بموت عبدالكريم غلاب، يكون المغرب قد فقد آخر صحافييه وكتابه الموسوعيين. فالرجل حتى وهو فاقد للبصر وفي خريف العمر، واصل إغناء المكتبة المغربية بعناوين توحي كما لو أن الأمر يتعلق بكاتب في مقتبل العمر والإبداع؛ فقد حكى لي رفيقه في الحزب والحياة، مولاي امحمد الخليفة، أن الراحل كتب، في الأشهر الأخيرة من السنة الجارية خمسة كتب منها، مجموعتين قصصيتين يضج عنوانهما بالحياة: "شهرزاد في ليلتها الثانية بعد الألف" و"سعادة الباشا". تعود علاقتي بالراحل عبدالكريم غلاب إلى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي عندما أعجبت، وأنا مراهق، بروايته "المعلم علي" دون أن أجرؤ على الحديث بذلك، بالمعنى الذي يطرحه الشاعر الفرنسيEugène Guillevic بقوله: " Si un jour tu vois Qu'une pierre te sourit, Iras-tu le dire?" (إذا ابتسم لك حجر ذات يوم، فهل ستقوى على الحديث بذلك؟). كنت حينها حديث عهد بكتابة محاولات في الشعر والقصة ونشرها في المُتاح من جرائد ذلك الزمن، ومنها "العلم"، وكانت الموضة في الرواية، كما في غيرها من أجناس الكتابة والإبداع، هي التجريب، وقد شطَّت عنه رواية "المعلم علي" فجاءت ملحمة سردية في السلاسة والانسياب، خالية من كل تجريب أو تغريب. وبالرغم من أنني التهمت الرواية التهاما فلم أجرؤ على الحديث بذلك لأصدقائي الذين كنت أتنافس معهم وأزايد عليهم في الكتابة والنشر، كما في استعراض ومناقشة الكتب والأفكار، مثلما يجدر بمراهق "كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد". كانت الرواية وصاحبها والحزب الذي ينتمي إليه والجريدة التي يديرها، وننشر فيها طبعا- كانوا بمعاييرنا حينها- في عداد الرجعية. شيئا فشيئا، وكتابا تلو الكتاب، بدأت كليشيهاتي الإيديولوجية عن الرجل، تأفل وتخبو، خصوصا عندما قرأت كتابه عن الشاعر محمد بن ابراهيم، والذي ضمَّنه قصائد غاية في الجرأة الأخلاقية والسياسية، ومنها قصيدة يمدح فيها شاعر الحمراء محمد بن عرفة، وقد ولته فرنسا سلطانا بعد نفي ابن يوسف، أسقطها أحمد شوقي بنبين، من "ديوان شاعر الحمراء" الذي جمعه بأمر من الراحل الحسن الثاني، والتي مطلعها: محمدُ بن عرفهْ نُصِرَ يوم عرفهْ فذاكَ سِرٌّ ظاهرٌ يعرفهُ من عرفهْ. لم يفصل عبدالكريم غلاب، يوما، كتاباته عن نضالاته السياسية والفكرية. ففي كتابه "عبدالكريم غلاب في مذكِّرات سياسية وصحافية"، كتب يقول: "الصحافة ليست مهنة.. أذكر من جديد أنني لم أتخذ الصحافة قط مهنة، كانت بالنسبة إليّ رسالة وطنية وسياسية وفكرية أؤديها لبلادي". ويوم استدعاه الراحل امحمد بوستة، قبل أشهر من وفاتهما معا، إلى اجتماع لإنقاذ حزب الاستقلال، لبى النداء وهو مريض وضرير، وقال ما أثر في كل الاستقلالين: "لم أبك في حياتي سوى في مناسبتين، يوم توفي والدي، ويوم أصبح حميد شباط أمينا عاما للحزب". يعلم الله ما الذي قاله قبل موته وهو يرى كيف "شبط" غرباء بحزب الاستقلال بمبرر مواجهة شباط. رحم الله السي عبدالكريم.