العلماء يعثرون على قبر أفلاطون بفضل الذكاء الاصطناعي "صورة"    بايتاس: حكومة أخنوش هي أكثر حكومة وسعت الحوار الاجتماعي وعملت على مأسسته منذ تنصيبها    جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022    توقيف متورطين في ترويج مخدرات وحجز 8955 قرص مهلوس    أيت الطالب وأمزازي يطلقان خدمات 34 مؤسسة صحية بجهة سوس    وفد ألماني يطلع بتطوان على العرض البيداغوجي للمعهد المتوسطي للتدبير    من تحدي المشاركة السياسية إلى إدارة الشأن الداخلي.. يتيم يعيد قراءة تجربة العدالة والتنمية (ح1)    بدء أشغال المؤتمر السادس للبرلمان العربي بمشاركة المغرب بالقاهرة    مظاهرة حاشدة في مدريد لدعم رئيس الوزراء وحثه على البقاء    منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    توقعات أحوال الطقس غدا الأحد    هذا تاريخ عيد الأضحى لهذه السنة بالمملكة    گاريدو مدرب اتحاد العاصمة: جينا نربحو بركان ونتأهلو للفينال ونديو الكاس    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    فرنسا تعلن استعدادها تمويل خط كهرباء يربط الدار البيضاء بالداخلة    بعد "بلوكاج" دام لساعات.. الاستقلال ينتخب فجر السبت لجنة ثلاثية لرئاسة مؤتمره    جلالة الملك يهنئ رئيس جمهورية الطوغو بمناسبة العيد الوطني لبلاده    بلغت تذاكره 1500 درهم.. حفل مراون خوري بالبيضاء يتحول إلى فوضى عارمة    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح وآثم من فعل ذلك    مدير الثانوية اللي حصل ففي يو كيتحرش بتلميذة قاصر "هرب".. والنيابة العامة دارت عليه مذكرة بحث وسدات عليه الحدود    مجلس الأمن .. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    ارتفاع عدد شهداء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و388 شهيدا منذ بدء الحرب    الخارجية البريطانية: ملتازمين بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فالصحرا وكنشجعو الأطراف باش يواصلوا جهودهم فهاد الصدد    الرباط: اختتام فعاليات "ليالي الفيلم السعودي"    المغرب يواجه واحدا من أكثر المواسم الفلاحية كارثية في تاريخه    الدكيك يكشف ل"الأيام24″ الحالة الصحية ليوسف جواد وإمكانية مشاركته بكأس العالم    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    مؤتمر الاستقلال يمرر تعديلات النظام الأساسي ويتجنب "تصدع" انتخاب القيادة    تفاصيل وكواليس عمل فني بين لمجرد وعمور    بنتايك ضمن التشكيلة المثالية للجولة ال34 من دوري الدرجة الثانية الفرنسي    تواصل حراك التضامن مع الشعب الفلسطيني في المغرب.. مظاهرات في 56 مدينة دعما لغزة    قناة عبرية: استقالة رئيس الأركان الإسرائيلي قريبا وجميع الضباط المسؤولين عن كارثة 7 أكتوبر سيعودون إلى ديارهم    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب هذه الدولة    فرنسا مستعدة ل"تمويل البنية التحتية" لنقل الطاقة النظيفة من الصحراء إلى الدار البيضاء    خمسة فرق تشعل الصراع على بطاقة الصعود الثانية وأولمبيك خريبكة يهدد حلم "الكوديم"    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    مجلس أمناء الاتحاد العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة    زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابتداء الله الناس بالهداية

اقتضت حكمة الله تعالى خلق الإنسان حرا مسؤولا عن مصيره في الدنيا والآخرة، وهدايته لما يحقق ذاته وتتحدد به مواقفه تجاه مختلف القضايا الكبرى التي تعترضه في الحياة، ومن رحمته ولطفه بهذا الكائن المسؤول، أنه تعالى هيأ له أسباب الهداية وبادره بها ابتداء لعله يأنس بها ويطمئن إليها، ويقرر اختيارها نهجا له في الحياة وملاذا.
وهكذا ركب الله في ذات الإنسان، الفطرة التي تميل به إلى معرفته والإيمان به، وعبادته ومحبته وطاعة أمره، وابتغاء مرضاته وتجنب معصيته وسخطه، وما من نفس بشرية تخلق إلا وهي مزودة بهذه الفطرة، المشتاقة للحق والخير والجمال، فكرا وسلوكا ونهجا شاملا في الحياة، والغالب عليها الانجذاب إلى السمو والفضيلة والسواء "فَاقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [سورة الروم، الآية:30] فاتجاه الدين الحق راجح في ميل الفطرة عن قبول الدنايا واستمراء الباطل، حيث الأصل في الفطرة أن تهدي إلى دين الإسلام، ثم يطرأ على النفس ما يجعلها تحيد عنه إلى غيره من المسالك الخاطئة، كما أوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء" . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: "فطرة الله التي فطر الناس عليها" الآية [1].
وهذه الفطرة الهادية إلى الله تمنح للإنسان مع نعمة الوجود، وما يصحبه من قدرات روحية ووظائف جسمية، دالة على إبداع في الخلق وعناية في الاصطفاء،
فالهداية العامة المسداة للبشر هي الفطرة والعقل الملازمان لروحه، التي يعانق بها الحق متى ظهرت علائمه، وآيات في الأنفس والآفاق دالة على وحدانية الخالق وعلمه وقدرته وبعض صفاته العلى، ثم رسالاته المبينة لمراده سبحانه من خلقه وما تعبدهم به من شرعه.
ولا ريب أن الله تعالى يمد جميع الناس بما يدلهم عليه ويعيدهم إلى التفكير في شأنه، ويعرض اختيار ذلك أمام أنظارهم، فإن تجاوبوا مع هدية الله اهتدوا وإن تمادوا في ضلالهم قامت عليهم الحجة. ومن الآيات المشتملة على هذا المعنى:" الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى"[سورة الأعلى، الآية:2-3] أي (الذي قدَّر لكل شيء ما يصلحه فهداه إليه)[2] ،"قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى" [سورة طه، الآية:50] (ثم هداه إلى وظيفته التي خلقه من أجلها، وأمده بالوسائل والملكات التي تحقق هذه الوظيفة .. وقيل إن: المعنى أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه)[3]. "قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ" [سورة عبس، الآيات:17-21]، وقد اتجه بعض المفسرين إلى كون المقصود بالسبيل سبيل الخروج إلى الدنيا أثناء الولادة، ورجح بعضهم أنه سبيل الخير والشر أو سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان، مستشهدا على ذلك بقوله تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" [سورة الاِنسان، الآية:3]، والكلام عن السبيل بصيغة المفرد يحمل على الاعتقاد أنه سبيل معرفة الله وعبادته، حيث يقابل الإنسان هذه المنحة الإلهية بالشكر فيكون مؤمنا أو يعرض عنها ويرفضها فيكون كافرا. ولا تعارض بين هذا الفهم وآية "وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ" [سورة البلد، الآية:10] وبيَّنا له طريقي الخير والشر وهيَّأناه للاختيار[4] فبيان طريق الشر يتضمن الهداية إلى طريق الخير، ولا يعني بتاتا أن الله يهدي إلى الشر والعصيان ابتداء، وإنما يكون ذلك بعد الإمعان في الغي والضلال كما سيأتي تفصيل ذلك لاحقا.
وتظل آيات الله الهادية إلى الإيمان به وتقديره حق قدره، ملء السمع والبصر والفؤاد، وتترآءى في كل مخلوقاته، مهما تناهت في الكبر أو تناهت في الصغر، وما ذلك إلا لتوفير أسباب الهداية بين يدي الإنسان والتي بها حياة الروح، أكثر من توفير أسباب المعيشة التي بها حياة البدن.
"أَوَلَا يَذْكُرُ الاِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا" [سورة مريم، الآية:67] " وَمِنْ اَيَاتِه أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ اَيَاتِه أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ اَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ اَيَاتِه مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ اَيَاتِه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [سورة الروم، الآيات:20-24].
وتتعدد آثار فعل الله ومظاهر رعايته، في ذات الإنسان وبيئته الأرضية والكونية، ليدفع تعقلها وتردد الفكر فيها، إلى الإقرار بصفات الله وكمالاته وغاياته من خلقه، التي بينتها رسالاته ورسله عليهم السلام، "سَنُرِيهِمْ أَيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" [سورة فصلت، الآية:53]
وإذا كانت آيات الله المنشورة في الأنفس والآفاق، تتجه بالفكر إلى البحث عن الله تعالى واستنتاج بعض أوصاف الخالق وكمالاته، والحكم باستبعاد أي احتمال للصدفة والعبثية في الوجود المنظور؛ فإن الكتب المنزلة والرسل المبعوثين بها، قدموا كل التوضيحات اللازمة عن كل التساؤلات الفكرية والتطلعات النفسية، الناشئة عن التفكير في أمر الخالق والمخلوقات". وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [سورة النحل، الآية: 36]،" وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ اَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الاِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" [سورة الشورى، الآية:52].
ويندرج في هذا القسم من الهداية ما يخص به الله فردا أو جماعة معينين، بتهيء أسباب إضافية للهداية زيادة عما هو مشترك منها بين جميع الناس وعلى قدم المساواة. وخير مثال لذلك أنبياء الله الذين هداهم الله إلى معرفته وأعدهم لحمل رسالته، فاستجابوا لاجتبائه لهم وارتضوه وسعدوا به، وتقرير هذه الهداية لرسول الله صلى الله عليه وسلم توالى في القرآن، "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأَوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى" [سورة الضحى، الآية:5-7]، "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" [سورة الشرح، الآيات: 1-4]، (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) يا محمد، للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحقّ(صَدْرِكَ) فنلِّين لك قلبك، ونجعله وعاء للحكمة: (وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ) يقول: وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها)[5] وكما خص الله رسوله الخاتم بهداية خاصة، فإنه تعالى هيأ له أصحابا يشدون أزره ويعينونه على تبليغ رسالة الإسلام ونشرها في العالمين. فحبب لهم الاِيمان ومكن له في قلوبهم. "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [سورة الحجرات، الآيات:7، 8].
كما ضرب لنا القرآن مثلا للذين هداهم الله فعرفوا الحق لكنهم أعرضوا عنه وجندوا أنفسهم لمحاربته، فطبع الله على قلوبهم بالجحود والعصيان وماتوا وهم كافرين. منهم قوم ثمود، "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [سورة فصلت، الآية:18].
ذهب سيد الطنطاوي في تفسير الهدى هنا إلى كونه البيان والإرشاد فقال: (وأما قوم ثمود الذين أرسلنا إليهم نبينا صالحا، فبينا لهم عن طريقه سبيل الرشاد وسبيل الغي، فالمراد بالهداية هنا: البيان والإرشاد والدلالة على الخير.
"فاستحبوا العمى عَلَى الهدى" [سورة فصلت، الآية:18] أي فاختاروا الكفر على الإِيمان، وآثروا الغي على الرشد.
فالمراد بالعمى هنا الكفر والضلال، والمراد بالهداية الإيمان والطاعة)[6]. وأرى أن الهداية التي خص الله بها قوم ثمود تربو على مجرد البيان والإرشاد، فقد يكون حصل منها الإقرار القلبي بصدق رسالة صالح عليه السلام، لكنهم استحبوا التمادي في الكفر على ما أيقنوا أنه الحق والصلاح، تماما مثل ما أخبر به الله عن قريش الذين أضمروا الاعتراف بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، واظهروا الكفر عنادا وجحودا، "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" [سورة الاَنعام، الآية:33]، ويؤكد لنا القرآن إيقان فرعون بصدق موسى عليه السلام وصحة معجزاته، ثم رفضه الاعتراف العلني بهذه الحقيقة والخضوع السلوكي لها، "فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْاََرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا" [سورة الاِسراء، الآيتان:101-102] وفرعون عندما يتهم موسى بالسحر إنما يفتري الكذب ويقلب الحقائق، وقد نشأ موسى تحت عينيه ويعلم يقينا أنه ما كان ممارسا للسحر أبدا، ولا كانت أخلاقه وسيرته تسمحان بذلك.
وما أكثر ما حكى لنا القرآن عن لطف الله وهدايته للأقوام السابقة وإظهار معجزاته الباهرة لهم، ثم ينقلبون على أعقابهم كافرين بعد أن سكن الإيمان قلوبهم، ومنها النماذج التالية: "فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ اَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً" [سورة البقرة، الآيات:73- 74] ،"وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" [سورة البقرة، الآيات:55-57].
وما أكثر ما يكون الشخص سادرا في الضلال والغفلة، ثم يسوق الله له من الأحداث والتجارب، وييسر له من الظروف والأوضاع، ما يجعله يراجع نفسه ونهجه المتبع، ويكتشف إعراضه عن الحق والرشاد، وما سينتهي إليه مسعاه من الخزي والخسران، فيغير مسلكه ويتوب إلى الصواب، أو يدير ظهره لهذا التنبيه الرباني فيواصل عناده وغيه. "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" [سورة النساء، الآية:115] "إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا" [سورة النساء، الآية:137].
فالذي يتأكد من كل ما تقدم أن الله تعالى يعرف الإنسان الحق بأدلته، ويسكب جرعات أولية من الهداية في قلبه، فتكون مسؤوليته بعد ذلك أن يحافظ على جذوة الإيمان متقدة، وأنواره ساطعة، ويتعهده بالتنمية على الدوام، وتلك لعمري مهمة ليست بالسهلة، وللكلام بقية، والحمد لله رب العالمين.
------------
1. رواه الشيخان وغيرهما.
2. تفسير المنتخب.
3.الوسيط لسيد طنطاوي.
4. المنتخب.
5. الطبري.
6. الوسيط - سيد طنطاوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.