قال المؤرخ المعطي منجب، إنه لن يكون هناك أي تغيير جذري بعد الخطاب الملكي الأخير. ما هي، في نظركم، أهم ملامح «زمن الصرامة» الذي تحدث عنه الملك في خطابه؟ رئيس الدولة يشير إلى الصرامة ضد تهاون الإدارة بكل مستوياتها، وتقاعس المجالس المنتخبة في تنفيذ البرامج الإنمائية، وفي ما يخص خدمة مصالح المواطنين. هل تستشرفون تغيرا جذريا في مؤسسات الدولة ونخبها؟ كلا، أبدا. كدارس ومتتبع من الناحية العملية لتطور تاريخ المغرب السياسي والاجتماعي، لا أعتقد بتاتا أنه سيحدث أي تغير جذري يأتي من أعلى الهرم، لأنه سيكون عملية شبه انتحارية بالنسبة إلى النخبة النافذة والمتحكمة في كل الأمور والموارد ومقدرات الادخار الوطني منذ عشرات السنين. فهي التي تستفيد من ريعية الاقتصاد وفساد الإدارة وهامشية الدستور والقانون، ووجود السلطة الحقيقية بين أيدي الجماعات المصلحية والمؤسسات غير المنتخبة. إنها المستفيدة من النظام، ومقابل ذلك تعبر كل يوم، بمناسبة ودون مناسبة، عن ولاء خنوع يخدع الحاكم. وبسبب هذا الولاء المصلحي المبتذل، الذي يوجد في كل الأنساق السياسية السلطوية، يشعر النظام وكأن مشروعيته قويةً، وأن شعبيته حقيقية حتى تحدث الكارثة. أتحدث هنا عما يظهر ككارثة في عين النظام، أي عن أحداث تؤكد بالفعل أن مشروعية النظام ضعيفة، وأن من يحمي استدامته الظاهرية قوتان لا ثالث لهما؛ وهما جهازا الأمن وكتلة اللامسيسين من الشعب المسكين المغلوب على أمره، وهي تشكل الأغلبية. القوة الأولى، أي الأمن، تحمي النظام بنشاطها الفعال على مستوى الضبط الفيزيائي، أي ما يسميه المعارضون بالقمع، وعلى مستوى الضبط الإيديولوجي، أي البروباغاندا عبر القنوات الرسمية وغير الرسمية. أما القوة الثانية، أي الكتلة الشعبية اللامسيسة واللامتعلمة، فتحمي النظام -عكس الأولى- بلافعلها ولامبالاتها، أي بعطالتها السياسية (inertie politique)، فالأولى تقوم بوظيفتها مقابل تلقي موارد مادية، هي الأجور وشيء من السلطة وما إليهما من منافع، والثانية تقوم بدورها مقابل الخدمة الروحية التي يقدمها لها النظام عبر مؤسستين رمزيتين اثنتين، هما إمارة المؤمنين والسلطان الشريف. إن هاتين المؤسستين أساسيتان في المخيال الشعبي لأنهما الضامنتان للطمأنينة في الأرض والشفع في السماء. هل تلمسون تناغما بين عمل الحكومة ومضامين الخطب الملكية الأخيرة؟ كلا، لا أرى أي انسجام بين السياسات الرسمية، ملكية وحكومية، والمضامين النقدية القوية لخطب رئيس الدولة. فهذه الخطب تدين، مثلا، الفساد، وتطالب بخدمة مصالح المواطنين، وبتسمية الأشياء بمسمياتها، وربط المسؤولية بالمحاسبة ربطا حقيقيا، وعلى كل المستويات الإدارية والسياسية، كما تطالب بتنمية فعالة وعادلة اجتماعية يستفيد منها الجميع، وبقضاء منصف، فهل تسير السياسات الرسمية في هذا الاتجاه؟ بكل موضوعية لا. ولنبدأ من النهاية، هل شباب الريف الأحرار الذين سموا الأشياء بمسمياتها، أي قالوا، كما قال الملك، إن هناك اختلالات في تنفيذ المشاريع المحلية وإن هناك فسادا، وقال قادتهم إن الملك هو الحاكم الفعلي لذلك فلن يتحاوروا إلا معه أو مع ممثليه المباشرين، فهل عامل القضاء هؤلاء الشباب بإنصاف؟ ولنذكر أن هؤلاء الشباب كانوا في الغالب الأعم، ورغم غضبهم، سلميين وواقعيين، فبماذا واجههم النظام؟ بالعصا الغليظة طبعا، حيث دمر كل آمالهم في الإصلاح وفي غد أفضل، زاجا بالمئات منهم في السجن، والآن هم رهن الاعتقال، فأين القضاء المنصف الذي يتحدث عنه الملك؟ إنه لا يصح إلا الصحيح. الأمور وصلت إلى حد بعيد من التأزم والرداءة واللاعدالة والظلم اليومي المجحف، كل هذا ينذر بالثورة، التي معناها التوق إلى التغيير، أي حياة أفضل وأرحب. يجب أن يعي القائمون على الأمور في المغرب أنه لا يكفي أن تتحسن الظروف المادية للمغاربة لتنخفض حدة الغضب والمعارضة للنظام. هذا ضروري لكنه غير كافٍ. المغاربة الآن يريدون طبعا قسمة عادلة للموارد المادية، لكنهم يتوقون كذلك إلى المشاركة في الموارد الرمزية، وأهمها الحرية والكرامة والمساواة، وهذا لن يكون إلا بالديمقراطية، وهذا ما لم يشر إليه الخطاب الملكي الأخير مع الأسف. إن الديمقراطية تعني، في ما تعنيه، انتخاب النخب الحاكمة محليا ووطنيا، أي اختيار «زعماء» يمثلون المواطنين ويخدمونهم، مع إمكانية معاقبتهم بالتصويت ضدهم إذا أخلوا بوعودهم، أو أظهروا تهاونا في تطبيق البرامج التي انتخبوا على أساسها. هل مثل هذه الديمقراطية موجودة في المغرب؟ لا. فالناخب المغربي اختار حزب بنكيران وخطابه، فإذا به يفاجأ بحكم حزب العثماني وخطابه. كما قلت، لا يصح إلا الصحيح! ولا أمل في الإصلاح إلا بالديمقراطية، أي ربط ممارسة السلطة بالمحاسبة. كيف تتوقعون النموذج التنموي الذي دعا إليه الملك؟ من الصعب توقع تفاصيله لأن الخطاب لم يكن ذا مضمون تفصيلي. وغالب الظن أنه سيكون نموذجا تقنوقراطيا، أي يركز على الفعالية الاقتصادية والإدارية مع تهميش النخبة السياسية بشقيها، أي المنتخبة وتلك الناشطة في المجتمع المدني. مثل هذا النموذج قد يرضي الكتلة اللامبالية اللامسيسة، خصوصا إذا أظهر نجاعته على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، لكن لا يمكنه محاربة الفساد بفعالية، كما لا يمكنه إرضاء الكتلة الواعية من الشعب، التي كما قلت تتوق طبعا إلى العدالة الاجتماعية والرفاهية الاقتصادية، لكنها لن تتخلى من أجلهما عن تشبثها بالقيم اللامادية، أي الحرية والكرامة. فنموذج بورقيبة-بنعلي في تونس، مثلا، نجح نجاحا مقبولا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، لكن في أول وعكة سقط النظام الذي يجسده بسبب غياب الحرية والمشروعية الديمقراطية.