في يوم شديد البرد من أيام الشتاء القارس وقف أمام باب مكتبي رجل عجوز يرتدي ثيابا رثة ووسخة يطلب مقابلتي، أسرعت في إدخاله ليقضي مأربه ويعود إلى بيته عساه ينعم بداخله ببعض الدفء. استقبلت الرجل لأستمع إلى شكايته، كان يئن من شدة البرد الذي تمكن من جسده الضعيف، وشدة الحزن الذي امتلك كيانه، يداه ترتجفان ولا يكاد يقوى على الحديث من شدة الألم الذي يحرق فؤاده. لم يستطع الرجل الكهل التحكم في دموعه التي استبقت حديثه، وبكلمات متناثرة اشتكى من ظلم ابنته له، قال إنها قامت بطرده من بيتها في ظلمة الليل، وفي ذلك الجو الممطر، وأكد أنها لم تعد تطيق تحمل مسؤوليته ولا إعالته ولا مكان يأويه من الشارع ومن برودة وقساوة الجو. آلمني هذا الموقف كثيرا، بادرت بسرعة إلى فتح بحث تمهيدي من طرف الضابطة القضائية، وبالموازاة أمرت ببحث اجتماعي للوقوف على حقيقة الأمر على أرض الواقع، وبعد استكمال معطيات البحث، تم تقديم الإبنة أمامنا للإدلاء بدلوها فيما قاله والدها، سألتها عن سبب امتناعها على إيواء أبيها الطاعن في السن وحاولت إقناعها أن تتراجع عن فكرة طرد والداها والاهتمام به، لكن صدمت لهول المفاجأة وهي تصر على رفضها تحمل مسؤولية والدها الذي لا حول له ولا قوة، في تعنت واضح، بل أكثر من ذلك عملت بعد ذلك على إغلاق باب منزلها و غادرت في اتجاه مجهول. أمام هذا الوضع الإنساني المؤلم وفي غياب توفر المدينة على أي مركز لإيواء المسنين، وكذا جمعيات المجتمع المدني أو أطباء نفسيين لمواكبة هذه الحالة، وكذا لحالة التشرد والبؤس الذي أصبح يعيشها هذا المسكين، نجد أنفسنا أحيانا مكبلين ومحرجين أمام حاجة المواطن لمكان اجتماعي يأويهم خاصة حين يلجؤون إلى القضاء لحمايتهم حتى ممن تربوا في كنفهم لسنوات، أجريت عدة اتصالات بشكل شخصي خاصة وأن الشيخ المسكين ظل مرابطا أمام المحكمة بحثا عن المساعدة، بعد محاولات عديدة بحثا عن مؤسسة رسمية أو جمعية تشتغل في هذا المجال تأوي ذلك الرجل المسن، استجابت مؤسسة محمد الخامس للتضامن بسرعة لإيواءه بمركز المسنين بالرباط . وبعد مرور شهر و نصف تقريبا، وجدت الشخص ذاته أمام مكتبي ينتظر دخولي ليقابلني ثانية، كان يرتدي ثيابا نظيفة، حليق الذقن والابتسامة تعلو وجنتيه. سعدت لرؤيته بهذا الشكل حتى قبل أن يحدثني عن ظروفه، بادرت إلى سؤاله عن سبب مجيئه فقال لي بالحرف الواحد " أنا جئت فقط لأشكرك، فأنت أحسنت إلي و أدعو الله أن يحسن بأبناءك" . هذا الموقف أثر كثيرا في نفسيتي و طرح عدة علامات استفهام حول العلاقات الإنسانية في مجتمعنا، وكذا الأسرية، ومنها الإحسان بالوالدين الذي وصل للأسف لدى البعض إلى الحضيض. إن مشكلة هذا الرجل الكهل الفقير، تطرح أيضا إشكاليات إيواء المسنين والنساء المعنفات والأطفال في وضعية صعبة وعلاقة القضاء بالمراكز المؤهلة لذلك، خاصة في المدن البعيدة، و التي تفتقر إلى البنيات التحتية الخاصة برعاية الفئات الهشة، فالقضاء وحده لا يمكن أن يتحمل معالجة مثل هذه الوضعيات إذا لم تكن هناك إرادة سياسية واستراتيجية مبنية على المقاربة التشاركية للتغلب على هذه المشاكل التي تطرح يوميا أمام القضاء. وكيل الملك بابتدائية الرماني