حرية الصحافة.. المغرب يحقق تقدما كبيرا في التصنيف العالمي والصحافة المستقلة باتت مهددة بالانقراض بالجزائر            برقية تهنئة من جلالة الملك إلى رئيس جمهورية بولندا بمناسبة العيد الوطني لبلاده    جنازة الحقوقي عبد العزيز النويضي عصر اليوم في مقبرة بجماعة واد الشراط    مندوبية التخطيط: ارتفاع معدل البطالة إلى 13,7 بالمائة خلال الفصل الأول من 2024    أسعار الذهب تتجه للانخفاض للأسبوع الثاني تواليا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    "فاو": ارتفاع أسعار الغذاء عالميا للشهر الثاني على التوالي    حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الاسلامي يعلن ترشح رئيسه للانتخابات الرئاسية في موريتانيا    تركيا توقف التبادل التجاري مع إسرائيل بسبب "المأساة الإنسانية" في غزة    مراسلون بلا حدود عن 2024.. ضغوط سياسية على الاعلام والشرق الأوسط "الأخطر"    بركة يعلن عن خارطة طريق للبنيات التحتية استعدادًا لكأس العالم 2030    جدول مواعيد مباريات المنتخب المغربي في أولمبياد باريس 2024    لقجع يعلن انطلاق مشاريع مونديال 2030    ملف "اليملاحي".. "جرائم الأموال" بالرباط تقضي بعدم الاختصاص وتعيده إلى ابتدائية تطوان    بنموسى : إصلاح المنظومة التربوية الوطنية ورش استراتيجي يتطلب تعاون جماعي    انطلاق خدمات 14 مركزا للرعاية الصحية الأولية بجهة فاس مكناس    رسميا.. النادي القنيطري يتعاقد مع عبد الرحيم شكيليط خلفا للمدرب الساخي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في الذكرى 42 لتأسيسها.. الإيسيسكو تواصل النهوض برسالتها الحضارية وتلبية تطلعات دولها الأعضاء بمجالات اختصاصها    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    موزمبيق.. انسحاب قوات مجموعة تنمية افريقيا الجنوبية يفتح الطريق أمام حالة من عدم اليقين    توقف أشغال طريق بين مكناس وبودربالة يثير غضب السكان بالمنطقة    النفط يتجه لتسجيل أكبر انخفاض أسبوعي في 3 أشهر    احتجاجات أمام القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء تضامنا مع طلاب الجامعات الداعمين لغزة    المكتب المركزي للأبحاث القضائية يعلن تفكيك خلية إرهابية من 5 عناصر    عدلي يشيد بتألق "ليفركوزن" في روما    اختتام الدورة الثانية لملتقى المعتمد الدولي للشعر    الكعبي يسجل "هاتريك" ويقود أولمبياكوس للفوز أمام أستون فيلا في دوري المؤتمر الأوروبي    حركة حماس تقول إنها تدرس "بروح إيجابية" مقترح الهدنة في قطاع غزة    غامبيا.. بوريطة يتباحث مع نظيره الغابوني    شمس الضحى أطاع الله الفني والإنساني في مسارها التشكيلي    إيقاعات الجاز تصدح بطنجة بحضور مشاهير العازفين من العالم    بنك المغرب…66 في المائة من أرباب المقاولات الصناعية المغاربة يعتبرون الولوج إلى التمويل "عاديا"    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    الفرقة الجهوية دالجندارم طيحات ريزو ديال الفراقشية فمدينة سطات    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    رسالة هامة من وليد الركراكي ل"أسود" الدوريات الخليجية    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انكشاف الحقيقة الأمريكية بقلم : فهمي هويدي
نشر في التجديد يوم 10 - 09 - 2002

بعدما انقضى عام على فاجعة 11 سبتمبر، بوسعنا ان نقر بان العرب والمسلمين خسروا الكثير، لكن الولايات المتحدة كانت على رأس الخاسرين، حتى أزعم ان خسارتها كانت اكبر من المنظور التاريخي والثقافي، نعم، خسر العرب والمسلمون سمعتهم ومصالحهم، لكنهم خرجوا من العام بمثل ما دخلوا فيه، باستثناء بعض الكدمات والكسور، اما الامريكيون فقد خرجوا من التجربة على هيئة مغايرة لتلك التي دخلوا بها، حيث خسروا ما هو اهم من الهيبة والمكانة. خسروا انفسهم، وخيبوا امل الآخرين فيهم، وتلك لعمري فاجعة اخرى.
(1)
لقد تعرضت الولايات المتحدة في 11 سبتمبر الماضي لهجوم ارهابي اتهم فيه نفر من الناس قيل انهم ينتسبون الى منظمة القاعدة، التي كانت تعيش في كنف نظام متخلف منبوذ في افغانستان، وردت واشنطن بسلوك ارهابي اسقطت فيه نظام «طالبان»، وأهدرت دماء كل عناصره، وانتقمت من الشعب الافغاني، وفتكت بكل من اشتبهت بانتسابه الى «القاعدة»، واعلنتها حربا مفتوحة ضد ما سمي بالارهاب، في كل انحاء الكرة الارضية، وما برحت تلوح بان تلك الحرب لا تتقيد بقوانين او أعراف او حدود، وانها قد تستمر عقدا من السنين او عقدين. ومن المفارقات ان الولايات المتحدة التي تحولت الى ثور هائج لا يرى في الكون غير الثأر والانتقام لان هجوما ارهابيا استهدف برجين في نيويورك وأدى الى مقتل حوالي ثلاثة الاف شخص، هي ذاتها التي استبدت بها روح الثأر والانتقام بعد تدمير اليابانيين لاسطولها في ميناء «بيرل هاربر» اثناء الحرب العالمية الثانية (عام 1941)، فلجأت في عام 45 الى تدمير مدينتين يابانيتين بالكامل (هيروشيما ونجازاكي) على رؤوس سكانها وقتلت اكثر من 250 الف شخص، وكانت تلك هي المرة الاولى في التاريخ التي تستخدم فيها القنابل الذرية لابادة ذلك العدد
الهائل من البشر في صراع مسلح، وهي السابقة التي تدحض الزعم بان اسلحة الدمار الشامل تصبح آمنة اذا ما كانت في يد دولة ديمقراطية، وتغدو خطرا اذا ما كانت بيد نظام مستبد (لاحظ ان هذه اهم الحجج التي تسوق الآن لتسويغ ضرب العراق).
هذا الكلام رددته اكثر من مرة على مسامع من لقيت من الصحفيين الغربيين الذين تقاطروا على بلادنا في اعقاب ما جرى في 11 سبتمبر، ومضوا يمطروننا بالاسئلة التي تركزت حول الحدث وأسبابه وتداعياته، بوجه اخص فان الصحفيين الامريكيين كانوا يهزون رؤوسهم وهم يستمعون الى ما قلت، ثم يلقون علي السؤال التالي: ما الذي كان يتعين على الولايات المتحدة ان تفعله وقد تعرضت للهجوم الارهابي وقتل من ابنائها ثلاثة آلاف شخص؟
خلاصة ما قلت في الاجابة ان احدا لا ينكر على الولايات المتحدة حقها في الرد ومعاقبة من ثبتت بحقهم التهمة، ولكن عليها ان تتصرف بسلوك الدولة العظمى التي تحترم اصول العلاقات الدولية والمؤسسات المعبرة عن الشرعية في العالم، والقوانين والاعراف المرعية. اما ان تستسلم للانفعال والغضب العارم، وتطيح بكل ما تعارفت عليه المجتمعات الانسانية، فانها بذلك تكون قد تعاملت بشرعية الغابة، وليس بالشرعية القانونية او الدولية. من ثم فانها بعد 11 سبتمبر اسفرت عن وجه ومواقف مخالفة تماما لكل ما ادعته لنفسها من مبادىء، واهدرت في ذلك قيما كانت قد اعطتنا دروساً في ضرورة احترامها والوفاء باستحقاقاتها.
(2)
خلال القرن الماضي عرف العالم ثلاثة من الرؤساء الامريكيين ممن دافعوا عن القيم الانسانية المتعالية، والثلاثة هم ودروويسلون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي، ولا يزال لامريكا اصدقاء محبطون يرغبون في ان يروا صورتها المتسامحة واهدافها النبيلة غير ان سياسة امريكا الانفرادية فيما خص الالغام الارضية والمحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات كيوتو الخاصة بالبيئة، كانت كلها مخيبة لآمال هؤلاء.
هذا الكلام ليس من عندي، ولكنه بعض ما جاء في مقالة كان عنوانها «لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة على الكرة الارضية» كتبها المؤرخ الامريكي المعروف بول كينيدي الاستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب «ظهور واضمحلال القوى العظمى» (نشرتها صحيفة الشرق الاوسط في 28/2 الماضي).
مثل هذه الانتقادات ترددت في كتابات عدة. فهذا وليام فاف الذي كتب في «لوس انجيليس تايمز» (14/8) يقول ان «الهواة» الذي يقررون سياسات الحكومة الامريكية يتصورون ان «من حق الادارة الامريكية ان تفعل اي شيء تريده، ويعتبرون ذلك امرا مسلما به ومبررا كما ان الحكومة تصر بشكل مستمر على اعفائها من الالتزام بالقانون الدولي، ،ظلت ترفض القيود التي تفرضها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الامريكية السابقة، وهي تطالب اليوم بان تعفى ايضا من بعض القيود الدستورية».
هذا التفرد الامريكي الذي عبرت عنه بوضوح ادارة الرئيس بوش اجهض فكرة العولمة وأثبت انها تحمل في جوهرها سيطرة اقلية امبريالية، اذ عندما تصطدم بمصالح الاقوياء فانه يتم الاطاحة بها على الفور، ويلقي جانبا بمشروع العولمة كله، وإلا فكيف يفهم الخطاب الامريكي الاخلاقي في البلقان، والنشاط العسكري الامريكي المستمر للقبض على المتهمين بجرائم الحرب، من الرئيس اليوغوسلافي السابق الى اصغر ضباط الميليشيات الصربية، بينما يصف الناطقون باسم الادارة الامريكية المحكمة الجنائية الدولية ابشع الاوصاف، ويطالبون بحصانة مطلقة للجنود الامريكيين من الاتهام والمحاكمة؟ (د. بشير نافع القدس العربي 11/7).
(3)
ما فعلته الادارة الامريكية في الداخل يفوق ما يتصوره اي عقل، حتى اننا لا نبالغ اذا قلنا اكثر ان لم يكن كل الاجراءات التي اتخذتها الادارة ومررها الكونغرس بعد 11 سبتمبر تمثل عدوانا سافرا على الحريات العامة وعلى مبادىء حقوق الانسان.
هذا الوجه الامريكي اثار دهشة كثيرين، وكان ما كتبه الاستاذ جميل مطر المحلل السياسي المتميز تحت عنوان «امريكا وما دهاها» (الحياة اللندنية 24/8) معبرا عن تلك الدهشة. اذ انتقد في تحليله المشروع الاقتصادي الامريكي ومشروعها الثقافي والسياسي، معتبرا ان الولايات المتحدة بأسرها في ازمة. فقد تساءل مثلا: ماذا دهى الامريكيين حتى يسمحوا لحكومتهم بالتفكير في انشاء نظام تجسس على المواطن الامريكي، بحيث يتحولون الى امة من الجواسيس. اذ انه طبقا لذلك النظام الذي عرف باسم «تيبس» (Tips) سيخضع الأمريكي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة وملاحظ الهاتف وسائق الحافلة العمومية. إذ كلهم يصبحون مكلفين بكتابة تقارير عنه اذا ما اشتبهوا في تحركاته وضيوفه وعلاقاته الشخصية، وهي الحياة الخاصة التي احيطت بقدسية عند الامريكيين، وتحولت الى نموذج يحلم كثيرون في العالم باحتذائه. (ذكرت صحيفة «القدس العربي» في 17/7 ان الادارة الامريكية تعتزم تجنيد 11 مليون جاسوس لمراقبة النشاطات «المشبوهة» داخل الولايات المتحدة).
في إطار اللوثة التي أصابت الادارة الامريكية في اعقاب 11 سبتمبر، أعيد العمل بقانون «الدليل السري»، الذي بمقتضاه يعتقل المرء ويحاكم وتتم ادانته دون ان يعرف حقيقة التهمة الموجهة ضده والوقائع المنسوبة اليه، كما اصبح من الممكن ان يلقى القبض على الانسان ويودع في مكان مجهول، ويمنع من الاتصال بمحاميه لعدة اشهر، في حين يترك لأجهزة الامن تحديد مصيره على هواها. دون اي التزام بمبدأ او قانون.
إضافة الى احتجاجات المدافعين عن الحقوق المدنية الذين انتقدوا بشدة «المكارثة الجديدة» بعد 11 سبتمبر؟، فان بعض القضاة ضاقوا ذرعا بسلوك الادارة الامريكية، وطبقا لما نشرته «واشنطون بوست» (في 23/8) فان محكمة اتحادية سرية رفضت منح وزارة العدل الامريكية صلاحيات جديدة طلبتها لممارسة الرقابة الالكترونية باسم حماية الامن القومي. وقالت صراحة في توبيخ علني نادر ان الحكومة اساءت استخدام القانون وضللت المحكمة عشرات المرات، وان وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية زودوها بمعلومات خاطئة في اكثر من 75 اصدار مذكرات تفتيش ومراقبة للمكالمات الهاتفية.
لفت الاستاذ جميل مطر الانتباه فيما كتبه الى قرار الحكومة الامريكية انشاء وكالة خاصة لصياغة الانباء والتعليقات، وترجمتها الى لغات مختلفة، لتوزيعها على الصحفيين والكتاب في افريقيا والشرق الاوسط واوروبا، لكي تنشر اسماؤهم، وكأنها وجهات نظرهم الشخصية. والهدف من ذلك هو الاحتيال للترويج لوجهة النظر الامريكية، عن طريق خداع القارىء العادي والعبث بمداركه، في عدوان صارخ على حرية التعبير وعلى أبسط مبادىء المسؤولية الاعلامية.
(4)
في غمرة الانفعال وتحت ضغط الحرص على تعزيز المكانة واستعادة الهيبة، استسلمت الولايات المتحدة لفكرة «العسكرة» وتلبستها روح الاستقواء ونزعات الهيمنة الامبراطورية. فارتفعت في ساحتها السياسية اصوات اليمين الاصولي والصهيوني داعية الى ممارسة القوة في بسط السلطان الامريكية بالقوة على جهات الكرة الارضية الاربع، مع تأديب المارقين فضلا عن تهذيب «المنحرفين». بحيث لا تنتفي الولايات المتحدة باسقاط الانظمة المتمردة واخضاعها، وانما تذهب الى حد هزيمة الافكار المناهضة لها والمحرضة ضدها. وفي ذلك لا تكتفي الادارة الامريكية بقمع معارضيها، ولكن تذهب الى حد اعادة رسم خرائط المناطق التي تهمها (الشرق الاوسط في المقدمة)، على النحو الذي يرضي الهوى الامريكي (والاسرائيلي بالتبعية) واستجيب لمقتضيات المصالح والمطامع الامريكية. وهو ما عرضت له تفصيلا في الاسبوعين الماضيين.
ما يحتاج الى وقفة قصيرة هو ما وصفناه «بالعسكرة» في اداء الادارة الامريكية، التي كانت حملات التأديب الموجهة ضد الدول المعارضة من تجلياتها لكن هذا التحول ظهر بشكل اكبر في التحولات التي طرأت على الاستراتيجية العسكرية الامريكية، وهي التي عرضها باستفاضة سبية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقالة نشرتها مجلة «سياسة خارجية» الشهرية (عدد اول مايو الماضي)، المعروفة بانها منبر مؤثر وعاكس لتوجهات الادارة الامريكية. كانت مقالة رامسفيلد بعنوان «التحولات العسكرية» وفيها ذكر ان الاستراتيجية الامريكية التي كانت ما بعد 11 سبتمبر والحرب التي اعلنتها واشنطون على الارهاب في انحاء العالم، حيث اصبحت الولايات المتحدة تدافع «ضد عدو مجهول، وغير محدد، وغير مرئي، وغير متوقع»، الامر الذي يقتضي وضع خطط جديدة، واستخدام اسلحة جديدة. فقد كانت الاستراتيجية الامريكية قبل 11 سبتمبر تقوم على فكرة تمكين الآلة العسكرية من خوض معركتين اقليميتين رئيسيتين في منطقتين متباعدتين في العالم، في اي وقت من الاوقات. ولكن بعد اتساع المسرح بعد 11 سبتمبر «قررنا تركيز الردع المطلوب في اربع مسارح جوية، مع الاحتفاظ بخيار تنفيذ هجوم شامل
كاسح ضد عدو محدد، مع احتمال احتلال عاصمة العدو وتغيير نظامه» (هل ينطبق ذلك على الوضع الراهن، الذي تخوض واشنطون ما تزعم انه معركة ضد الارهاب في دول عدة، بينما تستعد في الوقت ذاته لاجتياح العراق واسقاط نظامه؟).
(5)
في مناسبة مرور عام على ما جرى في 11 سبتمبر، اصدر اكثر من 2000 مثقف امريكي بياناً (نشرت الحياة اللندنية نصه في 30/8) اعلنوا فيه معارضتهم واستنكارهم لسياسة حكومة بلادهم، وجاء البيان تحت عنوان لافت للنظر هو: ليس باسمنا. ليس ذلك فحسب، وانما دعا البيان الشعب الامريكي الى مقاومة السياسة «الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية، التي تنتهجها حكومة الرئيس بوش، واصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره».
انتقد البيان كل ما فعلته الحكومة الامريكية بعد 11 سبتمبر، بدءاً من تقسيم العالم الى اخيار واشرار، وانتهاء باعلان الحرب على جبهات متعددة في الخارج وممارسة القمع في الداخل.
في دعوة الى مقاومة آلية الحرب والقمع، ذكر البيان انه: باسمنا، وداخل الولايات المتحدة، انشأت الحكومة شريحتين من الناس: اولئك الموعودون بالحقوق الاساسية ضمن النظام القانوني الامريكي كحد ادنى، واولئك الذين يفتقرون تماماً الى اي حق. فقد جمعت الحكومة ما يزيد على الالف مهاجر واحتجزتهم بالسر حتى اجل غير مسمى. كما تم ترحيل المئات، في حين ما زال يذوي مئات آخرون في السجن، مما يعيد للذاكرة الذكرى الاليمة لمخيمات الاعتقال للامريكيين اليابانيين اثناء الحرب العالمية الثانية. وللمرة الاولى منذ عقود، اشارت اجراءات الهجرة الى بعض الجنسيات بهدف التمييز في المعاملة.
باسمنا، نشرت الحكومة فوق المجتمع حجاباً قاتماً من القمع. وقد انذر الناطق الرسمي باسم الرئيس الناس «للانتباه الى ما يتفوهون به». لذا يجد الفنانون والمثقفون والاساتذة والمعارضون وجهات نظرهم عرضة للتحريف والتشويه والهجوم والقمع. فما يعرف بالمرسوم الوطني اضافة الى عدد من الاجراءات المماثلة على صعيد الولاية يمنح الشرطة سلطات كاسحة في ما يخص التفتيش والاعتقال، باشراف، عندما يلزم ذلك، دعاوى قضائية سرية ترفع في محاكم سرية.
باسمنا، ثابرت السلطة التنفيذية على اغتصاب ادوار الدوائر الحكومية ووظائفها الاخرى. وقد انشئت محاكم عسكرية لا تتطلب براهين صارمة وتفتقر الى حق الاستئناف، وذلك بواسطة اوامر اجرائية. ويتم الاعلان عن مجموعات «ارهابية» بجرة قلم رئاسي.
(6)
يعيد الينا البيان الثقة في ضمير ونبل بعض عناصر النخبة الامريكية، لكنه يدعونا ايضاً الى طرح السؤال التالي: هل ما تقوم به الادارة الامريكية الراهنة يمثل استثناء على السياسة الامريكية ام انه استمرار لها وتعبير عن الاصل فيها بكلام آخر: ايهما اصدق في التعبير عن الحقيقة الامريكية، اداء الرئيس بوش وفريقه ام بيان المثقفين؟
منذ وقعت احداث 11 سبتمبر، وانا ارجع بين الحين والاخر الى كتاب نفيس اقتنيته منذ ثلاثين عاماً بعنوان «القياصرة القادمون»، لمؤلفه الفرنسي اموري د. رينكور، وقد ترجمه الى العربية الاستاذ احمد نجيب هاشم الذي تولى وزارة التربية والتعليم في وقت لاحق.
اهمية الكتاب في انه يرى في الولايات المتحدة نموذجاً شديد الشبه بالامبراطورية الرومانية، من حيث امتلاكها للحضارة وافتتانها بالقوة، وافتقادها للحكمة والثقافة. وهو يعتبر ان اهل الحضارة مشغولون بالكم وخلفيتهم يكمن فيها المكان، بما يستتبعه من ضخامة وتوسع، اما اهل الثقافة، وهم في رأيه الاوروبيون ورثة اليونان، فهم معنيون بالنوع، وخلفيتهم يكمن فيها الزمان بمعنى التاريخ بعمقه وعبقه، وهو الامر الذي لا يجذب الامريكيين ولا يبهرهم.
وهو يرصد عناصر التشابه بين الولايات المتحدة والامبراطورية الرومانية، ذكر ان الحرية في كل منهما جاءت مقيدة، اذا قورنت بالحرية الفوضوية في اليونان قديماً، او في فرنسا حديثاً.
واستشهد في ذلك بما قاله الفيلسوف الكسيس دي توكفيل (قبل حوالي 150 عاماً) من انه لا يعرف «بلداً مثل امريكا فيه ذلك القدر الضئيل من استقلال الفكر والحرية الحقيقية في المناقشة» و«.. «في ذلك الحشد الضخم الذي تعج به المسالك المؤدية الى السلطة في الولايات المتحدة، لقيت عدداً قليلاً جداً من الرجال الذين اظهروا تلك الصراحة الجريئة حتى يبدو لاول وهلة وكأن عقول الامريكيين قد صبت في قالب واحد. فهم جميعاً يسيرون في اتجاه واحد بدقة بالغة».
وهو ينعى على اوروبا تأثرها بالحضارة الامريكية ذات البصمات الرومانية قال رينكو: من الآن فصاعداً لن تؤخذ الثقافة مأخذ الجد. وستكون مجرد نشاط هامشي، لن يسمح له بالتدخل في هدف الحضارة الخطير الشأن، المتمثل في توطيد الامن وتوفير الرفاهية الاقتصادية لاكبر عدد ممكن من البشر. وحينذاك سيردد كثيرون تلك الملاحظة الفطنة التي ابداها سكستوس جوليوس فرونتينوس (30 104م) اشهر مهندسي روما، ورئيس مصلحة المياه فيها الذي كان شديد الفخر بسقاياته الضخمة، وقد قال فيها: من ذا الذي يجرؤ على ان يقارن هذه السقايات العظيمة التي تنقل الماء بالاهرامات العقيمة، او بأعمال اليونان الشهيرة وعديمة النفع».
لقد عدت الى قراءة عبارة فرونتينوس مجدداً حين طالعت قبل ايام (في 2/9) تصريحاً لمساعد وزير الخارجية الامريكي ريتشارد ارميتاج قال فيه «لدينا النفوذ والقوة والهيبة، والسلطة التي تفوق ما امتلكه بلد في التاريخ، وهذا الوضع يجلب لنا غيرة الآخرين».
انه ذات المنطق الذي يتباهى بالقوة، ويهون كثيراً من شأن العقل والحكمة. الامر الذي يشجعنا على القول بأن بيان المثقفين الامريكيين كان صوتاً استثنائياً، وان اداء البيت الابيض هو المعبر الاصدق عن الحقيقة الامريكية، واذا صح ذلك فإنه يدعوني الى مراجعة المنطوق الذي بسطته البداية، حيث يبدو الاصوب ان الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر لم تخسر نفسها، ولكنها كشفت عن وجهها الحقيقي الذي حجبته زمناً طويلاً الالوان الصارخة والاصباغ الكثيفة
فهمي هويدي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.