لا نحتاج إلى شهادة طبية أمريكية لنعرف أن قضاءنا مريض وأن عدالتنا معطوبة، لكن لم نكن نعرف أن هذه الأعطاب ستُستغل في الخارج للطعن في جميع الأحكام الصادرة عن القضاء المغربي ضد الأجانب وستصبح أمراض قضائنا مبررا للإفلات من العقاب. قضاونا أصبح اليوم مثل سيارات الأجرة لا تخرج أحكامه عن نطاق «البلاك 40»، أي أن أحكامه لا تسري على المتهمين في الخارج، أو في أمريكا على الأقل. القصة القادمة من ولاية تكساس مؤلمة، ويخجل المغربي عندما يطالع تفاصيلها، تقول الحكاية: أصدرت المحكمة العليا بولاية تكساس الأمريكية، قبل ثلاثة أيام، حكما خلصت فيه إلى أن شرط العدالة والحياد والاستقلالية والبعد عن تأثير الضغوط والتعليمات على الأحكام القضائية، غير متوفّر في القضاء المغربي، وعليه فإن المحكمة ترفض الاعتراف بالحكم الصادر عن المحكمة التجارية المغربية، والقاضي بتغريم الملياردير الأمريكي، جون بول ديجوريا، مدير شركة «سكيدمور إنيرجي»، مبلغ 123 مليون دولار لفائدة شركائه المغاربة الذين يتهمونه بالنصب والتدليس عليهم، وتقديم معطيات غير صحيحة لهم عن الشركة ورأسمالها بعد ما مُنحت حق التنقيب عن النفط في تالسينت. محامو الملياردير الأمريكي أذكياء، لم يطعنوا في مضمون الحكم المغربي الصادر عن المحكمة التجارية، والقاضي بتغريم المستثمر المليارات، بل طعنوا في صدقية الجهة التي صدر عنها الحكم، أي في نزاهة واستقلالية النظام القضائي في المغرب، واستغلوا ثغرات كثيرة يدخل منها جمل إلى هذا النظام الذي يعترف الجميع اليوم بأنه مريض وضعيف، ويحتاج إلى عمليات جراحية عاجلة.. استغلوا وجود أمير مغربي ضمن قائمة الشركاء، ومنه مروا إلى ثلاث حجج على عطب القضاء في المغرب وهي: 1 - تقرير للوكالة الأمريكية للتعاون الدولي، ملحق به تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية صدرا سنة 2010، يؤكدان بالواضح أن القضاء في المغرب غير مستقل عن الضغوط السياسية، وأنه يعرف انتشارا كبيرا للرشوة. التقرير الأمريكي، حسب نصّ الحكم، أكد وجود تأثيرات سياسية قوية على القضاء المغربي، خاصة الكيفية التي ينظم بها القانون المغربي طريقة تعيين وترقية وتنقيل القضاة، والتي تجعلهم خاضعين لضغوط كبيرة لا يستطيعون معها الاحتكام إلى ضمائرهم. 2 - الحجة الثانية التي جاء بها المحامون وأخذت بها المحكمة في قرارها ما قاله وزير الخارجية المغربي السابق، الطيب الفاسي الفهري، أمام معهد «the Brookings Institute» بالعاصمة الأمريكيةواشنطن خلال شهر مارس 2011، حيث قال: "إن استقلال القضاء في المغرب ليس واقعا بعد، وإن هناك اتصالات تتم بين الفينة والأخرى بين وزارة العدل وبعض القضاة". «وشهد شاهد من أهلها».. هل كان الطيب الفاسي وهو وزير خارجية يعرف معنى أن تقول للأمريكيين إن اتصالات تجري بين الفينة والأخرى بين الوزارة والقضاة أم لا يعرف خطورة هذا التصريح؟ هذا الاعتراف، وإن كان حقيقة، فإنه لا ينفي كذلك أنه ليس من مهام وزراء الخارجية أن يقولوا الحقائق عن بلادهم في الخارج... أي قاض أمريكي ولو مبتدئ عندما تأتي له بتسجيل مثل هذا يدين بالواضح استقلالية القضاء فإنه سيأخذ به دون تردد. 3 - قدم المحامون الأمريكيون عريضة وقع عليها يوم 6 أكتوبر 2012 مئات القضاة المغاربة، ونشرها موقع نادي القضاة على النيت يطالبون فيها باستقلاليتهم عن السلطة التنفيذية، وقال المحامون «العفاريت»: "هذه شهادة ثلث قضاة المملكة المغربية ضد نظامهم القضائي ولا تحتاج إلى تعليق منا عن اختلال هذا النظام الذي أصدر مثل هذا الحكم على مواطن أمريكي يضمن قانون بلده حقه في الطعن في أنظمة قضائية أجنبية لا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، ولا تتمتع بالاستقلالية عن السلطة التنفيذية، ولا تلتزم بقواعد وإجراءات المحاكمات القانونية"... فما كان من القضاة الأمريكيين في ولاية تكساس إلا أن حكموا بإلغاء الحكم ضد الملياردير الأمريكي دون الدخول في مضمون القضية، ولا حيثيات الملف، وإن كنت متأكدا أن الملياردير الأمريكي محتال وغرر بدولة كاملة، وباع لها الوهم أو كذبة «بترول تاسينت»، وأصبح المغاربة يفكرون في أفضل الطرق لتوزيع الريع النفطي قبل أن يصدموا بالحقيقة، لكن مادام قضاؤهم مطعونا في صحة استقلاليته ومهنيته وتركيبة مؤسساته، فإن الحكم جاء ضد الشركاء المغاربة وضد القضاء في المملكة... هذا الحكم سيشكل سابقة، وسيدفع آخرين في دول أخرى إلى الطعن في أحكام القضاء المغربي ضد أجانب، عن حق أو عن باطل.. إنها الفاتورة الأخرى للتأخر في إصلاح القضاء، غير الفاتورة التي يدفعها المواطنون كل يوم.