اعتقال بوق النظام الجزائري بن سديرة من قبل الشرطة الفرنسية    حسنية أكادير ربحو ليفار وعطاو كادو للرجاء    طنجة تتصدر مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة    تحديد هوية جثة لفظتها امواج البحر نواحي الحسيمة    الرئيس الفلسطيني وزعماء دوليون يعقدون محادثات بشأن غزة في الرياض    بفضل فوائده وجودته.. منتوج العسل المغربي يطرق أبواب السوق الأوروبية    الشرطة تلقي القبض على صينيين بتهمة قرصنة المكالمات الهاتفية في "كازا"    بعد مشادات مع كلوب.. صلاح: حديثي سيشعل الأمر    الأمثال العامية بتطوان... (584)    البرلمان العربي يهتم بالذكاء الاصطناعي    المصادقة على "قميص الخريطة" لبركان    الرشيدي يعلن اختتام أشغال مؤتمر الاستقلال بالمصادقة على البيان العام وأعضاء المجلس الوطني    زلزال قوي يضرب سواحل جاوا بإندونيسيا    يتضمن "تنازلات".. تفاصيل المقترح الإسرائيلي لوقف الحرب    توافد غير مسبوق للزوار على المعرض الدولي للفلاحة بمكناس    وزان ..تحديد أفق إطلاق مشروع دار الاقتصاد الأخضر    اتحاد العاصمة باغيين يلعبو وخايفين من الكابرانات: هددو ما يلعبوش ويرجعو فالطيارة اليوم للجزائر وفاللخر مشاو يترينيو    إندونيسيا.. زلزال بقوة 5ر6 درجات قبالة جزيرة جاوا    بعد تلويحه بالاستقالة.. مظاهرات حاشدة بإسبانيا دعما لرئيس الوزراء    تعزية في وفاة خال الدكتورة إسلام أخياظ    صافرة كونغولية لمباراة نهضة بركان واتحاد العاصمة الجزائري    الملك: علاقات المغرب والطوغو متميزة    "حماس" تعلن ارتفاع عدد القتلى في غزة    وزير الصحة يدشن مستوصفات جديدة    إسبانيا تعترض 25 طنا من المخدرات    إسدال الستار على فعاليات "ليالي الفيلم السعودي" في الرباط    مؤتمر حزب الاستقلال يستعيد الهدوء قبل انتخاب الأمين العام واللجنة التنفيذية    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    تتويج شعري في ملتقى الشعر والفلسفة    التلميذة فاطمة الزهراء ضحية مدير ثانوية "التقدم" فمولاي يعقوب فتصريح ل"كود": هادي 3 سنين والمدير كيتحرش بيا وكيدير هادشي مع بزاف دالبنات    نادية فتاح: المغرب يتيح الولوج إلى سوق تضم حوالي مليار مستهلك بإفريقيا    العلماء يعثرون على قبر أفلاطون بفضل الذكاء الاصطناعي "صورة"    جاري القروض الصغرى المستحقة يصل إلى 8,4 مليار درهم في متم 2022    رحلة الجاز بطنجة .. عودة للجذور الإفريقية واندماج مع موسيقى كناوة    توقعات أحوال الطقس غدا الأحد    مظاهرة حاشدة في مدريد لدعم رئيس الوزراء وحثه على البقاء    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح وآثم من فعل ذلك    بلغت تذاكره 1500 درهم.. حفل مراون خوري بالبيضاء يتحول إلى فوضى عارمة    مجلس الأمن .. حركة عدم الانحياز تشيد بجهود جلالة الملك لفائدة القضية الفلسطينية    الخارجية البريطانية: ملتازمين بتعزيز وحماية حقوق الإنسان فالصحرا وكنشجعو الأطراف باش يواصلوا جهودهم فهاد الصدد    ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء بالمغرب    مؤتمر الاستقلال يمرر تعديلات النظام الأساسي ويتجنب "تصدع" انتخاب القيادة    تفاصيل وكواليس عمل فني بين لمجرد وعمور    السعيدية.. افتتاح النسخة الثامنة من تظاهرة "أوريونتا منتجعات السعيدية – حكايات فنية"    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    الأمثال العامية بتطوان... (582)    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الجليل بوزوكار: حلي بيزمون بالصويرة.. هل ارتبطت بنشأة اللغة؟
نشر في بيان اليوم يوم 15 - 03 - 2024

استطاع عبد الجليل بوزوكار، الباحث الأثري لما قبل التاريخ، أن يميط اللثام عن أحد أهم الاكتشافات الأثرية، وهي حلي مغارة بيزمون بالصويرة، التي تعتبر الأقدم في التاريخ (150000 سنة). في هذا الحوار، يحدثنا مدير المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، عن حيثيات هذا الاكتشاف الذي يرجع لسنة 2004، كما يحدثنا عن الإضافة التي قدمها هذا الاكتشاف لفهم الإنسان العاتري، معتبرا أن صنع هاته الحلي، مرتبط بشكل منطقي بنشأة اللغة في هاته الفترة من ما قبل التاريخ، مما يبرز الدور الكبير الذي لعبه المغرب في جزء من تاريخ البشرية. كما يحدثنا الباحث الأركيولوجي عن بدايات تأسيس المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث مع الراحلة جوديا حصار بنسليمان، وكذا عن فترة رئاسته له منذ يوليوز 2022، والمشاريع التي يشتغل عليها لتطوير المعهد، مبرزا دور الوزارة الوصية الحالية في دعم الأركيولوجيا المغربية ماديا ومعنويا. كما يحدثنا، بوزوكار، عن تفاصيل تأسيس المعهد لمدرسة مغربية في التحقيب لما قبل التاريخ بانفصال عن المدرسة الفرنسية والإرث الاستعماري.
حدثونا عن نشأتكم والدهشة الأولى بعلم الآثار..
نشأت في أسرة أقل من متوسطة، والدي رحمه الله كان في الجيش، ووالدتي كانت ربة بيت، سخرت عائلتي كل جهدها لأتمم دراستي. درست في المدرسة العمومية بمدينة مراكش وأفتخر بذلك. حصلت على البكالوريا في نفس المدينة قبل أن ألتحق بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، كان علم الآثار يستهويني دائما، وقد حسمت في التخصص وأنا في الثانية عشرة من عمري، بفضل أستاذة فرنسية درستنا في الإعدادي وقد كانت تحدثنا عن علم الآثار فأحببت الميدان وأردت اكتشافه خصوصا حينما أرتنا بعض القطع الحجرية عمرها آلاف السنين. وجدت ذاتي في المعهد الذي درست فيه أربع سنوات لأتخصص في علم الآثار لما قبل التاريخ، بعد ذلك، قضيت فترة وجيزة في المتحف الأثري والإثنوغرافي بطنجة في إطار الخدمة المدنية، ثم حصلت على منحة في إطار التعاون المغربي الفرنسي سنة 1992 لألتحق بجامعة بوردو 1 للعلوم والتقنيات في فرنسا، حيث حصلت على دبلوم الدراسات المعمقة في الأنثروبولوجيا الفيزيائية وما قبل التاريخ، أما في الدكتوراه فقد تخصصت في جيولوجيا العصر الرباعي وما قبل التاريخ، فيما أخذت الدكتوراه الثانية في الأركيولوجيا من جامعة لييج في بلجيكا. صحيح أنني في فرنسا تعمقت في الدراسة، لكن النواة الصلبة لتكويني كانت هنا في المعهد، وأفتخر بذلك. دهشتي الأولى بعلم الآثار ارتبطت بالاكتشافات، خاصة في التداريب حينما كنا نذهب للمواقع الأركيولوجية ونشاهد الاكتشافات، كان الأمر بالنسبة لنا خارقا للعادة. أذكر أن أولى التداريب التي قمت بها كانت في سجلماسة مع بعثة مغربية أمريكية، حيث اكتشفنا مجموعة من الأواني الفخارية.. وكلما عثرت على لقى ما أقول في نفسي أنا أول من لمس هاته الأداة أو العظم بعد آلاف السنين.. إحساس لا يمكن وصفه إلا إذا جربه الإنسان. كان للأستاذة الراحلة جوديا حصار بنسليمان بالغ الأثر علي، لأنها المديرة الأولى للمعهد، بالرغم من أنني لم أدرس عندها ولم نكن في نفس التخصص، بحكم أنها كانت تشتغل على الأركيولوجيا الإسلامية، لكنها أثرت في من خلال طريقتها في التعامل مع الطلبة، وأيضا من خلال احتكاكي بها في الفترة التي التحقت بالمعهد واشتغلت فيه معها قبل أن تتقاعد، كانت إنسانة عظيمة وأعطت الكثير للأركيولوجيا المغربية. أنتم في رئاسة المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث منذ 2022، ماذا تعني لكم هاته المسؤولية؟
هي فعلا مسؤولية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فحينما نتقدم كأفراد للمباراة، يجب أن نكون حاملين لمشروع بهدف تطوير المؤسسة، وحينما ننجح، يصبح المشروع جماعيا، إذ نحاول إشراك جميع الأطراف لنعرف ما يمكن أن نحتفظ به وما يمكن تطويره.. لهذا، فالمجهودات هي مجهودات جماعية تشمل الأساتذة والطلبة وليس الطاقم الإداري فقط. تعد المملكة منطقة مهمة لدراسة الجنس البشري، وخير دليل أهمية اكتشافات موقع جبل إيغود ومغارة الحمام بتافوغالت.. هل تعتقدون أن الباحث يميل أكثر للتخصص في الأبحاث الأثرية في فترات كالوسيط والحديث والمعاصر.. مقارنة مع التخصص في ما قبل التاريخ؟
في نظري، ليس هناك بحث صعب وبحث سهل، إنه الشغف الذي يحرك الباحث، وهو ما يجعله يتغلب على الصعوبات في الميدان وفي المختبر. في دراسة ما قبل التاريخ، ربما تكمن الصعوبة في أننا لا نعتمد على الوثيقة المكتوبة، بل على الوثيقة المادية، بمعنى نقوم باستنطاق الشهادات المادية، التي تكون عبارة عن حجارة، أو فخار أو عظام بشرية أو حيوانية.. ربما تكمن صعوبة ما قبل التاريخ في استنجاده بالعلوم الطبيعية والعلوم الفيزيائية والكيميائية.. وهي أمور يجب ضبطها في المختبر. بالنسبة لكم، هل هناك نقص في الأطر المتخصصة في ما قبل التاريخ؟ وهل المعهد يركز أكثر على تكوين أطر في هذا التخصص؟
بالفعل، هناك نقص في الأطر المتمرسة، لأن المعهد جامعي يكون ويخضع لنفس أسلاك الجامعة، بمعنى الإجازة فالماستر ثم الدكتوراه. لكي تكون عالم آثار متمرسا ومعترفا بك، يجب أن تخضع لتكوين لا يقل عن 10 سنوات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المواقع الأثرية تكون مختلفة، بالتالي فالأطر المتمرسة والمتخصصة سنحتاجها دائما في جميع التخصصات وليس في ما قبل التاريخ فقط. والمعهد لا يركز على تخصص أكثر من الآخر، كما أننا نحاول في كل سلك أن نلائم التكوين (البحث الأثري والأنثروبولوجي) مع سوق الشغل، كي يستطيع الخريجون إيجاد فرص شغل في جميع الأسلاك (إجازة، ماستر، دكتوراه). البدايات الأولى للأبحاث الأثرية في فترة ما قبل التاريخ كانت نهاية القرن التاسع عشر. لكن الأبحاث الأهم أجريت في فترة الحماية. هل يمكن أن تحدثونا عن أهم أبحاث هاته الفترة؟
فعلا البحث الأثري في المغرب بدأ نهاية القرن التاسع عشر، وقليلة هي البلدان التي بدأ فيها البحث في هاته الفترة (ما قبل التاريخ)، وهذا يعني أن الباحثين الأوائل الذين جاؤوا إلى المغرب، فهموا أهمية الموقع الجغرافي للمغرب نظرا لانفتاحه على البحر الأبيض المتوسط وعلى العمق الصحراوي وكذلك على الواجهة الأطلسية، وأيضا لاحتوائه على مجموعة من الفضاءات الإيكولوجية التي أعطته خصوصية ليكون متنوعا في ما قبل التاريخ. لهذا، فكل تلك الاكتشافات مهمة لأنها لم تغير فقط تاريخ المغرب وإنما جزء من تاريخ الإنسانية. خلال فترة الحماية كانت هناك مجهودات جعلتنا نتعرف على مجموعة من المواقع، كما تمت الحماية القانونية لمجموعة منها. بالنسبة لأهم الأبحاث فقد كانت في موقع سيدي عبد الرحمان بالدار البيضاء، الذي ترتب كتراث وطني عام 1951، ثم الأبحاث المهمة التي أجريت في مغارة الحمام بتافوغالت، والأبحاث التي أجريت في القبيبات نواحي الرباط، وأيضا في مغارة المهربين بتمارة. أجريت الأبحاث، أيضا، في موقع مهم وفريد من نوعه وهو موقع مزورة قرب أصيلة. في المنطقة الدولية لطنجة، أيضا أجريت مجموعة من الحفريات خاصة في المغارة العالية بطنجة. في الشمال، دائما، هناك مغارة في سوق القلة بالضبط عثر فيها على رسومات بالصباغة، وهي غير بعيدة عن القصر الكبير. ثم في الجنوب المغربي بالصحراء، أجريت مجموعة من الأبحاث من طرف الإسبان، وكانت تهم بعض المواقع السطحية والنقوش الصخرية. بالنسبة لي، ليس هناك فرق بين المدرستين الفرنسية أو الإسبانية، ربما الفرق في المدرسة الأمريكية التي اشتغلت في المغارة العالية بطنجة، وسيظهر الفرق خلال النشر العلمي، وهو اختلاف يوجد أيضا في المدرسة البريطانية والألمانية. بعد استقلال المغرب، وقبل تأسيس المعهد الوطني لعوم الآثار والتراث عام 1985، كيف كانت وضعية البحث الأثري في المغرب، وهل كانت الأطر المغربية تدرس في الخارج ثم ترجع لإجراء الأبحاث الأثرية في المغرب؟
قبل إنشاء المعهد كانت هناك فقط مصلحة الآثار بوزارة الثقافة والتي كانت تشرف عليها الأستاذة جوديا حصار بنسليمان، إلا أنها لم تكن تكون الأطر بل كانت تتولى الإشراف على الأبحاث في المغرب إما بشكل مستقل أو عن طريق التعاون الدولي، لكن في تلك الفترة لم تكن الأطر مغربية مائة بالمائة، بالتالي، كان المغرب ما يزال يستند على التعاون الدولي وخاصة مع فرنسا التي ساعدتنا كثيرا. كانت المصلحة تأخذ من الجامعات المغربية الأطر في التخصصات القريبة من علم الآثار كالتاريخ والجيولوجيا والسوسيولوجيا. كان التكوين عن طريق البحث، وهو أمر مهم وأثبت نجاعته، لأنه أنتج لنا أطرا متمرسة. بعد أن اتخذت وزارة الثقافة قرار إنشاء معهد الآثار، حدثت طفرة نوعية كبيرة غيرت مجرى البحث الأثري والأنثروبولوجي في المغرب. ربما نحن بدأنا متأخرين مقارنة مع دول أخرى، ولكن التحقنا بالركب العالمي بسرعة، فيما يخص الأبحاث والتكوين. دخل المعهد في شراكات مع دول خصوصا مع فرنسا وإسبانيا لتكوين الأطر المغربية، إذ أتاحت لنا هاته الشراكات تحضير الدكتوراه عن طريق منح استفاد منها العديد من خريجي المعهد في تلك الفترة. حدثونا عن دور الراحلة جوديا حصار بنسليمان في تأسيس المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث؟
بدون مبالغة، لا يمكن أن نتصور أنه قبل سنة 1985، كانت هناك امرأة حاصلة على الدكتوراه وتحمل هم البحث الأثري والأنثروبولوجي في المغرب، بل وتقوم بتكوين فريق قوي. فهمت الراحلة بسرعة أنه يجب أن تضع نواة للتكوين، بل وجعلت من معهد الآثار الوحيد في المنطقة المغاربية وفي شمال إفريقيا الذي يقوم بالبحث والتكوين في نفس الآن. كما أعطت للباحثين والأساتذة الحرية في الشراكات مع مدارس مختلفة كالإنجليزية والأمريكية والألمانية.. لاكتساب الخبرة والتكوين وهو ما جعل المعهد يفهم بشكل دقيق ما يجري في الأبحاث بالعالم ليستطيع تطبيق ذلك في المغرب. كل هاته الخيارات أكسبتها الرهان مع وزارة الثقافة لخلق المعهد ثم لمد الوزارة بالأطر الكافية لتسيير مؤسساتها الثقافية، لدرجة أنه في تلك الفترة كل المتاحف المغربية كانت تدار من طرف خريجي المعهد. وأظن أنها وصلت للمغربة بدون الانقطاع عن التعاون الدولي. مع الأسف توفيت قبل أن ترى نتائج تدبيرها الذي كان فيه بعد نظر، لأنها لم تحضر لبعض الأبحاث التي غيرت وجه الإنسانية، مثل مغارة بيزمون وإيغود والحمض النووي الأحفوري بتافوغالت.. إلا أن الأركيولوجيا المغربية وصلت بفضلها لما وصلت له الآن، ولربما يذكرني الدعم الذي أعطته الراحلة للأركيولوجيا بالدعم المادي والمعنوي الذي توفره الوزارة الوصية حاليا، والذي بكل صدق، لم نر مثله في تاريخ المعهد. ما هي الإجراءات التي يتخذها معهد الآثار للحفاظ على المواقع الأثرية لما قبل التاريخ؟
إن مسألة تدبير التراث في شق الحفظ والصون هو من اختصاص مديرية التراث التابعة لوزارة الثقافة، أما المعهد فيقوم بالبحث والتنقيب ليس فقط في فترات ما قبل التاريخ ولكن أيضا في المواقع التاريخية كالمورية والمورية الرومانية أو في الفترة الإسلامية الوسيطية.. نحن نقوم بالأبحاث ولكن صون المواقع وتدبيرها فيما بعد هي مسألة ترجع لمديرية التراث كما أسلفت. في هذا الصدد، أحب أن أتحدث عن مشروع كبير كان ينتظره المعهد منذ بداياته، وقد اشتغلنا عليه مع مديرية التراث وهو الخريطة الأثرية التي تعطينا صورة معينة عن توزيع المواقع كيفما كانت حقبتها. في حالة مواقع الفترات التاريخية فإنها تكون عبارة عن عمران، لكن مواقع ما قبل التاريخ، إن لم تكن مغارات من الصعب معرفتها إلا من طرف المختص. الخريطة موجودة وهي حاليا مع وزير الثقافة، محمد مهدي بنسعيد، لكن لم يتم الإعلان عنها بعد بشكل رسمي. لكن هذا المشروع سيبقى دائما مفتوحا لأننا لا نعرف مواقع المغرب بأكمله. في أحد مؤتمرات اليونسكو، اقترحتم تحقيبا جديدا لعصور ما قبل التاريخ في شمال إفريقيا، بناء على معطيات الأبحاث الأثرية المغربية، ما هي انتقاداتكم أو ملاحظاتكم لمسألة التحقيب؟ وإلى أي حد هذا التحقيب كان يخدم الفترة الكولونيالية؟
منحت لي فرصة المشاركة في هذا المؤتمر الذي نظم بين اليونسكو وإمارة موناكو، حيث أتشرف بالعضوية في اللجنة العلمية لمتحفها بعد تعييني من طرف أمير موناكو. في هذا المؤتمر أتيحت لي الفرصة لتقديم قراءة بناء على المعطيات المتوفرة والنتائج التي لدينا لتقديم مقترح تحقيب جديد، لأن تحقيب الحماية أصبح متجوازا. لا أستطيع القول إن التحقيب الكولونيالي كان يخدم أجندة معينة، إلا أنه في فترة الحماية كان هناك تأثر بتيار يقول بأن المركز هو أوربا، والفرع هو باقي العالم، بالتالي، فأي لقى أثرية كانوا يحاولون أن يجدوا لها ملاءمة أو مقارنة مع ما هو موجود في أوربا، مثل تسمية الآشولي، نسبة إلى Saint Acheul في فرنسا.. حتى في الستينات قاموا بنسب جمجمة وجدت في جبل إيغود إلى النيارديرتال. لكن تبين الآن، من خلال الأبحاث التي أحدثت بالمغرب، بأنه لا يمكننا أن نظل معتمدين على هذا التحقيب، بل نحن في حاجة إلى تحقيب جديد يأخذ بعين الاعتبار كل الأبحاث التي أجريت في المغرب، لأن التحقيب القديم لا يخدم البحث العلمي. هل المعهد بصدد التأسيس لمدرسة مغربية للتحقيب، تعكس خصوصيته كبلد شمال إفريقي مقابل التخلي عن الإرث الاستعماري والمدرسة الفرنسية..
المعهد فعلا أسس لمدرسة مغربية في التحقيب خاصة في الفترات القديمة بانفصال عن الفترة الاستعمارية والمدرسة الفرنسية. لأننا أصبحنا ننشر هذا التحقيب في الكتب والمجلات العلمية المحكمة التي لديها مصداقية في العالم. هذا التحقيب الجديد هو بالتأكيد نابع من الأبحاث الأثرية، دون أن نغفل الفترات التاريخية التي عرفت الوثيقة المكتوبة، والتي يكون فيها تزاوج بين علم التاريخ وعلم الآثار. أشرفتم على البحث الأثري في مغارة بيزمون بالصويرة الذي أسفر عن اكتشاف كان له صدى كبير عالميا، وهو أقدم الحلي في التاريخ والتي ترجع إلى الثقافة العاترية (العصر الحجري القديم الأوسط)، هل يمكن أن تحدثونا عن حيثيات هذا الاكتشاف وأهمية هذا الموقع؟
اكتشاف مغارة بيزمون بالصويرة لديه تاريخ يعود لسنة 2004، في تلك الفترة، كانت الراحلة جوديا حصار بنسليمان تشجعنا على تنظيم فرق بحث وطنية مغربية، وأنا اخترت الاشتغال على منطقة الصويرة، وبحثت عن دعم مادي إضافي للدعم الذي أعطتنا إياه الراحلة من طرف المركز الوطني للبحث العلمي والتقني بشراكة مع المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا. اشتغلت مع أستاذ سابق لي في فرنسا، وذهبنا للصويرة وبدأنا نقوم بالتحريات، أي الخريطة الأثرية للبحث عن المواقع، واشتغلنا على الصور الجوية والخرائط الجيولوجية والطبوغرافية. خلال عمليات التحريات والمسح الأثري، اكتشفنا مغارة بيزمون بجبل الحديد، واتضح منذ النظرة الأولى أن هناك مؤشرات في المغارة حينما وجدنا أدوات حجرية وبعض العظام على السطح، وعرفنا أنها آتية من عمق المغارة، انطلقنا أيضا في اختبارات كاختبار أولي لمعرفة ماذا بداخل المغارة، فعرفنا أنها قديمة جدا. لم تكن لدينا حينئذ الإمكانيات، لأن التنقيب في حد ذاته تدمير خصوصا في ما قبل التاريخ، فإذا نقبت في طبقة ما يجب عليك أن تأخذ منها أكبر قدر من المعلومات، وهو الأمر الذي يتطلب إمكانيات بشرية ومادية وتقنية، وكلها لم تكن متوفرة حينذاك. فبدأنا نبحث عن إمكانيات هامة، وفي سنة 2011، بعد زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية، استطعت تدبير تمويلات وبدأنا الحفريات عام 2014، وجدنا الحلي وأشياء أخرى لم تنشر بعد. وبالحديث عن تلك الحلي، فقد اكتشفناها في سنوات 2015 و2016 و2017 و2018 و2019 وأخذنا وقتنا لإتمام الدراسة التي نشرناها سنة 2021، لأن علم الآثار يتطلب التأني في ظل غياب الوثيقة المكتوبة. وقد أعدنا نتائج التأريخ مرتين لنتأكد مائة بالمائة باستعمال تقنيات مختلفة. وأوضحت لنا النتائج أن المغرب لعب دورا كبيرا في جزء من تاريخ البشرية، وليس لدي أي مشكل في القول بأنه في فترة من الفترات القديمة جدا، كان المغرب هو المركز والحلي التي عمرها 150000 سنة تظهر ذلك، لأن المغرب هو المنطقة الجغرافية الوحيدة في العالم التي فيها مواقع عديدة عثر فيها على هذا العدد الكثير من الحلي. كعالم آثار، أقول دائما بأن أشياء مثل هاته الحلي التي تعكس بعض الرموز، دائما يكون عندها مركز، لا تكتشف بشكل عرضي في مناطق مختلفة، وانطلاقا من المركز يكون الانتشار، وأظن أن المغرب لعب هذا الدور، ما لم يثبت العكس. لا أقول هذا من جانب الإفراط في الوطنية ولكن بكل موضوعية لأن الدلائل المادية تقول بأننا لعبنا دورا منذ 150000سنة وهو أمر لا يمكن تخيله، بأن الإنسان لأول مرة في تاريخ البشرية جعل من جسده إطارا ليتخاطب مع أفراد مجموعته ومع الآخرين، لأن تلك الحلي مصنوعة من قواقع بحرية من نوع واحد فقط، أي أنه بالرغم من أن هناك مجموعة من الأنواع، إلا أن الإنسان العاتري اختار نوعا واحدا فقط من تلك القواقع وهو نفسه الموجود في جنوب إفريقيا وفي الجزائر والشرق الأوسط. هذا من جهة، من جهة أخرى، تلك القواقع قام الإنسان بطلائها بمادة تسمى المغرة الحمراء، وهذا اللون الأحمر لديه دلالة، لأنهم كانوا يرونه حينما كانوا يقومون بالصيد أو في الدم أثناء حدوث جروح، إذن فالدم بالنسبة لهم هو الحياة. تلك الحلي أيضا تخفي قواقع لا تتعدى 3 سنتيمترات، أي أنه لم تكن تجمع للأكل بل لاستعمالها كحلي. الأمر الثاني هو أنهم كانوا يقطعون مسافة 50 كيلومترا من المغارة إلى البحر على الأرجل من أجل جمع نوع معين، ويقومون بثقبه لارتدائها على شكل قلادة أو على شكل أساور فوق ثيابهم. وعملية إعداد هاته الحلي في حد ذاتها لا يمكن أن تكون بدون لغة وخطاب. وهذا ما يدفعنا لطرح السؤال التالي: هل يمكن أن نقول بأن صنع الحلي واستعمالها يوازي نشأة اللغة التي لا نعرفها؟ مع كامل الأسف في ما قبل التاريخ لم يكن التدوين، لهذا لن نستطيع الإجابة بشكل حاسم، لكن منطقيا يمكن القول إنه كانت هناك لغة. في المغرب لدينا أقدم إنسان عاقل 315000 سنة، وأقدم عملية جراحية في العالم عمرها 15000 سنة، وأقدم حلي في العالم 150000 سنة، وأقدم آثار للاستقرار 15000 سنة، وأقدم حمض نووي أحفوري، وأقدم أدوات لحياكة الملابس، وأقدم آثار لاستعمال ثمار بعض النباتات، وهي كلها دراسات منشورة في مجلات علمية محكمة.. علميا وبحكم التراكم فالمغرب لعب دورا كبيرا في فترة ما قبل التاريخ. كيف تتم عملية التأريخ؟ وما هي الإضافة التي قدمها هذا الاكتشاف لفهم الثقافة العاترية؟
هناك طريقتان للتأريخ، الأولى ما يسمى بالتأريخ النسبي، والذي نبنيه على طبيعة بعض اللقى الأثرية التي يمكن أن نعرف تاريخها بشكل تقريبي من خلال النظرة فقط. أما الطريقة الثانية، فتسمى بالتأريخ المطلق، وتتم في المختبر، وتكون مبنية على الفيزياء التطبيقية، أي أنها تكون أكثر دقة. ومن بين التقنيات المستعملة فيها هناك الكربون 14 والإشعاع الضوئي، لأنه يفوق حد الكربون 14 الذي لا يتجاوز في التأريخ 50000 سنة، بينما الإشعاع الضوئي يستطيع التأريخ لآلاف السنين. وبعض هاته التقنيات متوفرة في المغرب. هناك تقنيات أخرى نسعى لتطويرها في المعهد، ونحن الآن بصدد إنشاء مختبر خاص بالتأريخ، وسيكون منفتحا على المواقع الأثرية بالقارة الإفريقية ككل. بالنسبة للإضافة التي قدمها هذا الاكتشاف لفهم الثقافة العاترية، تبين لنا أن الإنسان العاتري لعب دورا كبيرا مثل إنسان نياندرتال الذي لعب دورا في أوربا وفي مناطق من آسيا. حيث استطاع (الإنسان العاتري) أن يبدع الصباغات والمغرة الحمراء، وبعض التقنيات في الصيد عن بعد باستعمال الرماح ورؤوس الرماح، وكما سبق وأشرت فربما لعب دورا في بروز لغة معينة. سبق لوزير الثقافة، محمد مهدي بنسعيد، أن صرح بأن الوزارة تدرس إمكانية إنشاء ملحق لمعهد الآثار في الصويرة وفي المواقع الأثرية المهمة، أين وصل هذا المشروع؟
المشروع مهم جدا.. وهو في طور الإنجاز.. والمقر موجود بالصويرة، وقد زرته مؤخرا. وهناك مجموعة من الملحقات ستكون تابعة للمعهد ليكون المعهد قريبا من الجهات التي ستشمل حتى الجنوب المغربي. ستكون أيضا ملحقات متخصصة، والتي ستكون الأولى في إفريقيا ومن بين القلائل في العالم التي ستكون متخصصة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في البحث الأثري. هاته الملحقات ربما ستكون بشراكة مع جامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية لتعم الأبحاث كل التراب المغربي. ما هو الدور الذي يلعبه معهد الآثار والوزارة الوصية لتثمين التراث الثقافي المغربي والترويج له؟
المعهد يلعب دورا في البحث والتكوين على أعلى مستوى، خصوصا بعد تطوره تقنيا. وأيضا يقوم بشراكات ليس فقط مع الدول الأوربية والأمريكية والآسيوية ولكن أيضا مع الدول الإفريقية التي تنتمي لقارتنا ونتشارك معها نفس التراث الأركيولوجي. والوزارة في كل مناسبة تقوم بالتعريف بأبحاث المعهد كاكتشاف إيغود الذي تم الإبلاغ الرسمي عنه في أكاديمية المملكة المغربية سنة 2017. ثم الاحتفال باكتشاف بيزمون في شالة.. هناك أيضا، عملية الترويج داخل المواقع، من خلال برنامج يسمى "نوستالجيا"، وهو برنامج موجود في شالة، والذي أرجع للموقع الحياة كما كان في الفترة المورية الرومانية؛ عن طريق مشاهد تمثيلية مستنبطة من التاريخ أبدع فيها الممثلون بقيادة الأستاذة لطيفة أحرار من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي. ما هي المشاريع التي تشتغلون عليها حاليا؟
وضع المعهد على عاتقه إتمام مجموعة من البرامج المتنوعة والتي تشمل جميع الحقب وجميع مناطق المغرب. حاليا نشتغل على 25 إلى 32 مشروعا، فيه ما هو مغربي محض أو في إطار تعاون دولي، والجديد هو تطوير الشراكات الإفريقية وهو أمر مهم بالنسبة لنا. في هذا الإطار، أحب أن أقول بأّن الأبحاث الأثرية التي نشتغل عليها تستخدم فيها التقنيات الحديثة مثل الدرون التي سيتسلمها المعهد قريبا. هناك أيضا تكوين مهم يخص التراث الثقافي المغمور بالمياه، وهو توجه خلقته الوزارة الوصية، التي أنشأت مؤخرا مركزا هو الأول من نوعه في المغرب للتراث المغمور بالمياه، وقد خلقنا في المعهد، أيضا، تكوينا هو الأول من نوعه في تاريخ المغرب يختص بالتراث المغمور بالمياه، لأننا يجب أن نكتشف ماذا يوجد في قاع البحر أيضا. أخيرا.. كيف تنظرون لهذا التنوع والثراء الثقافي المغربي؟ وكيف يمكن استثماره سياحيا؟
هذا التنوع والثراء الثقافي المغربي له أسبابه، أولها الموقع الجغرافي، ثم التنوع الجغرافي في حد ذاته، لأننا نمر من طنجة إلى الصحراء بمجموعة من النطاقات الإيكولوجية والجغرافية التي تعطينا تنوعا لطالما جذب الإنسان منذ القدم، وهو ما جعله يبدع، وأيضا الموقع الجغرافي الذي ينفتح على واجهتين بالإضافة إلى العمق الإفريقي. ونبوغ الإنسان في هاته الأرض لعب دورا، وهي أمور تجعلنا نتشبث بتراث هاته الأرض ذات الجذور القديمة جدا. أظن أنه يمكن استثمار كل هاته الخصائص في السياحة الثقافية، كما نعرف، فبلدنا مقبل على تنظيم كأس العالم مع إسبانيا والبرتغال، أي أننا سنستقبل الملايين من الناس دفعة واحدة في وقت وجيز، يمكن أن يتعرفوا على البلاد على هامش المباريات، ويجب أن نكون جاهزين لتقديم تراثنا الأركيولوجي والعادات والتعبيرات التي لها جذور وعمق تاريخي. حاورته: سارة صبري - تصوير: رضوان موسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.