مع أن الدولة المرينية لم تكن في قوة الدولتين المرابطية والموحدية، إلا أنها استمرت في الدفاع عن البلدان الإسلامية الشقيقة دون قيد أو شرط، وتدل الوثائق التاريخية المتعلقة بالحقبة المرينية على أن المغرب كان فاعلا قويا في الأحداث الدولية، وأن بعده عن المشرق لم يحل دون تأثره بما يحدث فيه، وخاصة العدوان الذي تعرض له القطر المصري آنئذ والذي استأثر باهتمام المغاربة وشغل حيزا كبيرا من تفكيرهم، ودفعهم تبعا لذلك إلى التدخل المباشر لحماية الأراضي المصرية. المغاربة يهاجمون قبرص حافظ السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أبي الحسن (767ه 747ه) على نهج أسلافه من بني مرين، وظل مرتبطا بقضايا البلدان الإسلامية الشقيقة، وسنرى أن تأثير المغرب في زمنه تجاوز الشمال الإفريقي إلى المشرق العربي، حيث توطدت العلاقة بينه وبين مصر على وجه الخصوص، وصار حضور المغرب على مسرح الأحداث بالمشرق لا يقل أهمية عن حضوره بالدول المغاربية، ففي عهد السلطان الأشرف شعبان بن حسين، الذي كتب إلى أبي فارس يستصرخه بعدما هاجم ملك قبرصالإسكندرية عام (767ه) وعاث فيها فسادا، نجد المغرب يهب لنجدة المصريين دون تردد، وإن كانت معظم المصادر الشرقية تهمل ذكر دور المغاربة في هذه المعركة، فإننا نجد أن بعض الوثائق المصرية تصف بدقة مظاهر الاحتفال أثناء استقبال السفن المغربية بالسواحل المصرية بعد إغارتها على قبرص، ويحكي محمد بن قاسم النويري السكندري في مخطوطة «الإلمام بما جرت به الأحكام المقضية في وقعة الإسكندرية» عن وجود شخصية عسكرية مغربية هامة في مصر اضطلعت بمهمة تطوير الصناعة الحربية بدار الصناعة هنالك، ويتعلق الأمر بالرايس إبراهيم التازي، الذي استقبله السلطان المصري الأشرف شعبان، وتباحث معه في أمر في غاية الخطورة، إذ سأله عن إمكانية فتح قبرص وعن عدد السفن الكافية لذلك، وما إذا كانت مائة سفينة مجهزة تفي بالغرض، ويبدو أن الرايس التازي كان معتدا بخبرته في إدارة معارك البحر، إذ سيؤكد للسلطان أنه لا يحتاج لغير سفينتين فقط، وهو ما سيستجيب له السلطان على الفور، وقد وفى التازي بالعهد الذي قطعه على نفسه، ففي شهر مارس من سنة 1368م بعث الرايس التازي بزورق محمل بالغنائم التي تحصل عليها من الإغارة على قبرص ومعه كتاب يلتمس فيه ألا تفرغ حمولته إلا أمام القضاة والعدول، مخافة أن تمتد إلى محتوياته الثمينة أيادي اللصوص، ثم ورد بعد ذلك بنفسه على مصر ومعه السفينتان اللتان خرج بهما من ميناء الإسكندرية أول الأمر، مثقلتان بالغنائم والأسرى، وكان يوما مشهودا اجتمع فيه سكان المدينة لرؤية الرايس التازي وهو يعيد للإسكندرية الاعتبار بعدما اقتص من المعتدين، ولنترك النويري يصف لنا مراسيم استقبال سفن التازي حيث يقول: «وأما الترك المجردة بالإسكندرية لحراستها فإنهم اصطفوا بطول الساحل على ظهور خيولهم ناظرين للغرابين (السفينتين) القادمين مرتفعة بهما أعلام السلطان وأعلام النصارى منكسة في البحر… والمسلمون بالساحل يضجون بالتكبير للعلي الكبير ويطلبون على البشير النذير… وكان وصول التازي إلى الميناء ضحى نهار دعي له الصغار والكبار وزغرتت له الأحرار والجواري». المغاربة يبدون استعدادهم لصد عدوان تيمورلنك كان هجوم التتر على الشام في أواخر القرن الثامن الهجري فرصة للوقوف على اهتمام المغرب بما يقع في الشرق، ومبادرته إلى تقديم يد العون متى لزم الأمر، فمع تطاير الأنباء عن المجازر الفظيعة التي اقترفها تيمورلنك في حملته على الشرق، تحركت دوائر النفوذ المغربية لاستجلاء حقيقة الأحداث هنالك، وهكذا سنجد أن العلامة ابن خلدون وهو سفير سابق من سفراء الدولة المغربية يسارع إلى مراسلة العاهل المغربي أبي سعيد الثاني لإطلاعه على مجريات الأحداث، وليقدم له معلومات كافية عن طبيعة التتار، ويبدو أن رسالته جاءت جوابا على رسالة سابقة لأبي سعيد. يقول ابن خلدون: «وإن تفضلتم بالسؤال عن حال المملوك فهي بخير والحمد لله، وكنت في العام الفارط توجهت صحبة الركاب السلطاني إلى الشام عندما زحف التتر إليه من بلاد الروم والعراق مع ملكهم (تمر)، واستولى على حلب وحماة وحمص وبعلبك وخربها جميعا وعاثت عساكره فيها بما لم يسمع بأشنع منه» . لقد فعل حسن تصوير ابن خلدون للمأساة الشامية فعله في نفس العاهل المغربي، إذ سيبادر إلى إرسال بعثة دبلوماسية يرأسها الشيخ أبو عبد الله محمد الجواد، للناصر فرج حاكم مصر، يهنئه على تمكنه من وقف الزحف التتري وينبئه أن الجيوش المرينية كانت على أهبة الاستعداد للدفاع عن حوزة البلدان الإسلامية التي استهدفها العدوان، يقول: «فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم سعدا سافرا، وعزما ظافرا من حضرتنا بالمدينة البيضاء… وقد كان انتهى إلينا حركة عدو الإسلام الباغي بالاجتراء على عبده سبحانه بالبؤس والانتقام… وتعرفنا أنه كان يعلق أمله الخائب بالوصول إلى أطراف بلادكم المصرية، ولقد كنا حين سمعنا بسوء رأيه الذي غلبه الله عليه، وما أضر لخلق الله من الشر الذي يجده في آخره ظله يسعى بين يديه، عزمنا على أن نمدكم من عساكرنا المظفرة بما يضيق عنه ونجهز لجهتكم من أساطيلنا المنصورة ما يحمد في إمداد المناصرة ويرتضى».