مَنْ يَصْنَعُ الإعلام التلفزي بالمغرب؟ هل هم أدوات السلطة البيروقراطيون المُعَيَّنُون قسرا ودون وجه حق في مناصبهمْ أم هي شركات الإعلان التي شرعت في فرض برامج ومنتوجات بعينها في فترات ذروة المشاهدة «Prime Time» من أجل حشر أكبر عدد ممكن من المشاهدين وبهدف غسل أدمغتهم بوصلات إعلانية تُحَفِّزُ لديهم قريحة الاستهلاك الجنوني لكل أنواع البضائع من أجبان ومُصبّرات ودقيق وأجهزة إلكترونية وقروض صغيرة وأحلام وردية توهم المستهلك المغلوب على أمره بأنه يستطيع أن يربح سيارة أو شقة سكنية مقابل «التضحية» بدرهم واحد فقط لا غير؟ خلال السنوات الأخيرة بدأت الإدارة البيروقراطية للقطب العمومي تفقد «حرية القرار» على مستوى البرمجة وذلك لصالح شركات الإعلان و«التواصل» التي امتلكت القدرة على فرض اختياراتها على الجمهور، وهي اختيارات موضوعة بعناية كبرى من منطلق أن الجماهير العريضة لا يمكن لها أن تستهلك سوى السهولة والإنتاج الرخيص والمبتذل، إذ إنَّ الجماهير حسب المسؤولين عن شركات الإعلان وأغلبهم يعانون من قطيعة حقيقية مع المجتمع المغرب. غير قادرين على استهلاك منتوجات برامجية في المستوى، على اعتبار أنهم أميون ليس فقط على المستوى الأَبْجَدي بل أيضا على مستوى القدرة على فك حروف مَنْتوجات تتطلب نوعا خاصا من أدوات التحليل، ويقول المعلنون: إنَّنا لا نخاطب شريحة المشاهدين الذين يتوفرون على شهادة الباكلوريا زائد أربعة فما فوق، فهؤلاء «نبيعهم» موادا إعلانية أخرى بلغة فرنسية أنيقة ذات لكنة باريسية راقية، نحن نخاطب سوادَ الشعب الذي غادر مقاعد الدراسة في وقت مبكر، وبالكاد يستطيع فك حروف الأبجدية. هذا بالإضافة إلى كونه يتوفر على قدرة شرائية لا تؤهله في أحسن الأحوال سوى لاقتناء علبة طماطم مُصبَّرة أو «يوغورت» بدرهمين! إنه خطاب يفيض احتقارا وتحقيرا ل «سواد الشعب» على اعتبار أن قَدَرَه المحتوم ليس فقط استهلاك مواد غذائية مشكوك في قيمتها بل أيضا مواد تلفزية رديئة إلى حد العبث. هذه هي النظرة الحقيقية ل«حزب فرنسا» وخريجي معاهد الاتصال والإشهار في باريس وغيرها التي تصنع من نوع خاص جدا، أجسادُهُم في المغرب وعقولهم وقلوبهم تَدُور في الفلك الأوربي المعروف عنه أنه لا يحمل مَوَدّة ما للمغاربة، ولا يعلن عن حضوره إلا في صفقات تفويت وخوصصة القطاعات الحيوية والاستراتيجية ونهب الثروات الوطنية، كما لا يبدي حماسة سوى من أجل تطبيق الأجندة الأوربية الهادفة إلى أن يُحَقّر المغاربة لغتهم وحضارتهم على أمل إقناعهم باستبدالها باللغة الفرنسية، ما دامت اللغة هي أفضل قناة لتمرير أنماط عيش الآخرين وضمان ولائهم اللامشروط وخنوعهم أمام الاستعمار الجديد المتلون بكل ألوان «الشراكة» و«التبادل». وحين تُفرط الإدارة البيروقراطية في القطب العمومي في هامش تحركها وتستسلم لدفتر مطالب شركات الإعلان الهجينة، فإنها تساهم من جهتها في مسلسل تحقير المواطن المغربي وسلبه هويته وتجريده من كل الصفات التي جُبِلَ عليها الإنسان من ذكاء وقدرة على التفريق بين الغث والسمين، وبين البضائع النافعة والبضائع الفاسدة حتى ولو نُصِبَتْ لها الموائد في فترات الذروة! وقد قال الرئيس الفرنسي الرّاحل فرانسوا ميتران مرة: «لا خير في شعْبٍ فَقَدَ كلماتِه».