من مفارقات النقاش العمومي في المغرب تلك "الشعبية" الواسعة التي يتمتع بها "الشك في كل شيء"، وهذا النوع من الشك لا علاقة له ب"الشك المنهجي" في الفلسفة حيث يرى الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" أن (الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعرفة هي الشك في كل شيء إلى أن نكتشف شيئاً لا يمكن الشك فيه). ولأن الشك المنهجي يتسم بالمسؤولية و يستلزم البحث عن الحقيقة بوسائلها ومن طرقها، فإن ما يعاني منه النقاش العمومي هو "الشك المذهبي" الذي لا يكلف سوى التشكيك غير المسؤول وغير الملتزم بالبحث عن الحقيقة في أي شيء. وهذا الشك المذهبي المرضي قد تمليه ثقافة حب الغموض والتفسير التآمري للأحداث والنزعة التشكيكية في المؤسسات. ومصيبة هذا النوع من الشك هو أنه يشغل الرأي العام عن البحث عن الأهم في القضايا العمومية الحيوية التي قد تعود عليه بالنفع. والإحصاء العام الوطني للسكان والسكنى كان دائما أحد ضحايا هذا الشك المذهبي، حيث لم تسلم جميع طبعاته من إثارة الشكوك حول الحقائق الديموغرافية التي يقدمها، وكان دائما هناك كهنة يحسنون صناعة خطاب يتجرأ على الطعن و يتمذهب بالشك، وهؤلاء ليسوا مراكز إحصاء لها بدائل إحصائية علمية، ولا خبراء في الإحصاء سجلوا انتقادات علمية حول طرق الإحصاء ومنهجياته. و لكنهم مواطنون، ضمنهم سياسيون وإعلاميون ومثقفون وعامة، المشترك بينهم هو أنهم يتمذهبون بالشك. الذي أعلنه المندوب السامي للتخطيط إلى حدود الساعة ليس سوى أرقام عامة، في انتظار الإفراج عن المعطيات الكاملة للإحصاء، غير أن ما تم الإعلان عنه يقدم العناوين الكبرى للتطور الديموغرافي في المغرب خلال العشرية 2004 – 2014. لقد صدم كثيرون بالرقم المتعلق بعدد سكان المغرب، والذي كان جوابا عن سؤال أثار الكثير من السخرية والتعليق وهو: كم نحن؟ لقد كذب المشككون على الدوام كون تعداد المغاربة سنة 2004 هو 29 مليون و 892 ألف شخص، وذهبت بهم الشكوك قبل عشر سنوات إلى تقديره في الأربعين مليون نسمة! واليوم يصدم هؤلاء بالرقم الجديد المعلن بعد 10 سنوات والذي هو أقل من 34 مليون نسمة، ولا شك أن تقديراتهم سوف تقارب الخمسين مليون نسمة !والذي يشوش عليه هذا النقاش حول حجم كتلة المغاربة هو معدل نموهم، فالخطير في الأمر ليس هو في الحجم، بل في معدل النمو التي يعرف انهيارا مطردا مخيفا، فخلال العشر سنوات الماضية لم يزدد المغاربة سوى بأقل من 4 ملايين شخص، أي أقل بكثير من نصف مليون في السنة. و معدل النمو الديمغرافي السنوي، بين العشريتين السابقيتين ل2014، حسب النتائج المعلنة، قد انخفض من1.38 في المائة إلى 1.25 في المائة. كان من المفروض أن يتدخل المختصون ليحللوا هذا المعدل: ماذا يعني بالنسبة لمستقبل المغرب الديموغرافي؟ ما هي التهديدات والمخاطر التي ينطوي عليها؟ هل نسير بسرعة البرق نحو شيخوخة المجتمع؟ ماذا يعني ذلك بالنسبة للتوازنات السوسيواقتصادية؟ هل يمكن أن نتحدث مع هذا المعطى عن ضمان استقرار سوسيو اقتصادي في العشرية المقبلة؟ المعطى الثاني الذي كشف عنه الندوب السامي في التخطيط هو نسبة التمدن التي ارتفعت إلى60.3 في المائة، بعد ما كانت55.1 في المائة سنة 2004. وارتفاع نسبة التمدن معروف أن الفاعل الكبير فيها في المغرب ليس تحول القرى إلى مدن، بل هجرة أهل البادية إلى المدينة. واستمرار هذه الظاهرة بالوثيرة المخيفة التي هي عليه يثير الكثير من الأسئلة حول مستقبل التنمية في البادية المغربية؟ ومستقبل جودة الشروط السوسيو اقتصادية في هوامش المدن التي يتوسع فيها السكن غير اللائق؟ بل مستقبل المدن الأكثر استقطابا للهجرة القروية في مختلف جوانب الحياة؟ ولعل من بين أهم المفارقات التي تم الكشف عنها أيضا الاختلال الديموغرافي الكبير بين الجهات، والذي يهدد مستقبل الجهوية في المغرب، فماذا يعني أن تحتضن خمس جهات أزيد من 70 في المائة من الساكنة المغربية؟ هل يمكن بهذا التوزيع أن يحقق المغرب التنمية الشاملة المنشودة؟ إن دور الإحصاء في الدول ليس إعلان أرقام للاستهلاك الإعلامي، ولكن الكشف عن المعطيات التي ينبغي أن تراجع على ضوئها السياسات العمومية. إن طبيعة التطور الديموغرافي في أي بلد يحدد بشكل كبير مستقبله. وفي هذا الإطار ماذا تعني المعطيات التي تم الكشف عنها إلى حدود الساعة، والتي سيتم الكشف عنها مستقبلا؟ إن النقاش العمومي حول نتائج الإحصاء ينبغي ترشيده ليهتم بالأساسيات التي يمكن أن توجه القرار السياسي الاستراتيجي، وليس الانشغال الغرائبي بتلك الأرقام وتفسيرها بالعقلية التآمرية.