أمطار متفرقة في توقعات طقس السبت    مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة    سيناريوهات الكاف الثلاث لتنظيم كأس إفريقيا 2025 بالمغرب!    مصادقة المؤتمر بالإجماع على مشاريع تقارير اللجان    زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية            لجنة ثلاثية لرئاسة المؤتمر 18 لحزب الاستقلال    زفاف العائلات الكبيرة.. زواج ابنة أخنوش من نجل الملياردير الصفريوي    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    حريق كبير قرب مستودع لقارورات غاز البوتان يستنفر سلطات طنجة    احتجاج تيار ولد الرشيد يربك مؤتمر الاستقلال    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    حكيم زياش يتألق في مباريات غلطة سراي    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    بوزنيقة : انطلاق المؤتمر 18 لحزب الاستقلال بحضور 3600 مؤتمر(فيديو)    حالة "البلوكاج" مستمرة في أشغال مؤتمر حزب الاستقلال والمؤتمرون يرفضون مناقشة التقريرين الأدبي والمالي    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    طقس السبت: أمطار وطقس بارد بهذه المناطق!    رئيس بركان يشيد بسلوك الجمهور المغربي    بركة يتهم النظام الجزائري بافتعال المؤامرات وخيانة تطلعات الشعوب المغاربية    فضّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية: ماذا تقول قوانين البلاد؟    الصحراء تغري الشركات الفرنسية.. العلوي: قصة مشتركة تجمع الرباط وباريس    شبكة جديدة طاحت فالشمال كتبيراطي شبكات الاتصالات الوطنية وها المحجوزات    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    "طوطو" يشرب الخمر أمام الجمهور في سهرة غنائية    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    رئيس اتحاد العاصمة صدم الكابرانات: المغاربة استقبلونا مزيان وكنشكروهم وغانلعبو الماتش مع بركان    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    السعودية تحذر من حملات الحج الوهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي    تفريغ 84 طنا من منتجات الصيد البحري بميناء مرتيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2024    قميص بركان يهزم الجزائر في الإستئناف    عطلة مدرسية.. الشركة الوطنية للطرق السيارة تحذر السائقين    مندوبية السجون تغلق "سات فيلاج" بطنجة    للجمعة 29.. آلاف المغاربة يجددون المطالبة بوقف الحرب على غزة    بيدرو روشا رئيساً للاتحاد الإسباني لكرة القدم    مقتل 51 شخصا في قطاع غزة خلال 24 ساعة    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها جلالة الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    احتجاجا على حرب غزة.. استقالة مسؤولة بالخارجية الأمريكية    تطوان .. احتفالية خاصة تخليدا لشهر التراث 2024    سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في رواية "الموتشو"..
نشر في هسبريس يوم 07 - 10 - 2023


"حراك الريف" في مرآة الكاتب حسن أوريد
بإصداره لروايته الجديدة "الموتشو" (عن منشورات المتوسط ميلانو/ إيطاليا الطبعة الثانية 2023 )، يؤكد الكاتب حسن أوريد أنه لم يأت إلى عالم السرد بهدف الإمتاع والمؤانسة، بل لإمداد ذاته بجرعة إضافية من الحرية، قصد الإيغال في ممارسة "شغبه" الفكري المتصل بالتعبير عن قلقه الوجودي المعانق لطرح ومعالجة قضايا جوهرية تجد لها متكأ في الواقع؛ مدعوما في سبيل ذلك بعٌدة معرفية مسنودة بعمق التفكير وسعة الاطلاع وتنوع المصادر، ومتسلحا بمبضع التشريح والنقد لكل ما يعتمل داخل محيطه من تفاعلات وتحولات عميقة؛ في أفق الإسهام بدوره في محاولات تشخيص أدوائه وإصلاح أعطابه، ومن ثم النهوض بتغيير بعض سلوكيات فاعليه سواء على مستوى القمة (المالكين لسلطة القرار) أو القاعدة (المجتمع ككل).
تبعا لذلك، صرح أوريد في لقاء تم فيه الاحتفاء بإصداره الجديد "الموتشو"، أن هذه الرواية "هي من نسيج الخيال ولكن ليست منفصلة عن الواقع"؛ الأمر الذي حفزني شخصيا ومنحني إشارة الضوء الأخضر لخط هذا المقال الذي سأسعى من خلاله إلى رصد خطوات أحد الشخوص المحورية التي استعان بها الكاتب في هذه الرواية للإدلاء بدلوه في قضية الريف وخصوصيته الثقافية والتاريخية، وكذا الأصداء والتداعيات التي خلفها ما بات يعرف ب "حراك الريف". ويتعلق الأمر هنا بشخصية "محند" التي يحيل اسمها على القائد الرمز محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي كان قد أطلق عليه لقب "مولاي محند" تحببا وتوددا من قبل الريفيين زمن الثورة الريفية ضد الغزاة الإسبان في العشرينيات من القرن الماضي.
فما هي الصورة أو الملامح التي رسمها الكاتب لهذه الشخصية؟ وأية دلالات حاول إيصالها للقارئ من خلال إقحامه لهذه الشخصية في روايته؟ ثم إلى أي حد كان موفقا في طرق موضوع الريف (علما أنه لا يزال يشكل طابو بالنسبة للبعض) وإخراجه لدائرة الضوء؟
محند.. شخصية ريفية متفردة ومتكتمة حذرة ومحاججة
يقدم لنا الراوي شخصية "محند" كأول اسم يرد على لسان "أمين" بطل الرواية، ليعرف به كونه الفتى "محند أمزيان" المكلف بالصفحة الثقافية في الجريدة التي يشتغل فيها إلى جانبه. وعقب إلقاء نظرة خاطفة على باقي العناصر العاملة بهذه الجريدة، سيعود ليحدثنا عن محند الذي يصفه ب "العنصر النشاز" داخل مقر العمل، موضحا أنه شخصية أمازيغية (لم يقل ريفية) كما يدل على ذلك اسمه، ووجوده ضمن قائمة الأسماء العاملة بهذا المشروع الثقافي والفكري والسياسي ذي التوجه الإسلامي ليس أمرا عاديا البتة، بل إن ما شفع له بالانتماء إلى هذه الجريدة هو تملكه لناصية اللغة العربية التي يحرر بها، وإتقانه للغات الأجنبية التي يجيد ترجمتها، ناهيك عن سعة اطلاعه وإلمامه بمختلف الجوانب الثقافية. (ص10).
وبموازاة ذلك، سيخبرنا الكاتب بزمن الحكي الذي تدور فيه الأحداث، وهو الزمن الذي أعقب حراك الريف، حين كان بصدد تقديم إحدى الصحافيات "ابتسام" التي عرفت بمهنيتها وصدقيتها في التحقيقات التي تنجزها، ومنها تغطيتها ل "الحراك" حين هب الريفيون للتعبير عن غضبهم من حادثة طحن بائع السمك محسن فكري في شاحنة للأزبال والاحتجاج على التهميش الذي طال المنطقة لعقود؛ وهو ما عبر عنه الكاتب ب"النكران التاريخي" الذي تعرضت له منطقة الريف، بسبب "اجتزاء ذاكرتها والتنميط الذي أجرته السلطة على منطقة لها خصوصية ثقافية وتاريخية".(ص 12).
بتوالي الأحداث، يدرك القارئ أن حبل الصداقة والود قوي بين أمين البطل ومحند، إلا أن هذه الصداقة في الواقع لا تكاد تتجاوز حدود الهموم اليومية التي تسكنهما كزميلين يشتغلان بالجريدة نفسها؛ لكن وبشكل تدريجي، وأمام تعقد الأحداث التي سيكتويان بنارها، سيجدان نفسيهما مجبرين على البوح بمكنونات ما يعتمل في صدريهما، ومن ثمة كشف المستور الذي ظل حبيس أعماقهما، خاصة بالنسبة لمحند الذي يصوره لنا الكاتب كشخصية فريدة، متكتمة (وكأنها تمارس نوعا من التقية) وحذرة للغاية، لكنها محاججة في الدفاع عن أفكارها والتعبير عن مواقفها.
هكذا، يبدو محند على وعي تام بما يدور في محيطه، وعلى دراية بالتغيرات الطارئة على الزملاء الآخرين (رؤساء العمل خاصة) الذين "ذاقوا النعمة" واستسلموا للواقع الذي يذيب الصخر، وانغمسوا في صخب الحياة فرحين بالقشور التي ترمى إليهم. لكن محند يلوذ بالصمت دائما وكأنه غير مستوعب لما يحصل، هذا في الوقت الذي سنكتشف فيه بأنه في قرارته ممانع وغير مستعد لمسايرة هؤلاء المنافقين المتملقين.
خروج محند من قوقعته.. العالم العربي.. وتآمر المثقفين
والحال أن القارئ سيلاحظ كون محند سيضطر للخروج من قوقعته/صمته تدريجيا، ويهتدي إلى التعبير عن مواقفه بوضوح في ما يتعلق بمختلف القضايا التي يناقشها ويساجل فيها صديقه أمين، هذا الأخير الذي كاد أن يتماهى مع التغيرات التي طالت ما يسمى ب "العالم العربي"؛ غير أن الجرأة التي تسلح بها محند في الإفصاح عن أفكاره، جعلت أمين يصاب بنوع من الصدمة لدرجة أنه لم يجد ما يعقب به على كلام صاحبه.
فالحديث عن الديمقراطية داخل مجتمعنا لا يعدو أن يكون في نظر محند شعارا سطحيا فارغا من أي محتوى جدي، لا سيما بعد أن تخلى المثقفون عن دورهم ورسالتهم وركنوا إلى زواياهم يتفرجون ويمارسون لعبتهم المسلية في الضحك على الذقون بترهاتهم وكتاباتهم المتطرقة لقضايا بعيدة (فلسطين، العراق، اليمن...)، عوض الانهمام بإشكاليات مجتمعهم والانكباب على معضلات مواطنيهم الذين كانوا ينتظرون منهم العمل على تشريح ونقد أوضاعهم المتردية والمساهمة في صياغة البدائل الممكنة لتجاوزها.
أكثر من ذلك، يمضي محند قدما، بل ويتشدد أكثر، في توجيه سهام النقد لهؤلاء المثقفين الذين هم (في رأيه) على أهبة للتآمر على كل من لا يسايرهم في توجهاتهم ولا يجارونهم في أهوائهم واختياراتهم، حتى بلغت به الجرأة لنعتهم ب "حفدة ليوطي" الذين تتلمذوا على أيدي رجالات الاستعمار الفرنسي.
ليخلص في نهاية تحليله إلى أن ما يسمى ب "العالم العربي" قد انتهى، ليس بسبب المؤامرات (الصهيونية الصليبية، والإمبريالية الأمريكية) كما يتدثر بذلك البعض، وإنما بسبب انغلاقه "مزكرم" وغياب أفق التغيير والتطور لديه. (ص 39). وقد بدت شخصية محند، من خلال هذا الحوار، ليست متصلبة وواثقة من نفسها فحسب، ولكن مفحمة ومقنعة جدا لدرجة أن محاورها أمين لم يقو على الرد وظل عاجزا عن التعقيب مرة أخرى.
الأنا الجمعي.. الامتزاج.. أو المغامرة والانسلاخ
تدريجيا، سيزداد الحوار قوة وتشويقا بين بطل الرواية وزميله، حيث سيضطر محند للانفجار في وجه أمين (وهما على طاولة الغذاء)، صادحا بالقول: إن العالم الذي تعتز به "ليس عالمي".. ل "أني أمازيغي" (خيارا وليس عرقا)؛ وهو الأمر الذي سيجبر أمين على سؤاله عما إذا كان هذا الخيار خارج "الأنا الجمعي" المرتبط بقضايا الحرية والكرامة والعدالة التي ما فتئ يناضل من أجلها، في محاولة منه لقياس درجة ولاء محند وانتمائه لمجتمعه؛ ليأتيه الرد قاسيا من عند محند الذي سيجهر بالإعلان عن كونه لا يجد نفسه في ما يراه محاوره "أنا جمعيا" لأن هذا الأخير بالنسبة له بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة، ولأنه شيد على أنقاض "مظالم كثيرة" يتم التستر عنها، ومنها "إنكار الآخر ومحقه". (ص 61).
لم يكن أمين ليصدق ما تناهى إلى سمعه من كلام صادر، لأول مرة، عن صديقه محند الذي عهده فتى هادئا ومسالما ومنطويا على نفسه؛ وهو الشيء الذي انتبه له محند ولمسه في وجه أمين، ودفعه للتوضيح بأن السياقات من قبل لم تكن ناضجة للكلام في هكذا موضوع.
وقد يدرك القارئ اللبيب أن الكاتب في هذا الحوار يومئ إلى طبيعة الشخصية الريفية المتسمة بما أسماه البعض ب "جينات التمرد" التي يحملها الريفي في عروقه. ولعله الأمر الذي حذا بأمين لطرح موضوع ما أسماه ب"الامتزاج" (ويفهم منه الاندماج والوحدة) على محند ليتبين موقفه منه، ليتصدى له الأخير بالجهر أن الامتزاج الذي يتم اجتراره بشكل دائم ينبغي أن ينظر إليه من زاوية كون العبرة بالنتائج، لأن هذا الامتزاج/الوحدة المتحدث عنه لم يفض سوى إلى التخلف والتناحر، ومزيد من الوصاية على الآخرين وتجريدهم من ماضيهم التاريخي والكذب على حاضرهم ومستقبلهم، فقد كان من الممكن أن يؤمن محند بالامتزاج لو أتى كثمرة لقصة نجاح، أما بالصيغة التي آلت إليها الأمور في واقع اليوم فلا يغريه.(ص 62).
على إثر ذلك، ستتم الإشارة بوضوح إلى منطقة الريف والمأساة التي تجرع أهلها مرارتها بعد الحكم على شبيبتها بأحكام قاسية نتيجة الحراك. وفي الوقت الذي حاول فيه أمين إبداء تعاطفه مع هذا الموضوع بالإشارة إلى أن مأساة الريف هي مأساة اكتوى بنارها الجميع؛ رد عليه محند بأن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد ادعاء ونفاق غير ذي جدوى، مما دفع بأمين ليلوذ بالصمت من جديد أمام محاوره. لكن بمجرد أن افترقا، سيجد أمين نفسه محاصرا بالعديد من الأسئلة المستبدة بذهنه عقب سجاله مع محند الذي فاجأه كثيرا، لا سيما في تحوله من فتى ودود ومسالم إلى متعصب ومتمرد "يشكك في الأنا الجمعي ويفكر من خارج دائرته"، بل هو مستعد للانسلاخ عنه ووضع قطيعة معه.
لا مراء في أن الكاتب، في هذا السياق، قد حاول ما أمكن الابتعاد عن استخدام وتوظيف القاموس السياسي المباشر، ليس فقط اتقاء للردود التي قد تلاحقه والقذائف التي يمكن أن تسقط على رأسه من مختلف الجهات، ولكن أيضا احتراما وتناغما مع جنس الرواية الذي يعتمد التخييل والاستعارة ويمجُّ الأسلوب التقريري المباشر، وكأن لسان حاله يقول إن ما يهمني هو استثارة الأسئلة.. لا أقل ولا أكثر.
الريف.. شعور الدونية والاحتقار
ولعل هذا ما سيدفع بالكاتب إلى عدم التركيز على الجوانب السياسية التي تشغل بال محند، مؤثرا اللجوء إلى الكشف عن الجوانب السيكولوجية المظلمة لهذه الشخصية الريفية، عن طريق الإفصاح عن ماضيه التاريخي، وتبرير ميله نحو الانسلاخ عن الأنا الجمعي، بسبب "ندوب الاحتقار" التي يعاني منها والحكرة التي يستبطن مرارتها، فقبوله الاشتغال بالجريدة لم يكن سوى تسكين للآلام، لأنه يشعر بالمحاصرة في عمله، ولأن المهام المناطة به تقتصر على متابعة وإعداد المادة الثقافية ولا يمكن أن تتجاوزها نحو المواد ذات الصبغة السياسية والحساسة.
هذا، فضلا عن أن المسألة/المحنة بالنسبة لمحند تتجاوز ما هو شخصي نحو ما هو قومي مرتبط بأهله "المطمورين" في الأقاصي البعيدة بين سهوب وسفوح الجبال، أولئك الذين يعانون من الإقصاء الاجتماعي وممنوعون من التعبير عن رفضهم للأوضاع المتردية التي يعيشون تحت رحمتها؛ أما الوضع الشخصي بالنسبة لمحند فهو مجرد ديكور شكلي للمشهد العام، يقول "نحن في أرضنا دون أن نكون مالكين لأمرنا". (ص 83).
على إثر ذلك، سينبري أمين بطرح سؤال ذي أهمية بالغة على محند "هل تريد أن تقود معركة من أجل العدل وحيدا، أو مع زمرة ممن تشاطرهم الجرح الوجودي؟"، يقصد (باللغة السياسية) بشكل وحدوي أم انفصالي؟ ليجيبه محند بصورة غير قطعية هذه المرة "لن تفهم شعور الدونية والاحتقار الذي يستشعره من يتعرض له. ينبغي أن تتعرض له كي تعرفه". ليأتي رد أمين في شكل سؤال استنكاري "وهل تعتقد أني لم أتعرض له؟ كل شيء قابل للتبرير". (ص 83).
ثم يلجأ الراوي، في محاولة تفسيرية وتبريرية، إلى كون المعضلة أمست عامة (بمعنى إذا عمت هانت)، بحيث تم التعريج على أن الموضوعية غابت حتى عن العلوم الدقيقة، فما بالك بالعلوم الإنسانية، فكل جماعة/طرف تفصّل الأشياء وفق مقاساتها التي تناسبها، مستندا في تعليله إلى التاريخ الذي كشف أن النازية وظفت العلم لتأكيد سمو الإنسان الآري.
ديمقراطية إسرائيل.. وشروق الشمس من الغرب.. وقيادة المعركة
لحد الآن، كان أمين لا يزال يبدي تفهما كبيرا للكلام الصادر عن صديقه، غير أن النقطة التي ستستثير غضبه وستدفع به إلى الانتفاض في وجهه وتوجيه اللوم ورفض أفكار ومواقف صاحبه، هي تلك المتعلقة باتهام محند بمحاباة إسرائيل تحت ذريعة الديمقراطية التي تنعم بها؛ مما سيضطر أمين إلى مهاجمته باعتبار أن تلك الديمقراطية المتشدق بها تبقى مجرد ديمقراطية مزيفة ومحتكرة من طرف أقلية، أي لا تطبق سوى على الساكنة الإسرائيلية وبشكل متفاوت في ما بينها، تماما كما "كانت أمريكا ديمقراطية لساكنتها البيض.. مع إقصاء السود"، مطالبا إياه بضرورة الكف عن "ابتلاع السموم التي نظن أن فيها شفاء لنا"، وصابا جام غضبه على محند.
ثم ما لبث أمين أن حاول التخفيض من شدة هذا الهجوم/التوتر بإبداء تفهمه للحزن الشديد الذي انتاب محند جراء الأحكام القاسية الصادرة في حق شباب حراك الريف، مع استطراده وتشديده بأن مثل ذلك لا يجب أن يحولنا إلى "شيع وطوائف"، وكل طائفة تبحث لها عن خلاص فردي، فهذا تجزيئ للجسد الذي "ما يزال نابضا بالحياة، ولا يمكن أن نجزّئه إلى أطراف كي نفهم ما بداخله، والجسد جسدنا جميعا". (ص131).
ولا نعتقد هنا أن القارئ سيغفل عن التوجه الوحدوي الذي يدافع عنه الكاتب ويفضله عن باقي التوجهات والخيارات الأخرى المناقضة؛ وكأنه يريد أن يشدد على أن معركة التنمية والديمقراطية والكرامة... إلخ، يجب أن تخاض، في بلدنا، بصورة جماعية وحدوية، على الرغم من كل الاختلافات القائمة بين جهاتها.
عقب ذلك، لم يجد محند بُدّا من الاتفاق مع أمين على أن كلامه يمكن أن يكون صحيحا على مستوى شمال إفريقيا، أما العالم العربي الذي ما فتئ يراهن عليه فهو رهان خاسر، فلم تعد مثل هذه القصة (العالم العربي) تستهويه مطلقا، لأن الشمس تشرق من الغرب وليس من الشرق.
وفي الوقت الذي حاول فيه أمين أن يقوض موقف محاوره من الغرب المخادع والمخاتل ويوضح له مدى الخطورة التي ينطوي عليها التقليد والارتماء في أحضان الغرب؛ سيعود محند، مرة أخرى، إلى مواجهته بوجعه وجرحه الدفين، لينزع الغطاء عن آخر أوراقه بالصدح والإعلان عن أن سيمفونية القومية كان في ما مضى شديد الإيمان بها، لكن اليوم أضحت عنده من مخلفات الماضي الأليم.
محند الجريح.. سليل قائد انتفاضة الريف 58/59
ولأجل التدليل على ذلك، سيلجأ إلى الكشف عن أرومة نسبه التي تربطه بشخصية حقيقية في التاريخ الحديث للمغرب، فهو سليل وحفيد الشخصية الريفية المعروفة ب "الحاج سلام أمزيان" قائد انتفاضة الريف 58/59، والذي كان قد فرَّ إلى القاهرة وتبنى قضايا القومية العربية وكافح من أجل ترسيخ أسسها ومبادئها، متسائلا في الوقت ذاته عن الجزاء الذي ناله جده عن كل ذلك، غير جر ذيول الخيبة والإبقاء عليه مغتربا يتجرع مرارة النفي، لا سيما بعد أن تم رفض السماح له بالعودة إلى وطنه ومعانقة هوائه وشمّ رائحة ترابه.. بل حتى لما أمسى جثة هامدة داخل صندوق خشبي لم يسمح لأهله بدفنه إلا وفق قيود وشروط، أي بشكل سري ومن دون إقامة أية مراسم أو طقوس للدفن بالصورة اللائقة والمعتادة لدى كافة المغاربة المسلمين.
ولعل ذاك هو الجرج الأبدي الذي لا يندمل بالنسبة لمحند، فلا يضير هذا الأخير في شيء الاعتراف والإقرار بكون جده قد فشل في السياسة، فهي ضريبة النضال وبالتالي ليس هو الأول ولا الأخير الذي لقي نفس المصير، ولكن يضيره كثيرا أن يُمنع جده من العودة إلى مسقط رأسه ويعيش ما تبقى له من أيام العمر بين أفراد أسرته وذويه؛ إنه الجرح الذي ظل وسيظل ساكنا أعماق محند ولا يكاد يفارقه، بل إن هذا هو الجرح الذي يقف وراء ممانعته وإبداء تشدده إزاء كل ما يصدر عمن يحسبهم قد تقصّدوا لف الحبل على عنق جده وأغمدوا الشوكة في ظهره.
هذا الاعتراف الذي باح به محند، جعل صديقه أمين مشدوها لا يلوي على شيء، لدرجة بدا معها عاجزا حتى عن الاستمرار في قضم سندويشه.
لا شك أن القارئ قد أدرك مدى الحنكة التي أبان عنها الراوي في ربطه لموضوع الريف من الناحية التاريخية، حيث يريد أن ينبهنا إلى أن هذا التاريخ هو سلسلة مترابطة الحلقات لا ينبغي الفصل في ما بين أجزائها (بدءا بتسمية محند التي تحيل على عبد الكريم وثورته ومرورا بحفيد الحاج سلام أمزيان وانتفاضته، وصولا إلى الحراك).
كما لا يخفى على القارئ أيضا أن الكاتب ينتصر لأطروحة الوحدة والجسد الواحد، شرط تفعيل آلية الإنصات التي بوسعها تبديد "سوء الفهم الكبير" الذي تعاني منه منطقة الريف، مع أهمية بحث وإبداع صيغ مغايرة لاستيعاب الذهنية الريفية المثخنة بالجراح، ومن ثم ضرورة رد الاعتبار الحقيقي لها وجبر الضرر الذي لحق بها، وصيانة ذاكرتها الجماعية واحترام خصوصيتها الثقافية والتاريخية.
وبتقليب الصفحات وتطور الأحداث، يحس القارئ بالظمأ لمعرفة المصير الذي ستؤول إليه شخصية محند؛ غير أنه سيصاب بالخيبة حين سيدرك أن زمن محند قد توقف، ودفن حيث دفن جده أمزيان، وربما بالطريقة نفسها، حيث طواه النسيان وتوارى عن الأنظار، لدرجة أن صديقه أمين سوف لن يتذكره إلا كذكرى جميلة بعد أن تقطعت به الأوصال وأضاع كل أوراقه الثبوتية وهاتفه المحمول الذي حرمه من التواصل مع أعز مقربيه (عشيقته وأمه ومحند). (ص 283).
فهل اختار الكاتب لشخصية محند ركوب المغامرة أو الهجرة والرحيل كما سبق أن أومأ إلى ذلك قبلا؟ في رأيي، ربما كانت تلك هي الحقيقة التي ينطق بها الواقع، لا سيما وأن مآل المتمسكين بقول الحقيقة والصادحين بها هو التواري والرحيل، تماما كما كان يردد نيتشه، ف "منذ القديم والبشر لا تعاقب إلا من يقول الحقيقة، وإذا أردت البقاء مع الناس شاركهم أوهامهم، فالحقيقة يصدح بها من يرغبون في الرحيل".
خاتمة
ربما ثمة من القراء من سيؤاخذ الكاتب ويرميه بتهمة "ترك الحبل على الغارب"، وكأنه افتقد للجرأة اللازمة للسير بالشخصية الريفية محند إلى نهايات القصة، وبالتالي فهو لم يقدم حلولا للقضية.
إلا أنه ينبغي في تقديري الشخصي -رغم كل المؤاخذات التي يمكن أن يواجه بها الكاتب- أن نعترف له بالفضل الكبير، اعتبارا لقامته الفكرية والأدبية، لما أسداه من خدمة للريف وقضاياه، إثر منحها المكانة التي تستحقها بين رزنامة القضايا الوطنية الجوهرية التي تشغل بال المغاربة راهنا، بحيث يبدو أنه قد بذل مجهودا مضنيا، لأجل إخراج المسألة الريفية إلى دائرة الضوء، ورسم لنا هذه الصورة/اللوحة التي نجدها إيجابية ومحفزة جدا على إثارة النقاش.
أخيرا؛ أرغب في القول بأن ما قدمه لنا أوريد في هذ الرواية، ينبغي أن ينظر إليه من زاوية كونه زادا معرفيا (لا يزال في عداد المجهول بالنسبة للأغلبية) يجب إضافته إلى الأزواد الأخرى ومراكمتها بغاية استثمارها، لا سيما وهو الذي أبدى تعاطفا جليا مع شبيبة الحراك ورافع من أجلهم من خلال تلميحه إلى معارضته للأحكام الصادرة في حقهم إثر وصفها ب"القاسية".
ناهيك عن أن الكاتب حاول (من خلال فصول هذه الرواية) المطالبة بالقيام بعملية "مسح الطاولة" للتخلص من كل الندوب والأعطاب والعوائق التي من شأنها أن تفضي بنا إلى الباب الموصد ومزيد من الانكسارات (كما حصل مع شخوص الرواية كلها تقريبا).
هذا، فضلا عن الدعوة أيضا إلى ضرورة شحذ التفكير والعمل سويا على إعادة البناء، لاجتناب العيوب التي صاحبت بناء صرح الدولة الوطنية وترميم الشقوق التي علقت بها، وفق ثقافة جديدة مؤسسة على مقاربة منصفة، مقاربة مبنية على أهمية احترام آدمية الإنسان وصون حقوقه في الحياة الكريمة وحفظ ذاكرته وخصوصيته؛ وبالتالي هي مقاربة مناقضة للمناوئين الرافضين من جهة، والمستطيبين لعادة "كم حاجة قضيناها بتركها" من جهة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.