احتلت مفردة الانقلاب مساحة واسعة في الخطاب السياسي والإعلامي المغربي خلال الايام القليلة التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة التي عرفتها دولة تركيا. بحيث تحول الخطاب السياسي والإعلامي إلى خطاب يؤسس تحليلاته على تداعيات انقلاب حبس أنفاس العالم لأزيد من أربع ساعات، قبل أن تنجلي الصورة، ويبين مصير حفنة من العساكر جربت حراكا متسرعا لإسقاط رئيس نجح في استتباب نموذجه الناجح في التربة التركية، وكون له أنصارا عُدُّوا بالملايين، ومتعاطفين، في الداخل والخارج ومن كل الحساسيات، فاقوا كل التكهنات، والتقديرات. لقد تحول خطاب المغرب السياسي، كما الفكري، كما التواصلي؛ الصالوني منه والاجتماعي، إلى خطاب بصيغة "الانقلاب"، وتحولت مواضيع السياسة، والفكر، والاقتصاد، والثقافة حتى،... إلى مواضيع تختار من مفردات الانقلاب/الموضة ما تؤثث به مَتْنَ تحليلاتها، ووجهات نظرها. حتى أصبحنا نسمع، بانقلاب الحكومة على الشعب، وانقلاب الخطاب الرئاسي لفلان أو علان، وانقلاب السوق، وانقلاب القناعات، وانقلاب بنكيران على وعوده ووو... وهو ما يؤشر على الاهتمام المتميز للشعب المغربي بمختلف فئاته، وحساسياته الفكرية والسياسية، والجمعوية، بالشأن التركي، والتجربة التركية التي مثلت الأنموذج الصاعد المثير للاهتمام ضمن النماذج التي ظلت تستهوي فضول المغاربة وانبهارهم في الغرب والشرق سواء. اهتمام ازداد مع هذا الحدث الذي هز العالم عبر لحظات عصيبة عاشها الشعب التركي، ورئيسه، ما لبث أن انقشع عنها غبار الخيانة، وبانت حقيقة اللعبة التي تابعها الكثير من المغاربة المعارضين للانقلاب، كما الحريصين على نجاح هذه التجربة الإسلامية الفريدة، بالكثير من التوجس أنْ تتحول إلى حقيقة مؤلمة، وبالكثير من الدعاء والضراعة للمولى عز وجل، أن يحفظ الشعب التركي، وحكومته، ورئيسه، من كل سوء. كما فتح، في المقابل، شهية عدد غير قليل من قبيلة بني علمان بالمغرب وسواه من دول العالم العربي، من أذناب العم سام، والصهيونيين العرب، وإعلام الانقلاب السيسوي، والأحزاب القومجية واليساروية، .. ؛ لتحقق أمنية إسقاط هذه التجربة التي ظلت الشوكة في حلوقهم؛ فهللوا للانقلاب، وزغردوا، وطبلوا،... قبل أن تَشِيهَ وجوههم بالخبر الصاعقة، والذي لم يترك لهم أي مساحة للمناورة، أوتبرير المبرر، أو تقديم اعتذار سيكون أقبح من زلة الانسياق نحو تلبية حاجة في نفوسهم المريضة. وهي بالمناسبة ذات الكائنات التي هللت وساندت الانقلاب العسكري الدامي الذي قاده السيسي في مصر قبل الآن!!. كما شكل هذا الانقلاب كاشفة حقيقية لما تكنه صدور الساسة المغاربة من أدعياء الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ودولة المؤسسات؛ حيث أظهرت الساعات الأولى للانقلاب مدى ضبابية مواقفهم حينما لاذوا بالصمت طيلة الفترة التي "تَبَوْرَدَ" فيها الانقلابيون بشوارع تركيا. وفي خلال تصريحاتهم القليلة، فضَّلوا أن يُظهِروا حيادا غير مفهوم مما يجري في تركيا، وكأن تركيا تعيش أجواء انتخابية يتنافس فيها خصوم، وليس انقلابا مجرما ومدانا يوشك أن يحول الحياة الديمقراطية الكريمة التي يعيشها الشعب التركي إلى ديكتاتورية تعيد الأمة التركية إلى ستينيات القرن الماضي!!. نعم، لقد فضل "عقلاء" هذه النتوء العلمانوية، الحاقدة على التجربة الإسلامية الناجحة في تركيا، أن يختاروا الصمت كملاذ يقيهم من مغبة السقوط في التناقض بين القناعات التي يعبرون عنها، وحقيقة ما تخبئه صدورهم المريضة، ليكونوا بذلك قد عبروا، ضمنيا، عن موقفهم من الانقلاب، كأحد الآليات الممكنة للتغيير، بعدما كانت تمثل القناعة التي كانوا يعبرون عنها، صراحة، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وظلت سائدة في خطابهم الانقلابي، حينما كانوا يؤمنون بالانقلاب كأحد أدوات المواجهة القمينة بإزاحة الاستبداد الذي كان يمثله الملك الحسن الثاني حسب زعمهم.. !. وهي نفس النتوء الشاردة التي تململت لديها هذه "القناعة السبعينية" من جديد، وحركت لديها حنين الماضي "العتيد"، فأحجمت عن التعبير عن موقف صريح وواضح من الانقلاب التركي منذ الدقائق الأولى التي أعلن عنه فيها، وانتظرت نهاية المواجهة لتعبر عن موقف يتماشى مع النتيجة، ويحفظ لها ماء وجهها الديمقراطي، الذي تتقنَّع به في حملاتها الانتخابية، وصراعها السياسي، والأيديولوجي. وهو ذات الموقف، الذي أخذت تعبر عنه العديد من الأحزاب اليسارية التقليدية والجذرية كما الليبرالية المناوئة للتجربة الإسلامية، بعد انقشاع غيمة هذا الانقلاب الفاشل؛ حيث أصدرت بيانات، وقدمت تصريحات تعلن فيها عن رفضها للانقلابات العسكرية، رغم تحميلها المسؤولية الكاملة لأردوغان، الذي وسمته بالديكتاتوري المستبد، فيما آلت إليه الأوضاع بتركيا !. والحال، أن القناعة الديمقراطية، التي تتبجح بها هذه الكائنات، تُلْزِمها أن تعبر عن موقف صريح من هذا الانقلاب منذ الإعلان عنه، ودون انتظار لأية نتائج. وهي القناعة التي تمثل الموقف المبدئي الذي يؤمن به أحرار العالم، ويؤمن به كل دعاة الديمقراطية الحقيقيين، ولا يقبلون من أجله بأدنى أنصاف الحلول؛ ألا هو الرفض المطلق للانقلاب أيا كان مقترفه، وأيا كانت ضحيته . تماما كما هو الموقف من الإرهاب؛ سواء بسواء!!. دمتم على وطن.. !!