين البعد الاجتماعي للمركز الذي يسعى إلى تقديم المساعدة للمدمنين بكل أصنافهم والمهمشين والمرضى النفسيين والمتسولين، والمقاربة الأمنية التي لم تتخلص تماما من نظرتها للنزلاء باعتبارهم يوجدون في مكان لا يختلف كثيرا عن السجن، وغالبا ما يدخل المركز نزلاء مصفدون في حالة هستيرية، يصعب التعامل معهم أو مساعدتهم اجتماعيا، ما يضطر العاملين بدار الخير، إلى إعطائهم أدوية مهدئة أو حقن ومنحهم ملابس جديدة، وإطلاق سراحهم، ليعودوا إلى أزقة المدينة القديمة الضيقة أو «كراجات درب الكبير» التي تعتبر ملاذا لعدد من المعدمين والمشردين.
العديد من النماذج يمكن وضعها في خانة رجال ونساء دور المسنين المفلسين، الذين قادهم الإدمان إلى النهاية، ففي دار الرعاية لفئة تابعة للجمعية الخيرية لعين الشق بالدار البيضاء، كانت ثريا تحظى بضيافة استثنائية، لأنها ليست مجرد نزيلة عادية التقطتها حبال دورية الأمن بعد إدمانها، بل تعتبر من أشهر صاحبات مدارس الحلاقة في الدار البيضاء، صففت شعر أكبر الفنانات والأديبات وربات البيوت في العائلات المخملية، قبل أن يصدر القدر في حقها حكما بالمؤبد الخيري. وفي الجديدة هناك حالات مماثلة لأسر ثرية اختارت المنفى الاضطراري في دار المسنين بسيدي الضاوي قبالة المحيط الأطلسي، وهلم شرا من الحالات التي فقدت زينة الحياة الدنيا.
يرى مسؤول سابق بدار الخير بالعنق، والذي عايش فترة تجميع عدد كبير من المسنين في المعرض الدولي بالدار البيضاء أولا، قبل أن يحالوا على مركز العنق، الذي كان مجرد مصحة للأمراض العقلية، أن العديد من الشخصيات تخفي هويتها الحقيقية حين ينتهي بها المطاف في دار للمسنين، خاصة إذا تعلق الأمر بفضاء يختلط فيه المعتوهون مع الأسوياء، وهناك بعض المبدعين الذين أصيبوا باختلالات عقلية فضاعت هويتهم الحقيقية، بعد أن سقطوا في حالة اكتئاب مزمنة، وعاشوا نوعا من العزلة بعيدا عن رابطة القرابة العائلية.
«حين يضم فضاء كالعنق أزيد من 500 حالة من السوي إلى المعتوه، من الشريف إلى النذل، من المجرم إلى البريء، من سن المراهقة إلى ما فوق مائة سنة، ويكون الهاجس الأمني وليس الاجتماعي هو المسيطر، فإن هوية العديد من النزلاء تضيع في زحمة معيش يومي يحصر البرنامج في النوم والأكل وإدمان المخدرات».
ابنة «القايد» وعبدالسلام «لامارين» وآخرون
استيقظ جنون امرأة على الرغبة في جلد حافلة للنقل الحضري متوقفة في محطة بحي بورنازيل، في الدار البيضاء، بينما الركاب يتهافتون على الباب في معركة السعي إلى الفوز بموطئ قدم، انهالت المرأة متوسطة العمر، الأسيرة في جلبابها الأزرق والتي أحدثت قطيعة مع عالم «العقلاء»، على مؤخرة الحافلة بكيس تحمل فيه قنينة صغيرة من «الدوليو» وما تحسبه أغراضها، وبعصا قد يكون لها فيها كل المآرب، بحساب أمثالها ممن تخطوا الخيط الدقيق الفاصل بين العقل والجنون.
استمر الجلد إلى أن امتلأ جوف الحافلة فأقلعت نحو مسعاها، لتعود المرأة إلى جمع محتويات الكيس التي تناثرت بفعل الضربات المتكررة على المعدن الحامي للمحرك.
أما من تبقى من الحضور في المحطة، فلم تخرج تعاليقهم على المشهد عن المعهود أمام ما يقع خارج نطاق المتعارف عليه في عالم «الأسوياء»: مسكينة، الله يستر، اللي ما خرج من الدنيا ما خرج من عقايبها....
ردود تعكس الشفقة في أحسن الأحوال، ولا تخفي نزعة أنانية دفينة تروم سلامة الذات وتتجاهل مصير الآخر في عزلته المرضية، دون أن يعرفوا أن الأمر يتعلق بابنة عائلة ميسورة كان يعيلها قائد معروف بمنطقة الغرب، وأن فاطمة التي تفترش الأرض وتلتحف السماء كانت موظفة بإحدى الجماعات المحلية، قبل أن تقلب مشاكل أسرية حياتها، بعد أن تزوج «القايد» بامرأة أخرى وتوفت والدتها، لتبقى وحيدة غير قادرة على مواجهة مرارة الحياة، الأمر الذي جعلها تنتحر طبقيا لتصبح تنتمي إلى فئة المجانين، علما أن قصتها يعرفها جيدا أبناء حي بورنازيل بالدار البيضاء، وخصوصا الذين تجاوزوا عقدهم السادس.
في الحي نفسه الذي ترعرعت فيه «فاطمة» يعيش عبد السلام «الصامت» ومصطفى «لامارين» وحسن «القصير»، وجوه تعلو أجسادا ألف السكان وجودها منذ شبابها الباكر إلى دخولها مرحلة الكهولة المتقدمة. فعبد السلام الذي لا يكاد يُعرف لصوته هوية يلازم، بقامته الطويلة، مكانه في زاوية زنقة، لا يغادره إلا لشراء سيجارة بالتقسيط عندما يتوفر له ثمنها من كرم بعض المتعاطفين، ثم يعود لالتهامها منتشيا في عزلته الصامتة، و»مرفوعا» بفعل المهدئات التي تخلصه مداومتها المنتظمة من صراخه الليلي، عبد السلام لا أحد يعرف سر إدمانه المهدئات وأشياء أخرى، إذ تتناسل الروايات حوله، فهناك من يعتبره كان مسؤولا بوزارة العدل، وهناك من يقول إنه كان من المعتقلين السياسيين، الأمر الذي جعل سنوات وراء القضبان تفقده صوابه.
يختلف مصطفى عن عبد السلام بكونه أقل تقدما في السن، إلا أن ما يميز جندي البحرية السابق هو ميل جسده الطويل إلى الانعطاف نحو الخلف، جهة الظهر، وليس إلى الأمام، ضدا على قانون الجاذبية، بفعل حرص صاحبه على المشي مبرزا صدره إلى الأمام ودافعا برأسه إلى الوراء. هو جار لعبد السلام من حيث مكان سكن الأسرة، لكنه رحل عن الحي إلى فضاء آخر غير بعيد، بعد أن فقد صاحب مقهاه المفضل صبره بسبب تحطيم الكثير من الكراسي، بسبب هواية مصطفى التي تتمثل في الإلقاء بكل ثقل جسده إلى الخلف مما يؤدي إلى ارتطامها بالأرض فيزعج ذلك الزبناء، الكل يقدر عبد السلام الذي يعتبر من مشاهير الحي المحمدي، نظرا لأيام العز التي قضاها حين كان جنديا بالبحرية الملكية، فالكل يعرف أن عبد السلام «لامارين» كان عاشقا لليل وصخبه، يقضي نهاره في الحانات الصغيرة بمركز المدينة وليله بالملاهي الليلية بالشريط الساحلي عين الذياب، حتى أن الكل يردد أن سبب جنونه هو سم دس له في كأس «ويسكي» بعد أن انتقمت منه إحدى بنات الليل التي كان يتكلف بها خلال السهرات، إضافة إلى أدائه واجب كراء مسكنها ولباسها.
تدهورت حالة عبد السلام «لامارين» بعد أن طرد من العمل نظرا لغيابه المتكرر وتعدد أعذاره وعدم القيام بمسؤوليته، إذ رفض تقبل الأمر الواقع وبقي متشبثا بأيام عزه رغم إفلاسه، الأمر الذي جعله ينتحل صفة ضابط في الأمن ليبتز أصدقاء قدامى له، ما أدى بسرعة إلى اعتقاله وسجنه لمدة عامين بالمركب السجني عكاشة، الأمر الذي جعله يخرج فاقدا لصوابه ومدمنا على «الدوليو» لتنتهي قصته مشردا، بعد أن كان رجلا من رجال الدولة.
لكل حي في العاصمة الاقتصادية للمغرب نصيبه من المدمنين والحمقى المشردين أو أنصاف المشردين، والغالب أن الدار البيضاء تضم أكبر عدد من هؤلاء المرضى بالقياس إلى عدد السكان. إلا أن أي مدينة لا تخلو من حالات، قد تزيد أو تنقص حسب الفصول والظروف، لنساء ورجال ومراهقين قذف بهم الإدمان أو المرض إلى عالم المعاناة المزدوجة بين الجنون والتشرد.
وحتى في المدن الصغيرة والقرى، حيث يفترض استمرار حد أدنى من روابط التضامن الاجتماعي، يألف المسافر وجوها ثابتة في المكان والزمان، في محيط المقاهي والمطاعم الواقعة على الطريق الرئيسي، تقتات على بقايا طعام الزبناء العابرين، وتؤثث المكان بوجودها الواقع خارج أي اهتمام، كما تحاك قصص غريبة حول هؤلاء الأشخاص وكان معتوه شهير قد عرف بالترحال والتنقل بين عدة مدن، من فاس إلى الرباط ومراكش، يجلس في أماكن عامة، ويقرأ نشرات أخبار غاية في الجدية، مقلدا مذيعي هيئة الإذاعة البريطانية حتى عرف باسم «هنا لندن».
هذه مجرد «عينات» من حمقى مشردين، إلا أنهم مسالمون عموما، خارج نوبات هيجان طارئة، إما لغياب مفعول الدواء المهدئ، أو لافتقاد الحصة المعتادة من الكحول، إن لم يكن الأمر بسبب استفزاز من «عاقل».
نهاية إدمان أي مسؤول تبدأ باختلاطه بالطبقات الدنيا وتنتهي بالانحدار الفكري والانحدار المجتمعي
اعتبر إبراهيم عبد الحليم، المعالج النفساني، أن الإدمان ظاهرة اجتماعية عامة، لا تشمل الفقراء فقط، بل جميع طبقات المجتمع، بما فيها الطبقات العليا والطبقات الدنيا والطبقات البورجوازية، والمثقفة، وحتى الطبقات التي لا تمتلك ثقافة معينة، مشيرا إلى أنه من هذا المنطلق نجد أن الإدمان هو أن يعتاد الشخص على أن يتناول مادة معينة، بحيث يصبح لها تركيز في الدم لا يمكن أن يستغنى عنه، ويحاول دائما تعويض هذا التركيز، ومع مرور الوقت يزداد احتياجه إلى تركيز أكثر وكمية أكبر من المادة التي أدمن عليها، والمدمن عادة لا يسلك طريق الإدمان مباشرة بل يسلكه عن طريق الخطأ، فعندما يحتاج الطالب أو الأستاذ مثلا لزيادة التركيز الذهني لديه يقول بعض المقربين منه الذين تكون لهم دوافع عدوانية، عليك أن تتعاطى بعض الأدوية التي تكون في شكل مخدرات سواء عن طريق الشم أو الحقن أو الشرب أو الأكل، ويبدأ الشخص في تناول هذه المواد، ففي البداية يشعر بنشوة أو انتشاء ويشعر بأن كلام المقربين منه حقيقي، ليستمر في الدائرة ويزيد من معدل الجرعة لتزداد النشوة كلما ازدادت الجرعة، دون أن يفطن أنه لن يستطيع الاستغناء عن المخدر، والشيء نفسه بالنسبة لكافة مستويات الحياة مثل طبقات الرؤساء والمسؤولين عن الشركات أو الرؤساء القائمين بالأعمال الإدارية أو أي مسؤول عن فئة معينة، يبدأ الطريق بهذه الطريقة أو بمحاولة الخروج من الروتين اليومي لهذا الشخص في شكل حفلات مصغرة، حيث يتعاطى كافة أنواع المخدرات لإشعال الرغبات الحسية لديه بما فيها الرغبات الجنسية، والتي تبين أن المادة التي تسبب الإدمان تكون سببا في زيادة الانتشاء، ويستمر الحال بزيادة الإدمان والجلوس مع طبقات أقل مستوى، حيث يمكن لهذه الطبقات الدنيا أن توفر لهم المواد بصورة أكثر وبأثمنة أقل. وفي الغالب يكون المسؤولون عن الحفلات من الوسطاء لدى تجار المخدرات، ونتيجة اختلاط المسؤول بهذه الطبقات الدنيا يبدأ في الانحدار الفكري والانحدار المجتمعي، ويتصادف أن يطلب هذا الشخص القائم بتوفير المواد المخدرة بعض الخدمات من المسؤول، فيدعن الأخير لمطالبه أيا كانت، ويتعود على إهمال عمله، بالإضافة إلى تقاضي الرشاوى، ثم تتعثر خطواته الوظيفية، وكل هذا ينعكس على حياته الشخصية بما فيها حياته العائلية، ويصاب المجتمع بتصدع نتيجة أن المسؤول الذي كان يجب أن يكون قدوة حسنة يحتدى به، ينزل إلى الحضيض ولا يستطيع أن يقوم بمسؤولياته، ويخشى من كل فرد من أفراد المجتمع أن يكشف أمره أو أن يتعرف إلى أسراره، وبهذا يحدث تخلخل في الطبقة الاجتماعية ويختلط الحابل بالنابل. وقال المعالج النفسي إبراهيم عبد الحميد، إنه ينتج عن هذا الانحطاط الأخلاقي والفكري والاجتماعي بعض الكوارث والصدمات النفسية، ويكون الشخص عرضة للتمزق النفسي، والتمزق النفسي يبدأ من الاعتكاف والانعزال على الناس، وينتهي إلى مراحل أشد قسوة وهي الانتحار، ولذلك نجد أن الكثير من الحالات من الذين ظلوا الطريق وهم في القمة، تكون نهايتهم الانتحار في غرف مغلقة منعزلة أو بالشارع حين ينتحرون طبقيا، حتى أن الناس لا يشعرون بانتحارهم إلا بعد مرور عدة أيام أو انبعاث رائحة كريهة.
ابراهيم عبد الحليم ** معالج نفساني
مدمنون مشاهير فقدوا صوابهم
بعيدا عن ردهات جناح36 ورهبة أجوائه وكل ما يضم في جوفه، هناك مجانين يحتضنهم الشارع، ويتكفل بإطعامهم وإسكانهم تحت الشجر أو فوق الحجر، الحديث عن مجانين الشارع وتوهمهم واعتقادهم أنهم رجال شرطة مهمتهم تنظيم حركة المرور، يقودنا إلى مجنون معروف بالدار البيضاء بلقب «الشاف» يقف في شوارع تشهد ازدحاما في حركة السير، لينتحل صفة شرطي المرور بصفارته المعهودة، التي تساعده في تنظيم حركة السير بكل من شارع الزرقطوني وإبراهيم الروداني. والغريب في الأمر أن «الشاف»، الذي يقف أحيانا عاريا كما ولدته أمه، ينجح في تنظيم حركة السير، في حال امتثل لأوامره السائقون أصحاب العقول.
إضافة إلى «الشاف»، الذي أصبح معروفا لدى رجال الأمن وعناصر وحدات المساعدة الاجتماعية التابعة للمركز الخيري تيط مليل هناك «مجينينة»، الذي يقضي معظم أيامه في التجول وسط أحياء المدينة القديمة والشوارع، حيث يعرفه الكل هناك.
سبب شهرة «مجينينة» يعود إلى طبيعته المزاجية والمتقلبة، إذ أنه كثيرا ما يحاول كسر زجاج السيارات وتهديد المواطنين، قبل أن يدخل في حالة ضحك هستيري مرددا بأعلى صوته «واش أنا مسطي».
في حالات أخرى لا تقل غرابة عن سابقاتها، قادتنا إلى العنق القريب من حي بوركون الراقي، وجدنا مختلا عقليا يتطوع لتنظيف شوارع وأحياء المنطقة، وآخر «يحرس» ممتلكات قاطني السور الجديد القريب من مسجد الحسن الثاني، وهو العمل الذي يقوم به هذان المجنونان منذ الصباح الباكر حتى ساعات متأخرة من الليل.. وهو ما يوحي بسلامة عقلهما أو يدفع البعض ممن يعرفونهما إلى الضحك، أو إعادة النظر في تعريفه لمفهوم الجنون.
محامي معروف بحي العنق غالبا ما تبلغ عنه أسرته الصغيرة بين الفينة والأخرى، الأمر الذي يجعل رجال الأمن يتكلفون باعتقاله وإحالته على الجناح 36 رغم أن الجميع يعرف من خلال نقاشه مع الأطباء أو رجال الأمن أنفسهم أنه عاقل ومثقف شرده الإدمان.
الدار البيضاء، حسب مصادر متطابقة التقتها «المساء» تتربع على خارطة الجنون، وتضم بين سكانها أزيد من 1100 مجنون بدرجات متفاوتة من الجنون يجوبون المدينة بكل حرية، ويعيثون في أحيائها ترهيبا للمارة وللنساء والأطفال. والغريب أن خارطة انتشار المجانين محددة بوسط المدينة، التي تتحول كل ليلة إلى مستشفى مجانين بالهواء الطلق.
«المساء» تزور معاقل مدمنين مصنفين بالبيضاء
رجال ليل أفلسوا وودعوا حضن «البارات» ليستقروا بحديقة لارميطاج والجناح 36 ومركز المدينة
مباشرة بعد ولوج البوابة الرئيسية لحديقة لارميطاج، تظهر أوراق الأشجار فوق الرصيف وقد مزجت ببعض الأزبال، التي تنبعث منها رائحة نتنة رغم وجود الحاويات المخصصة لهذا الغرض، يطغى اللون الأخضر على قضبان الحديد التي تشكل ستارا حاميا لهذا المتنفس من بعض المدمنين أو المتشردين، الذين كانوا يقبلون عليها من أجل المبيت أو تناول المخدرات، قبل أن يقل عددهم بعد إعادة تهيئة الحديقة.
أحد أبناء درب السلطان الذي يعتبر مسؤولا متقاعدا بإحدى المديريات التابعة لوزارة المالية يحفظ دهاليز درب السلطان وأزقته، وحتى أسماء أغلب الأشخاص المعروفين، الذين كانوا إلى وقت قريب يتقلدون مناصب ووظائف بالدولة، قبل أن يتحولوا إلى مواطنين بدون هوية، يقدم لهم العزاء وهم على قيد الحياة.
مراقب عام بإحدى المديريات المعروفة التابعة لوزارة المالية، لا يمكن التعرف عليه الآن من خلال سحنته وهندامه وقنينة الربع لتر من «الدوليو» التي يحتضنها كطفل صغير يخاف عليه من نزلة البرد، كان إلى وقت قريب سيد القرار، بل المتحكم في عدد من رجال مراقبة الحدود التابعين للوزارة، قبل أن يدخل عالم اللاوعي والسهرات الحمراء المكلفة.
رافق بنات الليل بداية الأمر في الفنادق المصنفة وتمادى في استهتاره بعمله والمسؤولية الملقاة على كتفه، حتى أن أهم القرارات كان يوقعها بمنزله، بعد أن كان أحد المساعدين ينقلها مباشرة إليه، نظرا لأن المسؤول كان رجل ليل بامتياز ليترك النهار للنوم فقط.
استمر الحال لرجل الليل لأكثر من 5 سنوات، لينتهي الأمر بطرده من وظيفته بعد أن توالت الشكايات وزاد الاستهتار بالمسؤولية عن حده، ونظرا لأن أصدقاء الليل هجروه بدون رجعة بعد بزوغ فجر أيام الصحو، تأزمت نفسية المسؤول الشهير بحديقة لارميطاج وبالأزقة المجاورة بمحطة القطار مرس السلطان، الأمر الذي جعله ينتحر طبقيا ويدمن الحانات الحقيرة، قبل أن يعلن استسلامه أمام معركة غير متكافئة الأطراف بعد أن باع منزله ونصيبه في الإرث، ليلتحق بطابور المدمنين المشردين بدرب السلطان الحي الشهير بالدار البيضاء.
حالات حديقة لارميطاج كثيرة ويصعب سرد جميع قصصها بجرة قلم، لأن المعنيين بالأمر لا يتكلمون كثيرا، فأغلب المدمنين بالحديقة أصيبوا باختلالات عقلية، فضاعت هويتهم الحقيقية، بعد أن سقطوا في حالة اكتئاب مزمنة، وعاشوا نوعا من العزلة بعيدا عن رابطة القرابة العائلية.
حديقة لارميطاج التي تعد واحدة من أقدم حدائق مدينة الدار البيضاء، والتي أسست بين سنتي 1917 و1920، وهي ثاني أكبر حديقة في المدينة، بعد حديقة «الجامعة العربية»، بمساحة تقدر ب14 هكتارا، تعد مكانا يحمل في جوفه نهاية قصص مأساوية لموظفين بالدولة وفنانين ورياضيين معروفين قدر لهم أن ينسوا، وأن يعيشوا وسط هذه الحديقة التاريخية التي تتاخم أحياء شعبية عديدة، منها أحياء درب السلطان الفداء، وأحياء «لارميطاج»، ودرب الطلبا، ودرب الشرفاء، والرياض العالي وغيرها.
الحديقة التي أعيدت تهيئتها بما يناهز 40 مليون درهم في فترة زادت عن ثلاث سنوات من العمل، مازالت الملاذ المفضل للمدمنين والمشردين رغم وجود حراس بها بين الفينة والأخرى.
يقول ابن درب السلطان والإطار السابق بوزارة المالية أن أسماء كثيرة مرت من الحديقة التي كانت ومازالت معقلا للمدمنين الذين غدر بهم الزمن، بعد إزالة الملعب الذي كان معروفا في السابق باسم «الشيلي»، والذي مارس فيه كرةَ القدم نجوم كبار، أمثال الظلمي واسحيتة والحداوي والنيبت.
فالكثير من هؤلاء المدمنين اختفى في ظروف غامضة، وآخرون مازالوا يجهرون بإدمانهم حتى أن موظفا سابقا معروفا انتشلته ابنتاه من جلسات المشردين والمدمنين، إضافة إلى آخر ترك وظيفته بوزارة المالية وباع عمارة بشارع رحال المسكيني، ليمنح أمواله هبة لمؤنسات الليل اللواتي يتفنن في الحصول على نصيبهن بالرضا والابتسامة، حتى تنتهي القصة بالدراما المعروفة.
ومن بين المدمنين الذين تتداول قصصهم بالحي الشعبي درب السلطان أحد رجال الجمارك، الذي كان إلى وقت قريب سيد القرار وصاحب الكلمة الأخيرة في عدد من الملفات المحالة عليه، قبل أن يتمادى في لعب دور البطولة في عالم الليل ليبدأه بالفنادق المصنفة، ثم الملاهي العادية لتليها الحانات الحقيرة وبعدها الشارع، الذي يكون آخر الحكاية بعد توقف مسلسل الجاه والمال.
تفاصيل زيارة خاصة لجناح 36
يمكن أن تراهم في كل مكان، يتجولون معنا رغم أنهم بمثابة الخطر المتحرك، يمرضون ولا يشتكون، يأكلون من المزابل، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، تحتضنهم الشوارع وترفضهم المصحات العقلية، وهم ببساطة مدمنون من نوع خاص توقفت رحلتهم بجناح 36.
زيارة خاصة لجناح 36 بمستشفى ابن رشد، لاستطلاع أخبار أساتذة وأطباء ورجال أمن وموظفين دخلوا عالم الجنون، والمصحات العقلية.
الدخول إلى ردهات جناح الأمراض النفسية والعقلية المعروف ب 36 ليس سهلا، فالمهمة تطلبت منا التنكر وانتظار أحد معارفنا إلى حدود الحادية عشرة ونصف ليلا، لاقتحام عالم الجنون من الباب الحديدي الذي يقف أمامه أحد رجال الأمن الخاص.
كواليس عالم الجنون تبدأ بعد خطوات من اقتحام البناية القريبة من كلية الطب المتاخمة لشارع طارق بن زياد، والقصص المثيرة تحاك خيوطها بدقة على لسان ممرضين، ورجال أمن لا يمكن أن يمر يوم، دون أن يزوروا 36، طبعا لإدخال مواطنين غدر بهم الزمان، وشاءت الأقدار أن يفقدوا أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان.
بهو شاسع تصله بعد صعود درجين، وممر إسمنتي تتمدد فوقه امرأة أصيبت بحالة هستيرية، ترتدي جلبابا أحمر، مسخت لونه الحقيقي أشعة الشمس. تصرخ بأعلى صوتها بكلمات غير مفهومة، دون أن يعيرها أحد اهتماما، وكأنها حالة عادية لمريض مصاب بألم خفيف في الرأس.
مكتب إسمنتي للاستقبال، على يمينه، يوجد مكتب الطبيب الوحيد المكلف بالمداومة، الذي يصنف مرضاه إلى قسمين، قسم المصابين بالأزمات النفسية الخفيفة، وقسم أصحاب حالات الجنون المتقدمة، الذين غالبا ما يجري الاحتفاظ بهم في بيوت أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها زنازن انفرادية دون حراس أمن.
الجناح 36 الذي يتوفر على قسم للمستعجلات، وقسم خاص بالنساء، وآخر بالرجال، وقسم للمعتقلين لا يمكن التجول في أرجائه، وكشف النقاب عما يجري ويدور في جوفه، فالأبواب الخشبية للغرف الخاصة بالمجانين، الذين يشكلون خطرا على الآخرين موصدة، وأهم ما يميزها نوافذ صغيرة مسيّجة بقضبان حديدية، يمكن للممرضين الإطلالة من خلالها على مرضاهم.
الغرف الخمس بالجناح 36، محاطة بحديقة مساحتها شاسعة، بها كراسي يمكن للزوار الجلوس عليها لملاقاة ذويهم، الذين غالبا ما يكونون في حالة تخدير حتى يحافظوا على هدوئهم ولا يخرجوا عن جادة الصواب.
الجناح نفسه، يتوفر على قسم خاص بالمتهمين، الذين يعانون من أزمات نفسية حادة ولا يمكن وضعهم تحت الحراسة النظرية ب»الجيور» خوفا على حياة المشتبه بهم. قبل مدة ليست بالطويلة كان القسم شهد استنفارا أمنيا غير مسبوق، بعد أن أحيل عليه المتهم بارتكاب «مجزرة الأسرة» في سيدي مومن بالدار البيضاء، والذي كان يخضع للعلاج تحت حراسة أمنية مشددة، بمستشفى الأمراض النفسية والعقلية بابن رشد، جناح 36.
المتهم جرى إيداعه بالجناح بأمر من الوكيل العام للملك، تحت إشراف طاقم طبي مختص لأزيد من 20 يوما، إلى أن تبين أن حالته الصحية استقرت، فجرت إحالته من جديد على عناصر الشرطة القضائية.
حالة بطل الجريمة البشعة، التي راح ضحيتها أمه، وشقيقته الحامل في شهرها التاسع، وزوجها، وابنها (10 سنوات)، لم تكن خاصة أو استثنائية بالنسبة للممرضين بالجناح 36، لأنهم يتذكرون حالات، شاهدة على ذلك، لمجانين تورطوا في أزيد من 5 جرائم قتل في يوم واحد، وحالة الأم التي قتلت أولادها الثلاثة بالدار البيضاء، دون أن تدرك خطورة ما اقترفت يداها.
بعيدا عن المشاكل، التي يعانيها الجناح الوحيد الخاص بالمجانين بالعاصمة الاقتصادية، يقول أحد الممرضين، الذي لم يتعرف على هويتنا، إن الجناح يعاني خصاصا شديدا في الأدوية والمهدئات الخاصة بصنف من المجانين، مضيفا أن عائلات المرضى تجد صعوبة كبيرة في اقتنائها بدورها لا لارتفاع سعرها، وإنما لندرتها من السوق، إذ عادة ما يجري استيرادها من قبل الصيدليات الكبرى، وقد تكون عائلات المرضى قدمت مسبقا طلبا لاستقدام مثل هذه الأدوية، والسبب يرجعه الممرض نفسه إلى كثرة حالات الجنون الشديد، الذي غالبا ما يحتاج إلى مهدئات لحالات الهيجان القصوى.
ومع عدم تمكن الأسر من اقتناء هذه الأدوية، تلجأ عشرات العائلات إلى شراء «القرقوبي» من بعض «البزناسة» لتهدئة روع أبنائها، الذين غالبا ما يرفضهم الجناح 36.
الممرض نفسه، الذي كان يتحدث إلينا رافعا رأسه إلى السماء بعينين فاحصتين، قال إن 60 أو 70٪ من المصابين بحالات الجنون من مدمني المهلوسات وأقراص القرقوبي، التي تباع في أحياء شعبية معروفة بالبيضاء، مضيفا أن العنف وأسباب اجتماعية بمدينة الدار البيضاء، على الخصوص، ساهمت في ارتفاع مؤشر الصدمات المؤدية إلى الجنون.
الممرض، الذي كان يرتدي وزرة بيضاء، أشار لمرافقنا بيده إلى زنازن طوقتها الخضرة وأشجار النخيل قائلا «هاذ البراتش دازو فيهم بوليس تسطاو، ومسؤولين كانوا معروفين، وحتى أطباء وناس لاباس عليهم وموظفين كلا وآش سطاه الله يستر».
من بين الحالات، التي يحتضنها الآن الجناح 36 التابع لمستشفى ابن رشد، حالة طالب جامعي أصيب بالذهان الحاد بسبب الضغوط المختلفة، التي عاشها منذ نعومة أظافره، والصعوبات الاجتماعية وطلاق والده من أمه، وطالب جامعي آخر ملتح حاصل على شهادة الباكالوريا بميزة حسن جدا، تعرض للجنون بسبب تصادم القيم، لأنه قادم من بيئة محافظة ومتدينة، إذ اصطدم بواقع آخر بأحد الأحياء الجامعية بالدار البيضاء، عندما خالط طلابا يتعاطون الكيف والمخدرات داخل الحي وطالبات يمتهن الدعارة، يقول الممرض نفسه، مشيرا إلى أن رجال أمن فقدوا لبهم ولم يتماثلوا للشفاء، إضافة إلى موظفين قضوا أزيد من سنتين بالجناح، دون أن يسترجعوا رشدهم، مشيرا إلى حالة رجل أمن حاول تفجير منزله بقنينة غاز قبل أن يدخل الجناح ويخرج منه شبه معافى، ليلتحق بعمله من جديد بعد إجراء تنقيلي اتخذ في حقه.
عقارب الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، الحركة لا تتوقف بالجناح 36، والجميع يتحسر على وضعية الحالات الاجتماعية، وهي فئة موجودة بالجناح نتيجة تخلي أهاليهم عنهم تماما، ويعاني هؤلاء وضعيات معقدة في حياتهم وعند مماتهم، المثال الأوضح لذلك هو قصة امرأة بكماء دخلت الجناح سنة 2007، لكن وبمجرد وفاتها أثيرت حولها زوبعة كبيرة بحكم أنها مجهولة النسب، ومن حسن حظها أنها لم تمكث بمشرحة المستشفى 45 يوما، مثلما تنص عليه القوانين بعد ما تأكدت السلطات من حقيقة ملفها، بخلاف ذلك، فإن بعض الحالات الاجتماعية تضطر إلى البقاء 45 يوما كاملا داخل مصلحة التشريح بالمستشفى لعدم تقدم أهاليهم لطلبهم. فهناك عائلات بالدار البيضاء تتخلى عن مجانينها في الحياة والممات أيضا.
أمنيون بالزي الرسمي بجناح 36
حين يرخي الليل ستاره يتحول الجناح 36 إلى مكان رهيب، صمته شبيه بصمت القبور، الأبواب الحديدية للجناح فتحت لدورية أمنية، أهم ما كان يميزها صراخ مجنون بداخلها مصفد اليدين، كان من المزمع أن يجري إيداعه بالجناح المذكور.
ترجل من سيارة الشرطة ضابط أمن ومفتش شرطة وبينهما شخص يبدو من أسماله أنه مجنون، كان يصرخ بأعلى صوته مطالبا بإطلاق سراحه، وكأنه على وشك الدخول إلى أحد معتقلات العصور الوسطى.
مفتش الشرطة سارع إلى المكتب الإسمنتي، الذي كان يقف وراءه أحد الممرضين ليسأله عن الطبيب، حتى يتمكنوا من إيداع الشخص، الذي كان يصرخ بشكل هستيري، مطالبا بإطلاق سراحه، بدعوى أنه غير مجنون، ومجرد مدمن غدر به الزمن، وأن أسرته الصغيرة تتهمه دائما بالجنون حتى يعيش بعيدا عنها.
رجال الشرطة كانوا في حيرة من أمرهم، ملامح وجوههم توحي أن أمنيتهم الوحيدة التخلص من شخص لا يمكنه العيش وسط المجتمع لليلة واحدة، غير أن آمالهم لم يقابلها إلا رهبة المكان وصمته، فالطبيب المكلف بالمداومة تلك الليلة، لم يقبل تسلم المريض من الشرطة، بدعوى أن حالته الصحية لا تستدعي الاحتفاظ به في ردهات جناح36.
القرار المفاجئ للطبيب جعل رجال الشرطة في موقف لا يحسدون عليه، فلم يكن منهم إلا أن أدلوا بورقة بيضاء تتضمن أمرا من وكيل الملك، بضرورة إيداع الشخص بالجناح 36 التابع لمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، غير أن طبيب المداومة تمسك بقراره ورفض الاحتفاظ بالشخص المصاب بالجنون، الذي سكت عن الكلام والصراخ، وبقي ينظر إلى الكل بعينين فاحصتين، دون أن يعرف مصيره تلك الليلة.
لم يجد رجال الأمن تلك اللحظة بدا من الرجوع بخطوات متثاقلة نحو سيارة الأمن ورفقتهم «المجنون»، الذي هدأ روعه دون أدوية أو حقن. رحل معهم مستسلما لقدره، قبل أن نعلم أن وجهتهم الجديدة ستكون المركز الاجتماعي تيط مليل.
عقارب الساعة تزحف نحو الثانية والنصف، «البوليس» غادروا غاضبين رفقة «مجنونهم» إلى تيط مليل، بيت من لا بيت له، غير أنه وبعد ساعة ونصف علمنا أن المسؤولين بالمركز بدورهم رفضوا استقبال الشخص المصاب بأزمة نفسية، ليجعلوا رجال الأمن المكلفين بالمداومة في تلك الليلة في موقف لا يحسدون عليه، إذ أصبحت أمنيتهم الوحيدة التخلص من شخص ربما لن يقبله غير الشارع.
«البوليس» بالبيضاء يعلمون جيدا أن هناك صورة أخرى لمجانين، يمارسون طقوس جنونهم، وهو ما يجعلهم يتميزون عن غيرهم، الأمر نفسه حصل مع مجنون المدينة القديمة، الذي وضع رجال الأمن في موقف حرج، فهو بنفسه اقترح عليهم المبيت عند أحدهم في المنزل إلى أن تطل الشمس، وحاول جاهدا أن يقنعهم أنه مازال يحتفظ بلبه، غير أن تعليمات وكيل الملك والإجراءات القانونية المعمول بها، جعلتهم يقتادونه من جديد إلى مستشفى معروف بأنفا، بعد اتصال بطبيب المداومة بشكل شخصي، حتى يتسنى لهم التخلص من عبء أثقل كاهلهم لأكثر من ست ساعات.
علي شعباني *: «البلية عند المغاربة قضاء وقدر»
المتخصصون يعتبرون الإدمان من الأمراض التي تسلب الإرادة
- هل للمجتمع المغربي نظرة خاصة للمدمن بصفة عامة؟
الإدمان أصناف شتى وأنواع مختلفة. والإدمان كيفما كان نوعه يوقع المدمن في حالة التبعية لما هو مدمن عليه، كما يسلبه إرادته وعدم القدرة على إمكانية التغلب عليه، والتوقف عما يتناوله سواء كان دخانا أو خمرا أو ميسرا أو قمارا أو مخدرات أو قرقوبي أو غيرها من مثل هذه الأصناف التي تسلب الإرادة وتخرب العقل وتضعف النفس، وتوهن البدن.
وجدير بالذكر، أن نظرة الأشخاص والمجتمعات للمدمنين قد تختلف. وهكذا نلاحظ بأن نظرة المجتمع المغربي للمدمنين بصفة عامة تكون في مجملها رحيمة ومتسامحة، باعتبار أن الإدمان عند جل المغاربة يعتبر «بلية». ولذلك كلما لقي مغربي أو مغربية إنسان «مبلي» يتوجهون نحوه، ولو سرا، بدعاء «الله يعفو عليه».
والبلية عند المغاربة هي قضاء وقدر. وكما يقولون: «الله هو اللي كتب عليه هاذ الشي». والمدمن نفسه يعتبر الأمر كذلك، لذلك نجده كلما وجهت إليه ملاحظة في هذا الأمر يدعو هو كذلك:» الله يعفو علي»، أو «ادعوا معي لكي يعفو عني الله». وكأنه غير مقتنع بما يفعله، وأن ذلك «زيغة وحصل فيها». وعلى هذا الأساس نجد المغاربة ، على الرغم من استنكارهم ورفضهم للإدمان، يحتفظون في قرارة أنفسهم وأحيانا علانية بتلك المواقف الرحيمة تجاه المدمنين، والتوجه بالدعاء لكي يقي الله أبناءهم وأحباءهم من هذه البلية، ولمن هو مدمن بالشفاء من ذلك، إذا لم تكن لهم قدرة على عرض المدمنين من ذويهم على مراكز العلاج من الإدمان، على ندرتها في المجتمع المغربي.
- صادفنا حالات لمسؤولين انتحروا طبقيا بسبب الإدمان كيف تفسرون ذلك؟
كل المتخصصين في علم النفس والأطباء المتخصصين في العلاج من الإدمان، يعتبرون الإدمان من الأمراض التي تسلب الإرادة وتجرد المدمن من كل القدرات التي تجعل منه إنسانا عاديا وقادرا على التحكم في قدراته العاطفية والعقلية، التي تساعده على الاندماج العادي والسوي في المجتمع. لهذا من المتوقع جدا من المدمن أن يتعرض لنكسات ونكبات نفسية واجتماعية وعلائقية في المحيط الذي يوجد فيه، سواء داخل عائلته أو في مكان عمله أو مع أصدقائه. وهو ما يعرضه للفشل والإحباط وتفرق الناس من حوله. وهذه المواقف قد تواجه المدمن أينما كان وكيفما كان موقعه الاجتماعي، كان مسؤولا أو إنسانا عاديا. وفي حالة ما إذا كان هذا المدمن مسؤولا أو ذا مكانة مرموقة في المجتمع، وتمادى في إدمانه، فهو معرض لا محالة لانتحار اجتماعي أو طبقي، كأن يفقد منصبه أو يتم التخلى عنه، بفعل أنه أصبح غير قادر على تحمل مسؤوليته وتنفيذ عمله بالشكل المطلوب، أو أن تتخلى عنه إدارته أو المؤسسة التي يعمل بها، وبذلك يفقد كل الامتيازات والمزايا التي كان يحظى بها.
أما اجتماعيا فإن المدمن قد يعاني من «أعلى درجات العزلة»حسب تعبير الطاهر بنجلون. بل يكون بإدمانه هذا يخرب أو يساعد على تخريب محيطه العائلي: أسرته غير راضية على ذلك، زوجته متذمرة من سلوكاته، أولاده يشاهدون أمامهم نموذجا سيئا، أصدقاؤه إن كان له أصدقاء يهربون منه». وهذا هو أخطر أنواع الانتحار. لأن هذا المدمن يتعرض لكل أنواع المعاناة وهو حي يرزق.
- هناك أوساط اجتماعية ذات نظرة متسامحة اتجاه الإدمان، هل المجتمع المغربي كذلك؟
على الجميع أن يعرفوا بأن المجتمع المغربي مجتمع عريق في حضارته، متشبث بقيمه الدينية والأخلاقية، ولا يشجع على فعل المنكرات ويحارب الفسق والفجور.
وإن كانت هناك بعض الأوساط تتساهل أو تتسامح مع بعض السلوكات المنحرفة لبعض ذويها، فذلك قد يعود لعدة اعتبارات، تتحكم فيها العادات والتقاليد بشكل كبير. وهذه المواقف المتسامحة قد تهم التدخين أو شرب الخمر أو لعب القمار أو غيره من بعض الممارسات التي تؤدي بصاحبها إلى الإدمان: على سبيل المثال لا الحصر، تدخين الكيف أو استنشاق مسحوق الطابة في بعض مناطق شمال المغرب يدخل في إطار العادات التي تعود عليها سكان هذه المناطق. والموقف نفسه أيضا يأخذه سكان بعض المناطق في المغرب تجاه المتعاطين للدعارة بها، وهو الموقف نفسه الذي يأخذه سكان المدن من الخمارات المنتشرة بها. هذا لا يعني بأن المغاربة قاطبة مرتاحين لذلك وقابلين بمثل هذه الأمور. بل إن الرفض والاستنكار لهذه السلوكات والممارسات هما القاعدة.
- هل هناك أسباب جديدة لتعاطي الكحول أو الإدمان بصفة عامة؟
لا شيء يبرر الإدمان أو شرب الخمر أو التعاطي لأي سلوك يؤدي بصاحبه إلى الإدمان. ومن غير المقبول إطلاقا الاختباء وراء أسباب كيفما كانت لتبرير الإدمان على أي شيء. الإدمان مرض وعلى المصاب بهذا المرض أن يبحث على العلاج وليس على أسباب يبرر بها إدمانه.
الإدمان لا أسباب له لا قديمة ولا حديثة، هو انحراف سلوكي يقع فيه المدمن منذ الزلة الأولى، قد تكون هذه الزلة من قبيل التجريب، وقد تكون من قبيل «الدصارة» كما يقول المغاربة.

* أستاذ باحث في علم الاجتماع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.