… وعادت تلك الصورة المحزنة لتحوم في ذاكرتي بعد خطاب رئيس الدولة خلال افتتاح البرلمان الجمعة الماضية.. وعادت تلك النظرة الخاطفة الطافحة بالإحساس ب"الحكرة" والعجز التام عن رد الإهانة المتعمدة. حدث ذلك في أواسط الثمانينيات. كنت أقف في الصف بتلك الكوميسارية المخيفة شكلا (بناء إسمنتي رمادي كئيب) واسما (الدار الحمرا) بالحي الحسني بالدارالبيضاء، أنتظر رفقة المرتفقين دفع أوراقنا للحصول على بطاقة الهوية، وكلنا نغض البصر حتى لا ينفضح خوفنا الذي يثقل صدورنا، ونداري إحساسنا المؤلم بالضآلة. فجأة أخرجني من انكماشي صوت خشن بمعجم وقح، أجج خوفي الذي كنت أجاهد لمحاصرته في صدري، ورأيت أوراقا تتطاير في الهواء، ثم رجلا برأس غزاها الشيب- بدا مسنا في عيون المراهق الذي كنته – ينحني للملمة تلك الوثائق التي تبعثرت على الأرضية الكئيبة. وفي لحظة بدت طويلة التقت عيني بنظرته.. نظرة يعسر عليّ وصفها.. نظرة جمعت المهانة والحكرة وقلة الحيلة.. نظرة أخذت تطفو أمامي كلما جرى الحديث عن الإدارة في بلادي.. فذلك الموظف بصوته الوقح لم يقم وزنا لشيب الرجل، ولا لحاله (كان رجلا بسيطا وأميا على الأرجح لا يفقه شيئا في الأوراق الإدارية)، بل عامله بفظاظة لا مبرر لها، وقسوة مجانية كشفت لي آنذاك نظرة الإدارة المغربية ومن يشتغلون بها إلى الكائن المغربي.. نظرة كلها دونية واحتقار وامتهان. وبما أن الإدارة هي عصب الدولة والسلطة، وتجسيدها الأمثل، فإنها الطريقة التي تُعامِل بها الناس تعكس بشكل قوي نظرة هذه الدولة والسلطة إلى الكائنات التي تدير شؤونهم. في المجتمعات المتحضرة، تشكل الإدارة امتدادا للفرد المواطن، وليست جهازا منفصلا عنه. وتعتبر نفسها منذورة لخدمته وتدبير شؤونه في إطار الجماعة، ولا تنظر إليه قط ككائن خارج عنها.. لا تربطها به أي علاقة وليست مدينة له بأي شيء. صحيح أنها تجسد وجها من أوجه السلطة، ولكن السلطة في هذا الحالة تكون نابعة من هذا الفرد المواطن، ورهينة به. أما عندنا، فالإدارة ليست امتدادا للموطن بما أنها تجسد السلطة التي لا تنبع منه، أو على الأقل لا تنبع منه بشكل كامل. بل تعتبر نفسها جهازا مستقلا عنه تمام الاستقلال، ولا تربطها به أي رابطة، وبالتالي فهي ليست منذورة لخدمته، بل كل ما تقدمه له مجرد "كرم" من طرفها، وبالتالي من حقها أن تتأفف عند تقديم خدماتها، تماما كما يتأفف البعض عن تقديم مساعدة لشحاذ أو متسول. صحيح أن خطاب الملك للجمعة الماضية وجه نقدا لاذعا لوضع الإدارة وطريقة تعاملها مع المغاربة، وسيكون له على الأرجح أثر في سلوكها لبعض الوقت، ولكن هذا "التحسن المرتقب" يؤكد فقط ارتباط هذه الإدارة بالسلطة، وليس بالكائن المغربي. فهي ستحسن من تعاملها معه فقط لأن رئيس الدولة انتقدها، وليس لكون المغربي يشتكي من وطأتها وفظاظتها وكسلها. وليس هذا هو الذي من شأنه أن يبدد نظرة ذلك الرجل الأشيب ويمحوها من ذاكرتي.