دخل ابراهيم إلى المدينة على الساعة السادسة صباحا، عبر طريق "تاكراكرا" الذي يمر على العين المحادي "لأَسيفْ أُونْدْر"، غسق الليل تمحوه رويدا رويدا، أنوار الشمس المشرقة من خلف قمة "تاولاشت" الشامخة، وتنجلي معها كتل الضباب التي يدفعها هواء البحر نحو الجبال. أوقف إبراهيم جمله المحمل بالحطب أمام باب صغير مطل على الوادي... هو الفران الوحيد في المدينة الصغيرة الجديدة، يوجد بجانبه حمام وبعض من المنازل التي شيدها جنود الاسبان في أيامهم الأولى، مخصصة لإيواء العسكر ورجال الإدارة وبقية الموظفين.... كما هو مألوف في مثل هذه الصباحيات المعطرة بنسيم وعناق البحر بالنهر، إبراهيم يتقاسم مع صديقه الخباز وجبة الفطور داخل غرفة شبه مظلمة بفناء الفران. بحكم الصداقة والقرابة، يسرقان بعض الوقت للحديث والشجون في الأمور المستجدة وأخبار الأقاصي وعوائد النصارى الطارئون في البلاد، ويستحوذ هذا الموضوع الأخير على نقاشاتهم وتعليقاتهم، ويتولى المحجوب الخباز دور السارد المستبد في الحديث عن عجائب وغرائب "إيرومين"... الذين حلوا بهذه المنطقة التي كانت تسمى "امزدوغ" وحولوها في سرعة البرق، إلى مركز شبه حضري مميز ومهيكل، فيه إدارات ومحلة للجيش وبنايات منظمة وشوارع واسعة ومتوازية... وحدائق خضراء مزدهرة بالورود المختلفة الأشكال والألوان....وهي مرافق ومباني بناها الجيش الاسباني بحماس وخفة مفعم بالروح الدفينة، روح استذكار مدينة "سانتاكروز دي مار بيكينيا", لذلك فالجميع متحمس ومجند لإعادة اعمار وبناء هذه المدينة الفريدة الأسطورية، المدينة المقدسة المطلة على البحر. إبراهيم بفعل إقامته في دوار وسط الجبل، فانه يغتنم فرصة مائدة الإفطار، حتى يكتشف دروب الحياة داخل هذه المدينةالجديدة كما يرويها له صديقه المحجوب... من جملة ما سمعه هذه الصبيحة، هو حديث "التوموبيل". " لقد قام النصارى مساء يوم أمس بإركاب سكان المدينة وزوارها في إحدى السيارات التي يمتلكها "سرخينتو" في دورة استعراضية حتى يتعود الناس على هذه الكائنات الحديدية الطارئة في بلادهم. وقد رفض جل من كان في المدينة حينها، الصعود إلى السيارة، وهناك من فر إلى الجبل يقرأ اللطيف خوفا من هذا الكائن الحديدي الغريب الذي ينبعث منه الدخان". لم يكف ابراهيم عن طرح الأسئلة على المحجوب يستفسره عن "التومبيل"، عن شكلها، وكيف تسير على الطريق وكيف تشتغل، ولماذا يخرج منها الدخان...الخ. بعد صلاة المغرب، كل سكان الدوار داخل جلابيبهم الصوفية، اجتمعوا حول ابراهيم، يسرد لهم الخبر العاجل العجيب، خبر "التومبيل"... وبذلك توزعت التأويلات والأقاويل.. منهم من قال إن ذلك مستحيل، ومنهم من قال إنه سحر النصارى للإلهاء الناس وشغل أذهانهم للاستحواذ على البلاد،،، أما الفقيه الذي لا يدخل عادة في أمور الجماعة، فقد نبه أحدهم على أن ذلك من عمل الشيطان. تكبر المدينة وتتسع، يزورها الناس في الصباح ويعودون في المساء إلى ديارهم في الجبال والسفوح، أنشطة اقتصادية غير مسبوقة تعرفها المدينة، دينامية اجتماعية كبيرة شملت الأفاق، بفعل دخول السلع والبضائع الجديدة لم يكن الناس يعلمون بوجودها من قبل. ازدهرت الفلاحة والتجارة وصيد الأسماك. ساد الازدهار وأخذ النماء في الانتشار. تبدلت الثقافة وتطور الفكر. طلع الجنود يشقون الطرق والمسالك في الفجاج والجبال، طرق السيارات والشاحنات بدل طرق الحوافر من البغال والحمير، اكتشف الناس لأول مرة "الشامبوان" والصابون والسردين المعلَّب، ركبوا السيارات والدراجات، شاهدوا خيوط التلكراف، وقرأوا الجرائد، وسمعوا الأخبار في الراديو، انتشر الأهم والأساس في الحياة، الأمن والطمأنينة والسلام. في ركن داخل فناء زاويته، معلمة العلم وتجربة في التصوف، يتحدث العالم الزاهد التقي "سيدي أبراغ" في خشوع عظيم، يخطب في الأتباع والمريدين وعموم جمهور الناصريين، يسدي لهم النصح في فعل الخير، في معاني الحياة، في حب الخالق والخلق، في صفاء الروح، الشيخ "سيدي ابراغ" أخذ الورد من شيوخ زاوية "تمكديشت"، وصعد إلى المقامات بفعل العلم والزهد والجد. نزل بافني بعد أن كان أجداده في "تانكرت" بنواحي إفران الأطلس الصغير، وبنى زاويته بجانب سوق يسمى "جوطيا". كان الشيخ الفاضل، يستقبل في زاويته سرا كبار عسكر النصارى المعجبون بطريقته وزهده وسلوكه ومواقفه الرزينة والعقلانية، وكان في بعض الأحيان يحاججهم في علوم المنطق والفلك، وغيرها. وقد أهداه الجنرال "كباص" هدية ثمينة، نفيسة. ويحكي بعض من مقربي الشيخ أن "كباص" هذا، كان محبا لهذا الرجل المتصوف، واقترح عليه مرة السفر معه إلى جزيرة "لاس بالماس"... نزل الناس جميعا إلى المدينة في صبيحة غير عادية بالمرة، جميع القبائل شدت الرحال إلى حاضرتهم افني لبوا النداء. نساء، رجال، صبيان، اجتمع القوم في ساحة شاسعة مقابلة "لامزدوغ" أخذت اسما جديدا لا يعرف أحدا معناه الحقيقي إلا الإسبان، وينطق باللسان المحلي" لابياسون". جميع الموظفين والعمال والعسكر منهمكون يشتغلون كخلية النحل في فصل الربيع، استعدادا للحدث الكبير، الذي استدعي له كل أبناء قبائل آيت باعمران. وتريد دولة الاسبان في شخص "كباص"، أن يكون هذا الحدث هو يوم احتفال، يوم يرسخ في التاريخ، وتحفظ صوره في الأرشيف العالمي، إنه حدث هبوط أول طائرة في مطار افني... خرج الشيخ "سيدي أبراغ" في لباس صوفي ابيض ناصع، يحمل في يده اليمنى ورده الذي لا يفارقه أينما حل وارتحل، بجانبه الجنرال "كباص" بلباس عسكري، ويتبعهما في الخلف عدد من الطلبة والفقهاء...قبل هبوط الطائرة قامت بجولة في السماء طافت على كل القبائل من وادنون إلى قبائل الساحل، تطلق دخانا يرسم لوحات فنية في الهواء.... هبطت الطائرة، ونزل ركابها وأدوا أمام الجنرال والشيخ تحية العسكر... واحتفل الناس واختلط القوم، ولم يعد الفرق بين المسلم والروم...وكان يوما مشهودا عظيما. صحافي بقناة تمازيغت