سلطات مراكش تواصل مراقبة محلات بيع المأكولات بعد حادث التسمم الجماعي    بحضور الملك..الحموشي يشارك في احتفالات الذكرى 200 لتأسيس الشرطة الإسبانية    ضربات إسرائيلية على قطاع غزة وواشنطن تهدد بوقف بعض الإمدادات العسكرية لإسرائيل            توقعات أحوال الطقس غدا الجمعة    طنجة…توقيف خمسة أشخاص ينشطون ضمن عصابة إجرامية    المجلس الاقتصادي والاجتماعي يدعو إلى مقاربة مندمجة لتسريع إدماج الشباب بدون شغل ولا يتابعون الدراسة أو التكوين    68 مليون درهم لتأهيل محطة أولاد زيان بالدارالبيضاء    اعتقال شاب حاول اغتصاب سائحة بلجيكية بالحسيمة    مرضى السكتة الدماغية .. الأسباب والأعراض    بايرن غاضب بشدة من إلغاء هدفه القاتل في الخسارة 2-1 أمام ريال مدريد    تسجيل أكثر من 245 ألف ليلة مبيت سياحية بوجهة طنجة خلال الفصل الأول من العام    ملتمس الرقابة يوسع الخلاف بين المعارضة وتبادل للاتهامات ب"البيع والمساومة"    تقدم أشغال إنجاز منطقة الأنشطة الاقتصادية "قصر أبجير" بإقليم العرائش ب 35 في المائة    منطقة الأنشطة الاقتصادية بالفنيدق تنظم أبوابها المفتوحة الثانية    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية    ارتفاع أسعار النفط مدعومة بتقلص مخزونات الخام الأمريكية    أنشيلوتي: "ما يفعله ريال مدريد شيء سحري.. والريمونتادا ليست غريبة"    المغرب يدخل القطيع المستورد من الخارج الحجر الصحي قبيل عيد الأضحى    بعد اعترافها بآثاره الجانبية المميتة.. هيئة أوروبية تسحب ترخيص لقاح كورونا من أسترازينيكا    المنتدى العربي للتنمية المجتمعية بالدار البيضاء.. تسليط الضوء على جهود المملكة في التعاطي السريع والفعال مع زلزال الحوز    "صحة غزة": ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و904 منذ 7 أكتوبر    أفق جديد لسوسيولوجيا النخب    "طيف سبيبة".. رواية عن أطفال التوحد للكاتبة لطيفة لبصير    أخنوش محرجا الاتحاد الاشتراكي: كنتم ترغبون في دخول الحكومة واليوم تهاجموننا.. فماذا حصل؟    من بينها المغرب.. سبع دول تنضم لمبادرة "طريق مكة"    الكشف عن ثاني مصنع أيسلندي لالتقاط ثاني أكسيد الكربون وتخزينه    البرلمان المغربي يشارك في الدورة ال 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    مركز السينما العربية يكشف عن أسماء المشاركين في فعالياته خلال مهرجان كان    مهرجان تطوان الدولي لمسرح الطفل يفتتح فعاليات دورته الخامسة عشرة    علم فرنسا يرفرف فوق كلية الطب بالبيضاء لتصوير "حرب العراق" (صور)    ترقب استئناف المفاوضات بمصر وحماس تؤكد تمسكها بالموافقة على مقترح الهدنة    الصحة العالمية: مستشفى أبو يسف النجار برفح لم يعد في الخدمة    جوائز الدورة 13 لمهرجان مكناس للدراما التلفزية    متحف "تيم لاب بلا حدود" يحدد هذا الصيف موعداً لافتتاحه في جدة التاريخية للمرة الأولى في الشرق الأوسط    ريال مدريد يضرب بايرن ميونخ 2-1 ويتأهل رسميا لنهائى أبطال أوروبا    المرزوقي: لماذا لا يطالب سعيّد الجزائر وليبيا بالتوقف عن تصدير المشاكل إلى تونس؟    الصين توصي باستخدام نظام بيدو للملاحة في الدراجات الكهربائية    البرهان: لا مفاوضات ولا سلام إلا بعد دحر "تمرد" الدعم السريع    محاكمة الرئيس السابق لاتحاد الكرة بإسبانيا    تسليم هبة ملكية للزاوية الرجراجية    ملتقى طلبة المعهد العالي للفن المسرحي يراهن على تنشيط العاصمة الرباط    رحيمي يورط إدارة نادي العين    ضربة موجهة يتلقاها نهضة بركان قبل مواجهة الزمالك    أخنوش: الحكومة خفضت مديونية المملكة من 72 إلى 70 في المائة من الناتج الداخلي الخام    الداخلة على موعد مع النسخة ال 14 من الأيام العلمية للسياحة المستدامة    كأس العرش.. الجيش الملكي يتجاوز نهضة الزمامرة ويتأهل إلى دور ربع النهائي    "ريال مدريد لا يموت".. الفريق الملكي يقلب الموازين في دقيقتين ويعبر لنهائي "الأبطال"    كيف أنهت "البوليساريو" حياة الأطفال؟    الفنان محمد عبده يكشف تفاصيل إصابته بالسرطان    الحمل والدور الحاسم للأب    الأمثال العامية بتطوان... (593)    المؤرخ برنارد لوغان يكتب: عندما كانت تلمسان مغربية    أسترازينيكا تعلن سحب لقاح كورونا من الأسواق    السعودية تفرض عقوبات على مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    بعد ضجة آثاره المميتة.. "أسترازينيكا" تعلن سحب لقاح كورونا من الأسواق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شَوَارِقُ التَّجَلِّيَ الصُّوفِيِّ ورَوَافِدُه
نشر في الصحيفة يوم 17 - 11 - 2022


1. الرئيسية
2. آراء
شَوَارِقُ التَّجَلِّيَ الصُّوفِيِّ ورَوَافِدُه
بليغ حمدي إسماعيل
السبت 10 دجنبر 2022 - 14:51
أحسن الوصفَ والتوصيفَ فضيلةُ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب حينما قصد سرد المشهد الصوفي بأنه حالة ذاتية متفردة غير قابلة للتكرار ، وأن لغة أصحاب هذه التجربة الروحية على اتساع مفرداتها تبدو ضيقة عاجزة عن الإفصاح بمكنونات اللحظة الصوفية قصيرة المدى وطويلتها المعروفتين بالحال والمقام ، هذا ما جعل أهل التصوف أنفسهم لا هؤلاء الأكاديميون ضعاف الرؤية والتفكير وربما بصيرة التحليل أيضا يؤكدون صعوبة تعريف التصوف ، بل كانوا أكثر حكمة من هؤلاء المعاصرين المنتسبين بفعل الوظيفة لا أكثر لا أقل على التصوف بحكم الدراسة والعمل والراتب الشهري وقتما لم يكترثوا بوضع تعريف دقيق حاكم وقاطع لمفهوم التصوف الإسلامي ، وحسن صنعهم حينما امتنعوا عن التوصيف.
وهذه اللغة التي يستخدمها أهل الوجد هي بالضرورة تنبئ عن حالات من القلق المستدام المتواتر وليست ضلالات كما يظن البعض ويعتقد ، بل مرد القلق ما يعتري الطائع المتصوف من رياضات روحية واجتهادات عقلية عن وعي وقصد شديدين. ويقول العلامة الإمام الكلاباذي واصفا لمقاماتهم وأحوالهم : "سبقت لهم من الله الحسنى وألزمهم كلمة التقوى وعزف بنفوسهم عن الدنيا صدقت مجاهداتهم فنالوا علوم الدراسة وخلصت علها معاملاتهم فمنحوا علوم الوراثة وصفت سرائرهم فأكرموا بصدق الفراسة ثبتت أقدامهم وزكت أفهامهم أنارت أعلامهم فهموا عن الله وساروا إلى الله وأعرضوا عما سوى الله خرقت الحجب أنوارهم وجالت حول العرش أسرارهم وجلت عند ذي العرش أخطارهم وعميت عما دون العرش ابصارهم فهم أجسام روحانيون وفي الارض سماويون ومع الخلق ربانيون سكوت نظار غيب حضار ملوك تحت أطمار أنزاع قبائل وأصحاب فضائل وأنوار دلائل آذانهم واعيه وأسرارهم صافية ونعوتهم خافيه صفوية صوفيه نورية صفيه ودائع الله بين خليقته وصفوته في بريته ووصاياه لنبيه وخباياه عند صفيه هم في حياته أهل صفته وبعد وفاته خيار أمته لم يزل يدعو الأول الثاني والسابق التالي بلسان فعله أغناه ذلك عن قوله" .
ومن العبث ما ظنه غلاة المستشرقين طعنا وكرها في التصوف الإسلامي حينما اعتبروه مجرد ظاهرة دينية تاريخية ، وهذا ما دفع بعضهم مرهقين أنفسهم قبل عقولهم بالبحث عن روافد التصوف الإسلامي ، ومن خرق العقل العربي العصي على التأويل ن جملة من العرب المتأخرين والمعاصرين أيضا ممن ينتسبون إلى الفلسفة الإسلامية والتصوف بحكم الاشتغال والامتهان ( من المهنة ) أنهم اغرورقوا مع هؤلاء المستشرقين الذين كان غالب بحثهم في التراث الإسلامي طعنا في مصادره وثوابته التي لا تقبل شكا أو ظنا في الثبوت أو التصديق ، لكن أمثال ثولوك ، ودوزي ، وهورتن ، وهارتمان ، وأوليري ، وجولدزيهر ظلوا سنوات طويلة وبعيد يؤكدون تأثر التصوف الإسلامي كظاهرة تاريخية بروافد مسيحية كنسية ، وهندية ، وفارسية قديمة ، حتى الثقافة اليهودية كان لها حظ من إشارتهم التي تبدو لي ولقليل مثلي من التكهنات الخبيثة التي تسعى لتقويض أية سلطة دينية مطلقة بغير رافد أو عوامل تأثر.
لذا كان على العرب أن يكونوا أكثر وعيا بعدم نقل الكتابات التفصيلية التي تشير إلى نوازع التأثر من الديانات الأخرى للتصوف الإسلامي ، وإرجاعه بصورة مطلقة إلى رافديها الأصيلين فقط ؛ القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة لصاحبها (صلى الله عليه وسلم) .
لأن هذه الإشارات هي عملية أيديولوجية في المقام الأول ، ولا ترتبط بالأبعاد المعرفية الثقافية التي تخدم الفكر الإنساني ، وربما لأن التصوف الإسلامي الذي يمثل التجربة الروحية في الإسلام جاء متأخرا تأخر ظهور الدين الإسلامي بحكم كونه آخر الأديان الإلهية السماوية المقدسة والثابتة كان هذا الطرح الفكري ، فضلا عن مثالب الغرب والإقرار بنظرية المؤامرة في إيجاد روافد ومصادر تأثير مباشرة كانت سببا للنزعة الصوفية في بلاد المسلمين.
وخير دليل على مطاعن المستشرقين صوب التصوف وأهله ما ألصقوه من عبارات وصفات وثمة سمات هي في جوهرها طعنا وذما حقيقيا له ، فتارة نجد من يصف التجربة الصوفية بأنها كل ما هو شاذ وغريب ، وتارة أخرى توصيفها بالخبرة الدرامية ، لكن حقيقة الشهود الصوفي تفي وتصف التجربة بأنها البحث الدائم والمُلِحُّ عن معنى الوجود الإنساني ، وهذا البحث هو عدة محطات أخلاقية ودينية لابد أن يمر بها الطائع لربه وصولا إلى أحوال ومقامات مهما اجتهد المفكرون في تقنينها وتجميعها إلا أنها تظل تجارب فردية خالصة غير قابلة للتكرار وغير خاضعة للتشابه.
هذه المحطات لابد وأن تبدأ في انطلاقها من بوابة الزهد ، والثقافة الإسلامية تؤكد تحلي الصحابة رضوان الله عليهم بتلك السمة لاسيما وأنهم كانوا أكثر قربا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحياته ، لكن المستشرقين بأمراضهم العنصرية وغلو تطرفهم الديني ودوافع مؤسساتهم الممولة لمشروعاتهم خبيثة الهدف أشارت إلى أن زهد الصحابة كان بغير تخطيط أو تدبر أو وعي تام أو حتى تنظيم ، وكأن هؤلاء النجوم الزاهرة يسيرون في الحياة بتخبط وعشوائية ، وهذا ما يأباه العقل وينفيه التاريخ الإسلامي الصحيح والسليم الذي يقبله القلب والعقل معا بفطرة صحيحة وسليمة. فنجد أن التصوف الإسلامي بدأ زهدا على يد كبار الصحابة الأوائل الأماجد الكرام ومن تبعهم من التابعين ؛ أبي عبيدة بن الجراح ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وحذيفة بن اليمان ، وسعيد بن المسيب وهؤلاء جميعا يمثلون مدرسة الزهد في المدينة المنورة.
وهذه المدرسة وغيرها من مدارس الكوفة وخراسان والبصرة اهتمت بقضايا الموت والحساب وفتن الدنيا وفساد الأحوال الزائلة ، والخوف من الآخرة ، وهذا ما أشار إليه أبو الوفا التفتازاني وصفا لملامح مدرسة الزهد الأولى بقوله : " ولعله قد تبين من أقوال بعض زهاد البصرة أنها كانت تدور حول معنى الخوف من عذاب الآخرة ، وهو الخوف الذي يستتبع العمل الديني الجاد ، والانصراف عن ملذات الدنيا بالتقلل في المآكل والمشرب ، وغير ذلك مما لا يخرج عن حدود زهد النبي وصحابته" .
وشقيق البلخي أحد مشاهير مشايخ خراسان والصوفي القطب الكبير يمر بنا في رحلة سريعة عبر محطات رئيسة صوب المعنى الحقيقي للوجود الإنساني ، ولعله من القلائل الذين رسموا التجربة الصوفية في شوارقها بصورة مختزلة جادة حينما اشار إلى التجربة بأنها تبدأ من محطة الزهد الذي يعني به أدب النفس بقطع الشهوات من الطعام والشراب على القوت الكافي ، ومنعها من الشبع بالليل والنهار ، مرورا بمحطات رئيسة مثل الخوف الذي لا يتم الزهد إلا به ، ثم الشوق ومبتدا الدخول في الشوق إلى الجنة أن يتفكر في نعيم الجنة وما أعدَّ الله فيها لساكنيها من أنواع الكرامة والنعيم والخدم ، هكذا يقول البلخي في نصوصه. ويعد الشيخ الجليل أبو علي شقيق بن إبراهيم الأزدي من أبرز من تحدث عن التقوى وخصال المتقين من أهل التصوف الإسلامي ، ولسوء حظ الثقافة الدينية في مصر أن أهل الحب الإلهي والمعروفين بالمتصوفة يعانون قدراً كبيراً من التجاهل الإعلامي والغياب الثقافي لأنهم ارتبطوا فقط بالموالد والاحتفالات الشعبية البعيدة عن تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة . وبات من الضروري إلقاء الضوء على هؤلاء الذين ظلمهم إعلام غافل وثقافة باهتة .
وتذكر كتب التأريخ الإسلامي المتصلة بحياة أقطاب الصوفية أن شقيق البلخي هو أول من تكلم في علم الأحوال ببلاد خراسان ، ولقد تتلمذ على يد شيخ الصوفيين الباهر إبراهيم بن أدهم المتوفى في 161 هجرية ، وله قصة مع هذا الأخير نوردها في هذه السطور ، التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق بمكة فقال إبراهيم لشقيق: ما بدو أمرك الذي بلغك هذا؟ قال: سرت في بعض الفلوات فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فلاة من الأرض فقلت: أنظر من أين يرزق هذا فقعدت بحذاه فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين فقلت لنفسي: يا نفس الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر على أن يرزقني حيث ما كنت فتركت التكسب واشتغلت بالعبادة.
وما لبث التصوف في انطلاقه من محطة الزهد ليصل إلى محطات أخرى أكثر ارتقاء وازدهار بحكم ثراء الثقافة الإسلامية نفسها ونبوغ الفكر الإسلامي الذي أشرق على العالم كله لاسيما نهايات القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع الهجري الذي يعتبر بحق العصر الذهبي للثقافة الإسلامية. فنجد التصوف الإسلامي لم يعتبر نفسه مجرد محض زهد أو تقشف أو حتى ملازمة لقطع الشهوات والرغبات الباهتة الزائلة ، بل تحول المشهد الديني إلى ممارسات عقلية أقرب إلى الطرح الفلسفي كشف عن حقيقة راسخة وهي حضور الجانب العقلي وبزوغه في التجربة الروحية الخالصة.
فنجد الحارث المحاسبي الذي اشتغل بالتدريس وهذا ينفي شبهة التعطل والبطالة عن أقطاب الصوفية الكرام يسطِّرُ كتبا تعد من جواهر المؤلفات العربية التي تتحدث عن شوارق التصوف وأنواره مثل " كتاب الرعاية لحقوق الله " ، وكتاب التوهم " ، وكتاب " رسالة المسترشدين " ، وفي كتبه جميعا نجد منحى تحليليا عميقا لأحوال النفس ومعالمها ، وسردا يخلو من المبالغة والعلو في التعبير وهذا ما ميَّز كتابات عصر المحاسبي.
والحارث المحاسبي يواجه نفسه بسؤال ما المحبة الأصلية ؟ وفي سؤاله هذا يقرن بين القلب والعقل ، إذ أنه يتحدث عن أمر الوجدان بلسان العقل والروية ، فيقول عن المحبة الأصلية أنها حب الإيمان ، مستدلاً بذلك من أن الله تبارك وتعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له فقال : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) ( سورة البقرة آية 165 ) . يقول المحاسبي : " فنور الشوق من نور الحب وزيادته من حب الوداد ، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد ، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به ، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان " .
والمستقرئ لتلك الكتابات يسهل عليه استنتاج التحول في تاريخ التصوف الإسلامي من الزهد في الشهوات وغايات الدنيا إلى تأصيل القيم الإسلامية مثل الحديث عن صفة الرياء ، والتنبيه على معرفة النفس وسوء أفعالها والتحذير عن هوى النفس. كما جاد فيض الصوفي المكتوب في الحديث عن الوجد حلا ومقاما ؛ حيث إن الوجد هو المعاناة الدائمة لتمحض الإنسان و بلوغ حريته الخالصة في الإخلاص للحق . أي أسلوب تراكم سره . ومن هنا قول عمر بن عثمان: "لا يقع على كيفية الوجد عبارة ,لأنها سر الله عند الموقنين" . ومقام الوجد كما أشار إليه ميثم الجنابي في دراسته الأكثر تميزا وإثارة وتشويقا الموسومة ب " السماع لحقائق المطلق أو لعبة الوجدان والحقيقة في الإبداع الصوفي " يعني السر ، والسر هنا هو حقيقة الباطن . ولهذا قالوا "الوجد سر صفات الباطن "، أو حقيقة الأنا، أو حقائق الروح المبدع في معاناة تذوقه للمطلق في تجلياته اللامتناهية ,وفي مكابدة مشاهداته و مكاشفاته . أي في مقاساة نماذج الإبداع العيانية والرمزية في إخلاص التجربة الفردية . فالوجد ,كما يقول أبو سعيد ابن الإعرابي ,هو "ما يكون عند ذكر مزعج ,أو خوف مقلق ، أو توبيخ على زلة ,أو محادثة بلطيفة ,أو إشارة إلى فائدة ، أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت ، أو ندم على ماض ، أو استجلاب إلى حال ,أو داع إلى واجب ، أو مناجاة بسر. وهي مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن ,والغيب بالغيب والسر بالسر ,واستخراج ما لك بما عليك مما سبق لك " .
ولا يمكننا تغافل ذكر أبي سعيد الخراز ونحن بصدد الإشارة عن شوارق التصوف الإسلامي وروافده الأصيلة ، لاسيما وأنه صاحب الأسفار الكثيرة التي صقلت تجربته الروحية التي بدت أكثر عمقا خصوصا وأنه كان ملازما للاضطهاد الذي صوب سهامه القاضي الحنبلي غلام بن خليل للصوفية والتصوف ، كما أنه كان معاصرا للإمام الجنيد الذي تعددت ألقابه بين طاووس الفقراء وسيد الطائفة وشيخ المشايخ ، وأبو القاسم الجنيد هو أحد أعلام التصوف الإسلامي ويعد في ذاته منارة مضيئة للعقل والقلب معا ، وهو الذي أوسع حديثه في نعت القاصدين إلى الله ، فيقول الإمام الجنيد : " اعلموا معاشر القاصدين إلى الله تعالى أن العبد كلما قصد إلى الله تعالى ومواصلته وقربه فأول ما يجب عليه أن ينطلق بالسير على مركب المنطلقين إليه ، ويبرز إلى محبوبه ويرتحل عن الكلية إليه بترك إرادة حظه من الدارين " وختاماً لحديث الواصلين حكي أن ذا النون رأى رجلا يبكي في سجوده وهو يقول : اللهم ارزقني رزقا حلالا واسعا وزوجني من حور العين في الجنة ، فقال له ذو النون : يا مسكين في الدارين تبكي ، تبكي في الدنيا للخبز وفي الآخرة تبكي على الحور العين ، فمتى تتفرغ لمولاك .
ونال أبو سعيد الخراز قسطا من التربية والتعلم على يد كبير الصوفية بشر بن الحارث الحافي ، فنجده يكتب كتاب " الصدق " حيث شرح فيه معنى الصدق والإخلاص عند الصوفي ، وأفاض في حديثه عن الوصل والواصلين ، ومن شوارق ما خطه بيان الفرق بين الواصلين والمقربين ؛ فيقول عن أهل الوصل :
" واعلم أن الواصلين إلى الله عز وجل وأهل القرب منه ، الذين قد ذاقوا طعم محبة الله تعالى بالحقيقة وظفروا بحظهم من مليكهم، فمن صفاتهم: أن الورع والزهد والصبر والإخلاص والصدق والتوكل والثقة والمحبة والشوق والأنس والأخلاق الجميلة، وما لم يكن يمكن أن يوصف من أخلاقهم، وما استوطنوه من البر والكرم فذلك كله معهم، وساكن في طبعهم، ومخفي في سرائرهم، لا يحسنون غيره؛ لأنه غذاؤهم وعادتهم؛ لأنهم فرضوا ذلك على أنفسه فرضًا، وعملوا فيه حتى ألقوه، فلم يكن عليهم بعد الوصول كلفة ، في إتيانه والعمل به، إذا حل وقت كل حال؛ لأن ذلك غذاؤهم، كما ليس لهم في أداء الفرائض ثقل ولا علاج " .
ثم يتجاوز الخراز حد توصيف علامات الواصلين واقفا عند مقام القرب ، وواصفا أحوال المقربين ، قائلا : " قلت: متى يألف العبد أحكام مولاه، ويسكن في تدبيره واختياره؟ ، قال: الناس في هذا على مقامين؛ فافهم ، فمن كان منهم إنما يألف أحكام مولاه؛ ليقوم بأمره الذي يوصل إلى ثوابه، فذلك حسن وبه خير كبير، إلا أن صاحبه يقوم ويقع، ويصبر مرة ويجزع أخرى، ويرضى ويسخط، ويعبر ويراجع الأمر؛ فذلك يؤديه إلى ثواب الله ورحمته، إلا أنه معنى في شدة ومكابدة ، وإنما يألف العبد أحكام مولاه، ويستعذب بلواه، ويسكن في حسن تدبيره واختياره بالكلية بلا تلكؤ من نفسه، إذا كان العبد آلفًا لمولاه ولذكره، وهو له محبٌّ وادٌّ، وبه راض، وعنه راض ، فهل يكون أيها السائل، على المحب مئونة فيما حكم عليه محبوبه؟ كيف؟ وإنما يتلقى ذلك بالسرور والنعيم. هكذا قال في الخبر: حتى بعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة".
أما أبو بكر الشبلي الذي طلب منه الحلاج سجادته لكي يصلي عليها قبيل صلبه فهو يمثل إشراقة لطيفة من إشراقات التصوف الإسلامي الرائق ، ومجمل تجربته الروحية الذاتية تدور في فلك المحبة ، ولقد أوضحت تجربته مدى عمق تفكيره وتأويلاته المستمدة من صميم القرآن الكريم ، ولقد شرح مناسك الحج متجاوزا الشكل الظاهري إلى تحقيق كنه العبادة والفريضة التي تجسد المحبة المطلقة لله تبارك وتعالى .وبه نختتم سطورنا بشعره حين قال :
باح مجنون عامر بهواه
وكتمت الهوى فمت بوجدي
فغذا كان في القيامة نودي :
من قتيل الهوى ؟ تقدمت وحدي .
أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).
كلية التربية جامعة المنيا مصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.