بَعْدَ نجاح ثورات الربيع الديمقراطي في أكثر مِن قُطر عربي؛ بَدَتِ الطّريق شِبْه مُمَهَّدة لصياغة مضامين جديدة للمشهد السياسي العربي والإسلامي، وفُرصة ثمينة لِنَحْتِ مفاهيم ومُعطيات وواقِع جديد يَصُبُّ في مصلحة القضية الفلسطينية، وبالأساس واقع قطاع غزّة المُحاصَر، الذي اسْتَبْشَرَ خيراً بزوال الطُّغمة العَسكرية المِصرية الظالِمة التي انحازت بشكل سافِر طيلة ما يُناهِز أربعة عُقود لصالح أطروحة الكيان الصهيوني المُجرِم وحَبْلَهُ السُّرِّي المادي والمعنوي الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومالَئَتْهُم وناصَرتْ اتفاقياتهم وبروتوكولاتهم ضِدّا على أشقائها العرب في الداخل الفلسطيني وفي القِطاع، كما استَبْشَرت بعودة دينامية المُساندة الرسمية والشعبية للقضية الفِلسطينية والاعترافات المُتتالِية بحق فلسطين في تقرير المصير والانعتاق من الاحتلال والإرهاب الصهيو – أمريكي، كما شَدَّت بالأكُفِّ الحارَّة على المُبادرات التي انطلقت في أكثر مِن بلد عربي ومُسلم وغربي، التي تَمثَّلت في الإسْناد المدني لقضية الشَّعب الفلسطيني العادلة، والدفاع الديبلوماسي في المحافل الدولية والعربية، وتنظيم الزيارات لحكومة حماس المُقالة وتقديم الدّعم والعون المادّي والتّقني والمعنوي لساكنة القِطاع المُحاصر المُجوَّع المُروّعِ منُذ سنين، وتدشين مشاريع الإعمار بعد التّخريب الهَمجي الظالِم الجبان الذي طال القِطاع في حَربَيْ 2009 و 2012م. إلاّ أنّ موجة الارتداد على خيارات الشُّعُوب المُنتَفِضة، وبُروز قُطَّاع طُرُق الربيع العربي في لَبُوسٍ أكَثَرَ رِجعية وعَمَالةً ومُمَالَئَةً لحُثالة الإمبريالية العالمية، وتنامِي الانقلابات العسكرية والبيضاء على الديمقراطية والديمقراطيين الإسلاميين في كلٍّ من مصر وتونس وليبيا واليمن، عَقَّدَ مِن واقِع القضية الفِلِسطينية وجمَّد إحداثيات الانتشاء بالانتصارات التي بدأت تقودُهَا القضية وقطاع غزّة الشامِخ بالأساس في ميادين الجِهاد والسياسة والمُجتَمع، وانعَكسَ انصرافُ كلِّ قُطر إلى مُعالَجة إشكالاته الطّارئة التي أتْقَنَ ناهِبو الأوطان وسارِقو أحلام الشعوب إعدَادَها وتمثيلها وإخراجَها ليوقِفوا الموج الهادِر لموجة التحرير الثانية وللجيل الجديد من الصحوة الديمقراطية والدينية في العالم العربي، (انعكس) بشكل سَلْبِي على قضية أشقَّائِنا الفِلسطينيين، فَخَفَتَ وهج المسيرات المليونية والتظاهُرات الاحتجاجية ضد السياسات الإسرائيلية، وقلَّ الحُضور السياسي والمَدني (الإسلامي والعَلماني والقومي والإنساني) ميدانياً وإعلاميا إلا فيما نَدُر. مِمَّا وفَّر لحكومة بني صهيون فُرصاً تاريخية لتمديد عُمْر الاتفاقيات المشؤومة وتجديدِ مضامين وطرائق تنزيلها في السياق المُعاصِر، وتَشديدِ القبضة الأمنية والعَسكرية والسياسية على المِلفّ الفلسطيني إجمالاً وغزّة على وجهٍ أخَصّ، لأنها البُؤرة الوحيدة التي انْفَلَتت من كُمَّاشة أطروحة "السلام والاستسلام" واستَعصَت على الذّوبان في بالُوعةِ خيار التّسوية الهزيل، والتّدجين في مسار مَشْهَدٍ سياسي تدبيري فلسطيني مُفَبْرَك ومُتحَكّم فيه وغارِق حَدَّ الرُّكَب في بيع فلسطين وثوابِتها شهراً بشهر ويوماً بيوم، الأمْر الذي جَعله _ بعد موجة الارتداد على الثورات العربية _ على مَرمى حجرٍ من مُخططات الكيان الصهيوني الجَهَنّميةِ غيرُ المُعتَرِفةِ بنجاحاتِ حركة المُقاومة على أرض الميدان في حرب الفُرقان والسّجيل والرصاص المَصبوب، وغيرُ الآبِهةِ بما وَصَلَتْ إليه أوضاع القِطاع جَرَّاء الحِصَار الخانِق الآبِق، حيثُ ازدادت حُمّى التّنسيق الأمني مع مِصر وحكومة عبّاس محمود لردْع المقاومة والفصائل الأخرى، وللرّفع مِن جاهِزية الجيش الصهيوني لابتِلاع أشْبَارٍ أخرى مِن بَرِّ غزّة وبَحْرِها وَجَوِّها، ومَدِّ يد التَّخَابُر والتّعاوُن مَعَ بَعض القوى العَمِلية في الخَلِيج لمُحاصرة أيِّ مُسَاعَدَةٍ إنسانية أو محاولةِ تَعْمِيرٍ وإنْقاذٍ لقطاع غزّة، وعَرقلة جهود قطر وتركيا، وصَدِّ المساعِي الدبلوماسية لبعض الدّولِ الحُرّة في الاعتراف بدولة فِلسطين، وقَمْع كلّ الأحْرار والحقوقيين والسياسيين الذين يعملون على تَجريم رُموز الدولة الصهيونية التي وُلِدت وعاشت في وِعاء أسطورة الهُولوكُوست حتّى أضحت ذاكِرتها وممارساتها مُشْبَعَةً بالرُّعب والعِشقِ الرَّهِيبِ للقتل والغَصْب والنّهب، وتَقديم مُذكّرات اعتقالٍ في حَقِّ قادتِها وإيداعِ مِلَفّاتِ تحقيقٍ في حقّ الانْتهاكات الجَسيمة لحقوق الإنسان والإبادات الجماعية التي يعرِفها القريب والبعيد. واليوم؛ وبعدَ مُرور تِسع سنوات وأشهُرٍ معدودةٍ عَلَى الحِصار الصهيوني الظالِم الغاشِم على قطاع غزّة (2006-2015م)، واستِحضاراً لكل السياقات أعلاه، ورَفْضاً لسياسة الآذان الصّماء التي يُتقِنُها المُنتَظَم الدّولي وسياسة المعايير المُزدَوجة التي تنهجُها إدارة البيت الأبيض تُجاه مِلف القِطاع، يُتابِعُ العالم حدثاً مركزيا هاماً يتمَثَّلُ في إعلان أسطول الحُرية الإبحارَ صوبَ غزّة للإسهام في فكِّ الحصار الآثِمِ عنها وعن أهلِها، بعدَ مُحاولات متعدّدة، مواصِلاً مسار المُبادرات السابقة التي قامت بها أساطيل أخرى سنتي 2008 و 2011م، والتي أبَتِ الرّكوعَ لإملاءات التّخويف الصهيوني ولا مُلائمات الوضع السياسي والقانوني العربي، وتَجَاوَزَت مُعيقات التراخيص والتمويل، وتَحدّت خِذلان الصمت العربي والتّواطؤ الأجنبي الرسمي على شعبٍ أعزل أفقَرَ، وانطلقت في مَهمّةٍ إنسانية آسِرة وإنجازٍ يبعثُ على الاعتزاز. إنَّ أسطول الحرية الذي سيرسو بميناء غزّة الاثْنين بحول الله؛ يُقدّمُ درساً جديداً في القيم الإنسانية المُتجاوِزة لحدود الجغرافيات وَوَهْم الإيديولوجيات وموقف الديانات وتباعُد الهويات وتَعدُّد المَرجِعيات، فَعَلَى مَتْنِهِ اجْتَمَعَتْ مُختلِفُ الجِنسيات (برلمانيون عرب، نُشطاء أوربيون وأستراليون وكَنَدِيون، رؤساء ونوّاب الحملة الأوربية لكسر الحِصار، فّنانون وموسِيقيون، مُمثِّلو وسائل إعلام عربية ودولية، الراهبة الإسبانية تيريزا فوركاديس..)، رجالٌ ونساءٌ لا تُلهيهِمْ ولَم تُقْعِدْهُم تِجارةٌ ولا بيعٌ ولا برلمانٌ ولا جامِعاتٌ ولا أسَرٌ عن تلبية واجب الإنسانية والضَّمِير وفِطرة الله التي فطر الناس عليه، ومُفارَقَةَ كُلِّ ذلك والإبْحار في خطر صَوب غزّة الأبية، مُدَلِّلين على قُدرة "المُمكن المَدني" في حال تَعذُّر أو تخاذُل المُمكن السِّياسي على المُساهمة في فكّ العُزلة وتخفيف وطأة الحصار عن أكبر سِجن في الدنيا، عن أقدم أسير في يد آسر، عن أرض مُحتَلّة في يد أقدم مُحتَلّ استعماريٍّ استيطانِيٍّ غاشم إلى حدود اللحظة. إنّ الإحساس بآلام المنكوبين في غزّة يستشعِرُها كلُّ فردٍ لا زالت لديه بقِيةٌ مِن ضميرٍ أو إيمانٍ أو نِداءِ فِطرةٍ داخِلية، آلام التهجير القسري والتّطهير العِرقي، آلام العُزلة الشعورية والوجودية عن العالم والمُحيط، آلام الفقر والحِرمان والقَهر، آلام الاستغلال والاحتلال؛ إنّه التّجمُّع العالَمي للألم والفقر والقهر، كيف لا يُحرِّكُ ضمائرَ هؤلاء الأحْرار ويستَنفِرَهُم لفَكِّ الحصار وإعادة شيءٍ من الأمل؟ أسطولُ الحُرية الثالث حَدثٌ إنسانيٌّ بامتياز، وبادِرة مدنية مُقاوِمة، تُعيد إلى الواجِهة جدلية الربط الوثيق بين الإنسان وأخيه الإنسان، بعيداً عن أيِّ انتماءٍ جغرافي أو وِحدة وطنية أو دينٍ جامِع، إنّهُ سَعْيٍ نبيلٌ للإسهام في نَحْتِ مَضْمُونٍ جديدٍ لمفهوم التضامن العبِر للقارات والأخوّة العالمية والإحسان، وصِناعة المُقاوِم الإنساني المُعادِي لكلّ معانِي الظُّلم، الشاعِر بآلام كلّ صَفعةٍ تُوجَّهُ إلى وجه أيِّ مظلوم وكأنها وُجِّهت إلى وجهه، المُهاجِر إلى العَدالة والحُرية وفي سبيل الحُرية، القائمِ على الدَّمْج والرَّبْط بين المُقاوَمَة العسْكرية والمُقاومة المَدنية باعتبارِهما (شقائق) في مُواجَهة الطُّغيان وصَدّ العُدْوَان، السَّاعِي إلى فَضْح الألاعيب الدولية والأراجيف الأُمَمِية، وتَعْرِيةِ عورات الصَّمت الدَّولي والعربي الرَّسْمِي، وطَيِّ صفحةٍ من سِجِلِّ المَكْر والخديعة والتَّحايل الذي تُمارِسه أمريكا والاتحاد الأوربي وكندا وحلف شمال الأطلسي في حقِّ الشَّعْب الفلسطيني ومأساته الكُبرى في الضّفة والقِطاع. لقد أبى أسطول الحُرية الحُرّ إلّا أن يُعيد قضية غزّة إلى صدارة الأحداث والمِلفات العالمية، رافِضاً الاسْتسلام لمختلف التّهديدات، ومُمانِعاً في سبيل إيصال الخُبز والمؤونة وكَمّيات من معاني الدّفء والتآزر الإنساني إلى الشَّعْب الآيل إلى الهلاك على مَرْآى ومَسْمعٍ مِن العالم أجمع، الشَّعْب الذي أنهَكَتْه خيانات عسكر كامب ديفيد في مصر وزُمرة اللئام في حكومات العهد الاستبدادي البائد، وقَمَعَتْهُ سِلْسِةٌ الاتفاقات السِّرية والعَلَنِية بين القِوى الكُبرى وفتاتِهم المُدلَّلة (إسرائيل)، وحاصَرتْهُ مخططات أوسْلو، وتينْت، وفيلاديلفيا، وكامب ديفيد، وكِيري، وغيرها)، واغتالتْ حَقّه في الحياة مُجَنْزَرات الجيش الصهيوني التي اجتاحت أرضه وبَحْرَهُ وسمّمت سماءه في أكثر مِن (حَربٍ) قذِرةٍ عُدوانِية جبانةٍ. ولكن رغم كلِّ هذا الظلم والحِصار الحاصِل، الشّعبُ قرّر رفْعَ راية العِصْيان، واستعْصى على الذَّوبان، وانْحازَ إلى خيارِ المُقاومة والمُمانعة وصَدّ العُدْوان، بِكُلِّ ما أوتِيَ مِن قوّة وعزيمةٍ واستعدادٍ وصَبْرٍ استثْنَائِيٍّ وإيمان، يُناصِره في معركَتِه التّحرّرية شرفاءُ الأمّة وأحرارها وعلماؤها وشُعراؤها وقادة الصحوة الدينية والديمقراطية وطُلاب الحقّ والحقيقة فيها، ويُؤازِرهُ في مِحنته المُؤلِمة وحِصاره المَقيت نفَرٌ مِن أحرار العالم؛ أحياءُ الفِطرة وأسوياءُ الضَّمير فيه، ويُفْدُونَهُ بالكلمة والمُبادرة والأموال والأنفُس، وفي طليعة هؤلاء _ وآخرون لا نعلمهم الله يعلمهم _ رُوّادُ الحُرية التضحية والتّحرّر على مَتن أسْطول الحُرية الثالث. إنّ كلَّ أشْكَالِ التّهديد والوعيدِ والغَطرسة الصهيونية ولُغة القتل التي لا يتورَّع عن قولها واعتمادها وممارَستها العِجل الإسرائيلي المُقدَّس في حقّ شعبنا الغزّاوي البَطل، وفي حقّ المُقاوِمين والشُّرفاء والأحرار الذي يُبحِرون في كلِّ مرّةٍ صوبَ غزّة المُحاصَرة؛ وإنَّ المُحَاوَلات الغَبِية للتّعتيم على هذا الحدث الهام بِخَلْق حالاتٍ من الإرهاب المَصْنوع والمدعوم هنا وهناك (حالة تونس والكويت وفرنسا قبيل أيام) لصَرْفِ الإعلام والناس عن حماية الأسطول والدعاء له والتضامن معه؛ ستبقى مُحاولات واهنة كَبَيْتِ العنكبوت، وبُقْعةُ زيتٍ في بَحْرِ شَعْبٍ وأمَلٍ وصُمُودٍ وضمائر إنسانية تأبى أن تموت.