رئيس أساقفة القدس المطران عطا الله حنا يوجه رسالة إلى مؤسسة شعيب الصديقي الدكالي الدكالي    قاتل والده بدوار الغضبان يحاول الانتحار بسجن سيدي موسى بالجديدة    فيتنام تسجل درجات حرارة قياسية فأبريل    بطولة انجلترا: إيبسويتش تاون يعود للدوري الممتاز بعد 22 عاما    جائزة ميامي للفورمولا واحد : فيرستابن يفوز بسباق السرعة    لشكر ينتقد "عقلية العنف" لنظام الجزائر ويطالب الحكومة بالعناية بجهة درعة    السعودية حكمات بالحبس 11 العام على مناهل العتيبي غير حيت دعمات حقوق المرا.. و"امنيستي" كتطالب بإطلاق سراحها    بوركينافاسو تشيد بالمبادرة الأطلسية الإفريقية التي أطلقها جلالة الملك    اللعابا د فريق هولندي تبرعو بصاليراتهم لإنقاذ الفرقة ديالهم    رئيس بلدية لندن العمّالي صادق خان ربح ولاية ثالثة تاريخية    أخبار سارة لنهضة بركان قبل مواجهة الزمالك المصري    طنجة .. لقاء يبرز أهمية المنظومة القانونية للصحافة في تحصين المهنة والمهنيين    من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟    توقعات أحوال الطقس ليوم الأحد    إدارة المغرب التطواني تناشد الجمهور بالعودة للمدرجات    فيلم "من عبدول إلى ليلى" يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    قمة منظمة التعاون الإسلامي.. الملك يدعو إلى دعم الدول الإفريقية الأقل نموا    موريتانيا حذرات مالي بعدما تعاودات الإعتداءات على مواطنيها.. ودارت مناورات عسكرية على الحدود    آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بصفقة تبادل أسرى وإسقاط حكومة نتنياهو    أسواق أضاحي العيد ملتهبة والمغاربة أمام تغول "الشناقة"    لمجرد يقطع صمته الطويل..قائلا "أريد العودة إلى المغرب"    إبراهيم دياز يتوج رفقة ريال مدريد ببطولة الدوري الإسباني    القضاء يدين سائحا خليجيا بالحبس النافذ    طنجة.. محاميون وخبراء يناقشون رهانات وتحديات مكافحة جرائم غسل الأموال    التوقيع على ثلاث اتفاقيات للتنمية المجالية لإقليمي تنغير وورزازات    إبراهيم دياز يهدي ريال مدريد لقب الليغا الإسبانية بهدف خرافي    دراسة.. نمط الحياة الصحي يمكن أن يضيف 5 سنوات إلى العمر    افتتاح معرض يوسف سعدون "موج أزرق" بمدينة طنجة    تعاون مغربي إسباني يحبط تهريب الشيرا    فرنسا.. قتيل وجريح في حادث إطلاق نار في تولوز    ارتفاع حركة النقل الجوي بمطار الداخلة    تعيينات جديدة فال"هاكا".. وعسلون بقى فمنصب المدير العام للاتصال    "دعم السكن" ومشاريع 2030 تفتح صنابير التمويل البنكي للمنعشين العقاريين    تونسيون يتظاهرون لإجلاء جنوب صحراويين    مادة سامة تنهي حياة أربعيني في تزنيت    كأس الكونفدرالية الافريقية .. طاقم تحكيم كيني يدير مباراة نهضة بركان ضد الزمالك    الوكالة الحضرية لتطوان تواصل جهود تسوية البنايات غير القانونية    هل تبخر وعد الحكومة بإحداث مليون منصب شغل؟    106 مظاهرات في عدة مدن مغربية لدعم غزة والإشادة بالتضامن الطلابي الغربي    سيناريو مغربي ضمن الفائزين بالدعم في محترفات تطوان    صناديق الإيداع والتدبير بالمغرب وفرنسا وإيطاليا وتونس تعزز تعاونها لمواجهة تحديات "المتوسط"    بطل "سامحيني" يتجول في أزقة شفشاون    مهرجان الدراما التلفزية يفتتح فعاليات دورته ال13 بتكريم خويي والناجي (فيديو)    صندوق الإيداع يشارك في اجتماع بإيطاليا    انتهى الموضوع.. طبيب التجميل التازي يغادر سجن عكاشة    بمشاركة مجموعة من الفنانين.. انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البهجة للموسيقى    إلغاء الزيادات الجمركية في موريتانيا: تأثيرات متوقعة على الأسواق المغربية    كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟    أزيلال.. افتتاح المهرجان الوطني الثالث للمسرح وفنون الشارع لإثران آيت عتاب    خبير تغذية يوصي بتناول هذا الخضار قبل النوم: فوائده مذهلة    الأمثال العامية بتطوان... (589)    دراسة… الأطفال المولودون بعد حمل بمساعدة طبية لا يواجهون خطر الإصابة بالسرطان    المغرب يسجل 13 إصابة جديدة بكورونا    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف جرى مفهوم القطيعة على التراث 1/3
نشر في هسبريس يوم 25 - 03 - 2010


عبد الله العروي مثالا(1)
خطاب القطيعة و تشريح العقل في الفكر العربي المعاصر
يعتبر مفهوم القطيعة، المفتاح الأساسي لفهم طبيعة النزاع الايديولوجي الذي شهده الفكر العربي المعاصر إزاء مطلب الحداثة و الموقف من التراث. فلا وجود لقراءة جديدة حول التراث لم تقترب أكثر أو أقل من هذا المفهوم أو تستوظفه في سياق نقدها. و سواء أكانت المشاريع المهتمة بالتراث تنتمي للمقاربة الايديولوجية أو المقاربة المعرفية الخالصة، فإن مفهوم القطيعة يحضر بشكل لافت للنظر. و إذن، فهو نفسه مفهوم قابل للتوظيف الايديولوجي بقدر قابليته للتوظيف المعرفي. على هذا الأساس يمكننا القول، بأن مفهوم القطيعة و إن كان منشؤه علمي بحث و ربما جاء ليقطع الطريق على الاختراق الايديولوجي نفسه للمعرفة، إلا أنه يعتبر أفضل هدية قدمها النقد المعرفي إلى المقاربة الايديولوجية. ومع أن هذا المفهوم المتداول بكثافة في النقد المعرفي والايديولوجي العربي المعاصر، هو العنصر الجامع لمختلف الخطابات و المشاريع النقدية العربية و الإسلامية المعاصرة، إلا أن هناك جانبا كبيرا من الاختلاف لا يستهان به في طبيعة و حيثيات القطيعة المنشودة. فهل يا ترى، هي قطيعة تامة و جذرية مع التراث، أم هي قطيعة موضعية جزئية انتقائية معه أم هي قطيعة مع فهم معين للتراث أم قطيعة مع التراث نفسه...؟
هذا بالضبط ما دعانا للتركيز على ثلاث صور لهذه القطيعة، من خلال ثلاثة مشاريع نقدية، لعلها في تقديرنا، الأكثر أهمية و الأبلغ صيتا من نظرائها سواء في المغرب أو المشرق العربيين. إذ ما دونها لا يعدو كونه اجترار لنفس الصورة أو أنه واقع في الضفة الأخرى للنقد الايديولوجي العربي المعاصر، المناهض لفكرة القطيعة و المقوض لدعواها. و أعني هنا، ثلاثة مشاريع، لكل من عبد الله العروي و محاولاته لنقد الوعي التاريخي العربي و محمد عابد الجابري في رباعيته الضخمة التي بلغت جزءها الرابع الأخير قبل أن تتعدى إلى محاولات نعتقد أنها بدأت تنقض بنفسها أركان مشروع نقد العقل العربي، و محمد أركون في مشروعه النقدي الرامي إلى إعادة قراءة التراث في ضوء مناهج ألسنية و أنثربولوجية حديثة، في أفق ما يسميه بالإسلامية التطبيقية. و مع أن المفكرين الثلاثة المذكورين، يقفون على أرضية مشتركة، قوامها النقد و الدعوة إلى القطيعة، إلا أن حيثيات هذه القطيعة هي ما يشكل أرضية تمايز بينهم. و ذلك، بحسب طبيعة التكوين و جغرافيته و الإطار المعرفي و المسوغات الايديولوجية لكل باحث على حدة. و يبدو، من خلال فحص فكرة القطيعة بالصورة التي تحضر بها في أعمال أولئك، أن هناك اختلافا في المداخل. فمدخل العروي لمفهوم القطيعة يختلف عن مدخل الجابري. و أيضا الأمر نفسه بين الجابري و أركون. و هذا يعني، أن وجود ما به اشتراك هذه المشاريع في بعض مفردات الرؤية لا ينبغي أن ينتهي بنا إلى إعلان ما به اشتراكها على نحو تام أو يحجب عنا ما به امتيازها في باقي المساحات الأخرى. فالقطيعة عند العروي، تأخذ معنى الطفرة التاريخية، بالمعنى الذي تذهب إليه المادية التاريخية، ما يجعل من هذا الأخير، تاريخانيا بامتياز. أما القطيعة عند محمد عابد الجابري، فهي تأخذ معنى الثورة العلمية كما هي عند غاستون باشلار و طوماس كون؛ ما يجعل منه بنيويا بامتياز. أما القطيعة عند أركون، فهي تعيش على إيقاع معطيات الثورة المنهاجية الجديدة، التي تمتد إلى مختلف الحقول، في اللغة و التاريخ و الاجتماع و النفس. فهي بهذا المعنى قطيعة مع أساليب القراءة و الفهم. و هو مفهوم يلتقي مع كافة الأطر المعرفية التي تشكل المجالات الثقافية والاشتغالية و التداولي للحداثة الغربية.
خطاب القطيعة الكبرى:عبد الله العروي مثالا
تشكل أطروحة العروي، ظاهرة فريدة من نوعها في المجال العربي. فهو في طليعة المبادرين إلى فتح باب النقد الايديولوجي في الفكر العربي. و هو من أكثر المثقفين العرب جرأة في أطاريحه التاريخانية. و من أبرز الدعاة للكف عن الحديث عن خصوصيات المجال العربي والإسلامي، و الدخول في الحداثة بشروطها هي لا بشروطنا نحن. و ذلك هو ما يميز منظوره للقطيعة، حيث يبدو الأمر هنا يتعلق بما وصفناه بالقطيعة الكبرى وذلك احترازا من أن أسميها القطيعة الجذرية . فما خلفيات هذه الدعوة، وما حيثياتها وما مدى قدرتها على الصمود، وما هي مآزقها الراهنة وآفاقها المستقبلية؟
لقد سعى العروي إلى صياغة سؤال الحداثة على نحو يؤدي حتما إلى طرد مقابله؛ أي سؤال التراث، من دائرة المطلوب إنجازه. فالعروي لا يقدم رؤية جديدة للحداثة و لا ينخرط في لعبة نقدها، على الرغم من تمسكه بأهداب الفكر التاريخي الآيل حتما إلى معانقة الطرح الكوني. بل إنه يؤشر إلى وجود هذا النموذج ماثلا أمام أعيننا. إنها الحداثة كما هي في الغرب؛ يجب أن تحضر كما هي في الغرب في المجال العربي. وأن مهمة العرب و المسلمين اليوم ، كامنة في أن يبدلوا جهدا كبيرا في استيعاب دروس الحداثة و في الوقت نفسه، أن يكفوا عن أن يتحدثوا عن خصوصيتهم كعرب أو كمسلمين. ليكفوا إذن عن الحديث حول كونهم عربا أو مسلمين؛ فللحداثة صورة واحدة ، وواحدة فقط. لأن ليس للتاريخ إلا اتجاه واحد و ليس للثقافة إلا جنس واحد. فإما نكون أو لا نكون. لقد حدد العروي بذلك مسارا محددا و نموذجا محددا؛ فالمشكلة إذن، هي في العربي و الإسلامي الذي يقع خارج دائرة الوعي التاريخي. إن الموقف من التراث يتحدد برؤية العروي للحداثة. و هذه الأخيرة، لا تحضر عند العروي بصورتها المجردة أو مظاهرها العفوية، بل تحضر بمعطياتها الحتمية كما يحددها التطور التاريخي. من هنا، تبرز الأهمية التي يوليها العروي للفكر التاريخي و أيضا الأهمية التي يوليها للمدرسة الفكرية الأكثر اقتدارا على إسناد هذا الفكر التاريخي؛ أي المنظور "التاريخاني" كما يتحدد في المدرسة الماركسية. وحتى هنا، لا بد من أن نحدد طبيعة التبني للمنظور التاريخاني الماركسي، حتى لا تواجهنا تلك المفارقة بين العروي الليبرالي ، والعروي الذي يتبنى لغة النقد الأيديولوجي الماركسي طريقا نافعا لمجتمعاتنا العربية.
حتمية الفكر التاريخي
يدعو العروي، إلى تبني الفكر التاريخي عبر أهم مدارسه، أي الماركسية التاريخانية. فالفكر التاريخي هو فقط وفقط، ما من شأنه إخراج العرب من مأزقهم التاريخي. من هنا يصبح الفكر التاريخي، هو العمود الفقري للمقاربة العروية. وهو "فكر" غير مطروح للنقاش أو الثرثرة أو الإختيار الحر. فحتى لو أن المثقف العربي، لم يعش هذا الفكر في ذهنه، فإن الواقع سيتجاوزه. فالواقع يخضع لقانون التاريخي. و على هذا الأساس، لا خيار للأمة، سوى أن تتبنى هذا الفكر عبر مدرسته المذكورة. فهذا العرض نفسه غير خاضع للإختيار. بهذا المعنى، فإن العروي يفرض مطلبين أساسيين لا خيار فيهما ولا تردد؛ الفكر التاريخي و المدرسة التاريخانية الماركسية. فالغرب يقترح أكثر من وجهة للفكر، لا يصلح لنا منها إلا الفكر التاريخي. والماركسية تقترح أكثر من صورة و تأويل لها، ولا يصلح لنا منها إلا وجهها التاريخاني. فماهي إذن حيثيات هذه الدعوة، وما جدوى هذه "التاريخانية" كما يراها عبد الله العروي؟ لا يخفى أنه، و في ضوء هذه المقاربة الجذرية للوضع العربي، و في ضوء المقترح الجذري أيضا، لفكر ما في صورة ما، حتما سيكون قد بنى موقفا جذريا من التراث والماضي. وهذا بالفعل ما حصل مع العروي، حيث دعا إلى إعلان القطيعة الكبرى مع الماضي، بما يوحي بأن دعوته هذه فالدعوة ، كما مر معنا، تؤدي عند العروي دور الأيديولوجيا هي نوع من التحريض الذي يستند إلى مسلمتين:
-1الصراع الأيديولوجي والانخراط في النقد الأيديولوجي.
-2دور الفرد في حركة التاريخ.
إن العروي لم يتردد في الدعوة إلى الانخراط في الصراع الأيديولوجي؛ الشرط الوحيد لتحرير المجال من سيطرة الفكر السلفي والانتقائي. كما أن دور الفرد في التاريخ وهي مسألة مثار نقاش واسع في الفكر الماركسي الاجتماعي هي شرط ضروري لتحقيق هذه الدعوة. على الأقل، إن الدعوة تفترض متلقي قابل لاستقبال النظرية وممارستها. وعلى الرغم من أن العروي واضح إلى حد ما في اختياراته، إلا أنه لم يقدم تفسيرا لهذه المفارقة التي قد تصدم كل باحث ناظر في متن ماركسي، حتى لو كان الأمر يتعلق بلينين أو بليخانوف أو ماركس أو إنجلز. وأعني بالمفارقة هنا، كيف يقترح العروي، الفكر التاريخي حلا وحيدا لأزمة العرب، ويحاول في الوقت نفسه أن يقنعهم بأن الفكر التاريخي ليس مسألة اختيار؟ !
غير أن العروي، مدرك تماما لهذا المأزق. فالدعوة هنا، هي دعوة في نظره إلى ما من دون الأخذ به، قد تحصل الكوارث. الأمر الذي يعني، أن وجهة الحل، هي واحدة لا متكثرة. و هو الأمر الذي تطلب من ناقد الأيديولوجيا، إخضاع المعروض الماركسي نفسه لمحك النقد. إنه يحسن التصرف في هذا المعروض، على أساس التمييز بين طوباويات ماركس نفسه و بين ماركس التاريخاني. حيث لم يؤد فعل القطيعة التي أحدثها "لوي ألتوسير" بعد ذلك، ما بين ماركس و هيغل و فويرباخ، و بين ماركس الشاب و ماركس الناضج إلى التأثير على اختيارات العروي. حيث لا يرى في هذه الماركسية الناهضة على ضرب من التفكير البنياني الألتوسيري تهديدا لاختياره التاريخاني. وهذا ما سيجعل "العروي" يخوض في مناقشة أشكال و أنواع الماركسية المطروحة في العالم العربي. على أن العروي منذ عقود من سقوط الإتحاد السوفياتي، يرى إلى الماركسية، ليس كدوغما، بل كمدرسة تفيد في استيعاب الفكر التاريخي. على هذا الأساس، لا يعني سقوط الاتحاد السوفياتي بالنسبة إليه، نهاية لهذه المدرسة، طالما هو منذ البداية لم يتعامل معها كدوغما أو كنقيض لليبرالية، بل لقد تعامل معها بصورة براغماتية نفعية؛ أي أن السؤال غدا : أي شكل من أشكال الماركسية هي أنفع للعرب؟ هنا يبدو و كأن العروي، ينتقي بروح البراغماتية الليبرالية، أي ماركسية نافعة لنا. و مع أن العروي كان قد ناهض فعل الانتقاء أصلا في الفكر العربي والإسلامي، وأقامه جنبا إلى جنب مع الفكر السلفي، فإنه الآن، لا يرى غضاضة في أن يمارس انتقاءه في هذا المعروض الماركسي المتنوع في صور التأويل. ربما، دافع عن موقفه، بأن اختياره واقع في طول ما يفرضه واقع العرب نفسه. أي أنه مضطر في صورة مختار، كما يقول الفارابي. لكن، ألم يتساءل العروي، بأن الإنتقائي بغض النظر عن جدوى الانتقاء هو نفسه في انتقائيته ناظر فيما تسمح به إكراهات الاجتماع المحلي. أو بتعبير آخر، هو نفسه متشبث بالسؤال: أي شكل من أشكال هذا الفكر المعروض هو أصلح للعرب؟ إنها بالتالي وجهة نظر مختلفة و متفاوتة في رؤية الأشياء.
في نقد خطاب الأصالة و الفكر السلفي
لا يتردد العروي في اتهام الفكر السلفي بكونه سببا في تخلف البلاد العربية. فهو يمثل الفكر النقيض للفكر التاريخي، الذي هو مفتاح خروج أي كيان اجتماعي ينشد التقدم من مأزقه التاريخي. يعبر عن موقفه ذاك بكل وضوح قائلا: "هذه حقيقة نقولها و نكررها و بعد الإقرار والتكرار نجدد الدعوة إلى العقل التاريخي لأن اللجوء إلى الرومانسية والفوضوية، إلى الشعر الغاضب، إلى الثوروية الفارغة، يقوي فقط جانب الفكر السلفي. و هذا الفكر كان سبب التخلف، و سيبقى سبب التخلف".[1]
ليس ذلك، لأن الفكر السلفي أو مفهوم الأصالة لا يلتقي مع الفكر التاريخي و مقوماته فحسب، بل لأن مفهوم الأصالة ذاته يعاني من اضطراب. و ذلك لأنه تارة يرمز إلى الدين و أخرى إلى الثقافة و ثالثة إلى واقع أنثروبولوجي و مرة إلى اختيار تاريخي. و لكل مفهوم من هذه المفاهيم، فئة تدافع عنه أو تيار سياسي يسنده. الأمر الذي يجعل منه مفهوما غير مستقر و يجعل من النقاش حوله أمرا مستصعبا.[2]
يتقدم العروي خطوات إلى الأمام، كي يتفادى السؤال حول مدى شرعية الأصالة أو مفهومها. فيتساءل حول من له المصلحة في الدعوة إليها؛ أي ما هي القوى الاجتماعية المستفيدة من هذا الخطاب. إن غلبة الخطاب التقليدي حسب العروي، و سيطرته على المجتمع، يجعل العمل السياسي نفسه لا جدوى منه. لأنه في مثل هذه الحالة، سوف يساهم في تعميق مراكزه. إن أي فئة اجتماعية، تجد مصلحتها في استعمال المنهج ذاته.[3] فالأيديولوجيا في نهاية المطاف، هي مصالح ! وعليه، فإن التراث، "تحميه اليوم مؤسسة لا تترك لأحد حرية التأويل." .[4]و الحل الوحيد في خضم هذه الدعوات إلى الأصالة و التراث، أن يتحمل المثقف دوره، وأن يواجه هذه الثقافة الأصالاتية بثقافة تقدمية. على أن الثقافة التقدمية، و هي التي تقتحم أبواب التقدم، هي آخر الحلول مهما اشتملت عليه من سلبيات. فلا جدوى بعدئذ من جعل رفض الحداثة و التشبت بالتراث و الأصالة للتأكيد على نوع من الخصوصية. و العروي، هو أكثر وضوحا و جذرية في رفضه لدعوى الخصوصية بهذا المعنى. فالتعلق بالتراث "نكاية في الغرب الامبريالي"، هو موقف بهذا المعنى، لا جدوى منه، إذ "يعني في الظروف القائمة تعاميا عن الواقع و تنكرا للمستقبل الذي سيطرح فعلا مسألة الخصوصية، لكن في إطار جديد و بوسائل ذهنية و مادية جديدة".[5]
و إذ يقوم المثقف التقدمي بمواجهة دعوى الأصالة، فهذا أمر مفروض وحتمية لا تترك خيارا للمثقف؛ لأنه لن يغير وجهة التاريخ إن هو رفض الاستسلام إلى قوانين التطور التاريخي. و ليس أمامه إلا الإذعان لهذه القوانين التاريخية، إن كان يريد أن يكون له وجود و تأثير.[6]
إن العروي إذن، يدرك بأن الخصوصية قد يكون لها مساحة في وعينا التاريخي نفسه. و هذا ما نفهمه من قوله السابق، بأن الخصوصية قد تطرح على مستوى المستقبل بكيفية أخرى، ووفق وسائل ذهنية و مادية مختلفة. و لذا فهو يدعو إلى التمييز بين الخصوصية والأصالة. وهذا ما يشرح الموقف الجذري للمقاربة العروية من كل ما يلتف على سؤال التقدم. التقدم كما هو ماثل في نموذج ماثل في مكان ما: يعني الغرب. على كل سلبياته، علينا أن لا نضيع الوقت، و لنتدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان. أنه يتخذ موقفا راديكاليا من كل الدعوات الرومانسية الفوضوية والانثروبولوجية التي يقدمها الغرب، بوصفها لا جدوى منها بالنسبة إلينا. و هكذا فإن دعوى الأصالة التي يمكن أن ينفتح عليها المثقف العربي، هي دعوات لا تحمل قيمتها النفعية، ولا يعتبر ذلك انفتاحا للمثقف، بقدر ما هو عجز عن إيجاد أجوبة على سؤال العصر. وهذا أمر ينطبق على كل دعاة الأصالة، بل وينطبق حتى إلى بعض أشكال الماركسية العبثية أوالفوضوية. فالعروي لا يرى جدوى حتى من تلك الدعوة التي ينهض بها المثقف البورجوازي الصغير. إن حجم الطبقة البورجوازية العصرية في هذه الحالة، وإن كان في نظره له علاقة بطبيعة المنظور والقدرة على الإجابة على تحديات العصر، فالمثقف في هذه الحالة، و إن كان يحمل ثقافة عصرية، لكنه يبدو واعيا أيضا بالعجز أمام تخلف المجتمع. والنتيجة إذن، هي أن "يرى نفسه و يصور دوره للآخرين كالوحيد، المنعزل، اللاّمنتمي، الثائر، البطل، الشهيد (...) و إذا تهافت القراء العرب منذ سنوات على كامو(الغريب) و مركوز (الرجل ذو البعد الواحد)، مرورا بالجنس و الشعر الحر..فهذا لا ينم إطلاقا عن غزارة الثقافة والانفتاح عل الغير، بل بالعكس على فراغ و خلط و عدم استقرار و عجز تجاه تحديات العصر العديدة".[7]
على هذا الأساس، تطرح المقاربة العروية : أي غرب نأخذ عنه ! إنه يرى في الإنفتاح على الوجوه الأخرى للفكر الغربي، كالوجودية أو النقدية لمدرسة فرانكفورت، حيث ينتمي إليها ماركوز أو أي دعوة عبثية فوضوية، دليلا على عجز المثقف العربي. و مع ذلك، فإن التمييز بين الخصوصية، التي قد تكون مطلبا حقيقيا، يرمي إلى نشدان التميز في الشخصية على أسس و معطيات الحاضر. حيث هي نفسها من نتائج الماضي المفروضة حتميا وغير المتروكة للاختيار، وبين الأصالة بمعنى "الإبقاء على نمط اجتماعي سلوكي..الخ" ، لم يعد صالحا لعصرنا، حيث لا وجود "لظاهرة ثابتة في التاريخ". و طبعا، إن دعاة الأصالة، لا يتفقون على هذا المعنى، و يرفضون هذا النوع من التعريف للأصالة، و تصبح الدعوة إلى الخصوصية، دعوة يختفي وراءها دعاة الأصالة.[8]
من هنا وجب على كل من يريد نقد الفكر العربي أن يبدأ من هنا؛ أي من الفكر التقليدي. الفكر الذي يتردد باستمرار في المجال العربي، و الذي يرى الاكتفاء بما هو موجود في التراث، بوصفه كافيا شافيا، و هو قادر على تزويدنا بحلول لمشكلات عصرنا. فالعروي يتساءل بعد ذلك، أين الاقتصاد الإحصائي، تنظيم المعامل، السياسة النقدية، العلوم اللسنية، قواعد التغذية، تربية النسل، علم النفس التجريبي، قواعد البيبليوغرافية، قواعد التحف الفنية في تراثنا التقليدي؟ .[9] يبدو، أن العروي، هنا، يرفض التمييز بين ما يجب أن نأخذه عن الحداثة و ما يجب تركه. فهو بقدر ما يرفض الدعوة السلفية إلى الأصالة، يرفض الانتقاء. فالكل مبني على نسق واحد. فإذا "قبلنا بعض المواد لفوائدها البديهية، ورفضنا البعض الآخر، لأنها تمس بالشخصية الأصلية مع أن الكل ينبني على منطق أساس واحد، من يتكلف بالفرز و بأي مقياس يميز بين النافع وبين الهدام، هل يقوم بالاختيار "عابد" التراث الذي يجهل مطلقا العلوم الحديثة أم من له إلمام بها و هو نفسه متهم بإدخال تلك الافكار المستوردة ؟ ".[10]
ففي نظر العروي، لا جدوى من الإجابة على السؤال المذكور؛ حيث "من يدافع عن التراث، هو بالضبط من لا يعرف سوى التراث. و علاوة على ذلك، بكيفية تقليدية".[11]
إن العلاقة مع التراث، لم تعد قائمة، في نظر العروي. وهي قطيعة تمس كافة الميادين. وما يبدو من استمرار لهذا القديم، ما هو إلا ضرب من الحنين الرومانسي، و نتيجة انخداع يحول دوننا و رؤية واقع القطيعة هذه. فليس الوفاء للتراث، هو الواقع، بل إن الانفصال عنه، هو الواقع الحقيقي. و يبدو، أن الفكر العربي، لا يزال متخلفا لهذا السبب تحديدا. إننا "منذ النهضة، و نحن نعيش بأجسامنا في قرن و بأفكارنا و شعورنا في قرن سابق، بدعوى المحافظة على "الروح الأصلي"، وتلك كانت خدعة من القسم المتأخر في نفسانيتنا و في مجتمعنا".[12]
إن الأصالة في نهاية المطاف وبحسب المقاربة العروية، هي موقف لا تاريخي. بخلاف الخصوصية التي يتستر وراءها دعاة الأصالة. في حين هذه الأخيرة، هي مطلب تاريخي كان و لا يزال و سيظل دعوة مشروعة، فيما إذا لم تصبح دعوة ضد التاريخ ووحدته، أو على مسافة من فكرة الوفاء الدائم للتراث.[13]
و لا جدوى أيضا من أن نركز على الطبقة حاملة التأخر، لأن هذا النوع من التركيز يحجب عنا ما هو أخطر من ذلك، هو سريان التأخر إلى فكر المثقف عبر الثقافة بوصفها تمثل البعد التاريخي، حيث لا تمثل الطبقة إلا البعد السطحي.[14] و على هذا الأساس، فالمثقف العربي الغارق في الدعوة السلفية و الإنتقائية، و هما صفتان تميزان الذهنية العربية اليوم، واللذان "تسبحان في الحاضر الدائم"، ليس مثقفا حرا و لا مكنة له لتحرير مجتمعه. و بالتالي، لا جدوى حتى من العمل السياسي الذي ينخرط فيه. لهذا السبب تحديدا، لم ينتفع المجتمع العربي بمثقفيه منذ عقود.[15]
مقومات الفكر التاريخي
ما كان ينقضه العروي من عوائق ضد الفكر التاريخي في المنطق السلفي و الانتقائي، لا يقتصر على دعاة الأصالة ، إسلاميين كانوا أو قومانيين، بل ينصرف أيضا إلى التيار الماركسي العربي نفسه. فهذا الأخير، لم ينج هو الآخر من الفوضى. إن الفكر التاريخي، هو واحد في نظر العروي، تماما كنظره في التاريخ ذي الوجهة الواحدة. حيث إذا تراءى لنا أن للتاريخ وجهات مختلفة، فذلك واقع في الوهم، لا في الواقع. إن التاريخ هو واقع المجتمعات، سواء أكانت عربية أو غير عربية. فالماضي و الحاضر، هو واقع يومي للعرب و أعداء العرب. و من ثمة، فما يؤدي إليه الفكر اللاتاريخي هو عدم إدراك الواقع. و هكذا يرسم العروي معادلة سياسية لهذا النزوع اللاتاريخي: إن نتيجة الفكر اللاتاريخي، هي التبعية و على كل المستويات.[16]
إذا كان العروي ينبه إلى أن هناك أكثر من غرب يجب أن نتعاطى معه بحذر، أي علينا أن نقبل من الغرب ما ينفعنا؛ طبعا ، هذا ليس مناقضة لرفضه الانتقاء ، بل هو نوع من الاجتهاد في استخراج المناط. حيث ما تقدم به الغرب، هو الفكر التاريخي و ليس غيره. و إذن، يكون العروي قد أجاب عن السؤال : أي غرب نريد؟ فأيضا، هو الآن و بعد أن اعتبر المدرسة الماركسية، هي الأجدر بأن نتعلم منها الفكر التاريخي، يحاول الإجابة عن سؤال آخر: أي ماركسية نختار؟
فتصبح المعادلة اليوم كالتالي :
نأخذ من الغرب فكره التاريخي. و هذا يوجد في المدرسة الماركسية. و هو ما يتوقف بدوره على أي صورة من الصور الماركسية يجب أن يقع عليه اختيارنا ؟
بهذا يكون العروي قد طرح مشكلة أخرى: مشكلة الماركسية العربية نفسها، بوصفها خاضعة إلى حالة من الفوضى في الفهم، و الضعف في التعريب. إنه يؤشر إلى أزمتها؛ ما يجعله يخوض في نقاش واسع حولها. حيث لا يمكننا فهم مراد العروي من دعوته إلى الفكر التاريخي و ربطه بهذه المدرسة، إلا إذا فهمنا رؤيته للماركسية التي يراها أنجع مدرسة للعرب، لتزويدهم بالفكر التاريخي. يقول العروي هذا، وهو رمز من رموز الفكر الليبرالي اليوم. فهل هذا تناقض؟ قد يبدو الأمر كذلك إذا نحن لم نقف على طبيعة دعوته الماركسية هذه. حيث ماركسيته تقف على طرفي نقيض من كل أشكالها المتداولة في المجال العربي. فهي ماركسية تقوم على منظور نفعي براغماتي، و ليس على منظور عقائدي. فلا قيمة لهذه الماركسية إلا بما تحققه للمجتمع العربي من فهم لطبيعة الصيرورة الاجتماعية التاريخية؛ أي لتكوين هذا الوعي التاريخي في الفكر العربي. و تبدو المدرسة الماركسية في نظر العروي، هي المدرسة الأكثر استيعابا لمسألة التطور و للفكر التاريخي. بهذا المعنى تصبح ماركسية العروي، ماركسية "تاريخانية" . فهو بتعبير أوضح، ماركسي من حيث تبنيه للفكر التاريخي. لهذا لا يتردد في أن يصف دعوته باعتبارها تاريخانية ماركسية. فمنظوره للفكر التاريخي، هو ما فرض عليه اللأخذ بالمدرسة الماركسية، في جانبها التاريخاني، و ليس بمضمونها الذي آلت إليه في الواقع العربي أو في كل البلاد المتخلفة التي دخلتها.
هل لهم ماركسيتهم ولنا ماركسيتنا؟
إن ذرائعية العروي إزاء هذه الماركسية التي يدعو العرب إلى الإنصات لدرسها التاريخي، لا يعني أن لا وجود هناك لمن يقف هذا الموقف الذرائعي منها في المجال نفسه. فالعروي نفسه يعترف بأن "المثقف العربي في غالب الأحيان، يحارب الليبرالية عن قصد و يستعمل وسائل ماركسية بدون اقتناع بها في معركة تاكتيكية، فقط، لأن الليبرالية لا تروق له شخصيا. فيغلب ميوله الذاتية على حاجيات مجتمعه التاريخية، و يستعمل الماركسية بمكر تحت شعار محاربة الغرب و الاستعمار و الامبريالية الفكرية".[17]
لكن ما يشفع لذرائعية العروي، أو لنقل انتقائيته إزاء المعروض التأويلي للماركسية، هو كونه يرى أن صور الاستعمال الخاطئ لبعض أشكال الماركسية، لا يؤدي المطلوب؛ أي الإجابة على سؤال التقدم. و هو السؤال الذي لا يمكن الاجابة عليه، إلا بالفكر التاريخي. و هو ما يعزز قيمة الاختيار للوجه التاريخاني للماركسية. فأولئك حقيقة لا يفعلون سوى أن يغرقوا "الماركسية في الاتجاهات غير المقيدة بالتاريخ، فينسلخ فعلا عن السياسة و يتركها مرتعا خالصا للفكر التقليدي".[18]
هذا الموقف الذرائعي يترجمه السؤال : "ماذا نكتسب من الماركسية، كمدرسة للتاريخانية ؟ و كيف نختار طريقنا بين ماركسيات اليوم".[19]
هذا السؤال الذي يطرحه العروي، يحمل في طياته الإقرار بوجود تعدد في أوجه الماركسية. و هو تعدد رافق تعريب الماركسية، بل ورافق انتقالها لدول عديدة مثل بعض دول أوربا الشرقية و روسيا. و هذا الواقع المتعدد للماركسية لا يرفضه العروي، بل يقره ويقر ببقائه طالما أقررنا و اعترفنا بوجود حركة دائمة من الماركسية الايديولوجية إلى الماركسية العلمية.[20] فلا مجال إذن، لتجاهل تعدد المراكز الماركسية في العالم.[21] لكن المشكلة هاهنا، بأن لا نختار ولا نتقمص منها ما هو خارج عن اهتمامنا.
يدرك العروي بأن الماركسية التاريخانية التي هي مختاره ضمن هذا المعروض المتعدد، ليست هي لب الماركسية. غير أن الدافع إلى تبني هذا الوجه منها، هو حاجة للعرب و مراعاة لظرفيتهم الاستثنائية. إنها إذن، مسألة واقع عربي و ليست مسألة الماركسية نفسها. الماركسية في هذا الضوء، و بالنسبة للعرب تحديدا، هي مدرسة للفكر التاريخي. و بما أن مقياس الحداثة و المعاصرة هو هذا الفكر التاريخي، فتصبح إذن الماركسية التاريخانية ضرورة. و يعبر العروي عن اختياره هذا قائلا: "إن السلاح الوحيد ضد اللاتأثر، هو كسب الفكر التاريخي الذي لا يتعلم من دراسة التاريخ، كما يتبادر إلى الذهن، بل يتطلب الإقتناع بنظرية في التاريخ. و هذه لا توجد اليوم بكيفية شاملة و مقنعة إلا في الماركسية".[22]
إن مسألة التاريخانية، هي مسألة متصلة بواقع التأخر في العالم العربي. و هذا التأخر الذي يستدعي صورة الآخر المتقدم، هي مسألة مدركة على نحو مباشر و من خلال المعانات اليومية. و هي لا تحتاج إلى تحليل بقدر ما تتوقف على إرادة المثقف في الحياة. هذه الرؤية المستخلصة بالمعايشة تتحدد وفق المعطيات التالية:
- وجود مرحلة متقدمة في تطور التاريخ، بالنسبة لظروف مجتمعه الأصلي.
- وجود وحدة سياق، وحدة مسيرة في التاريخ.
- سطحية التاريخ (أي تقدم التاريخ على سطح واحد أو في بعد واحد).
- إمكانية الطفرة في التاريخ.[23]
و على هذا الأساس قد تظهر اتجاهات أخرى في العالم الثالث. و هي في الحقيقة محاولة لتقويض المعطيات السابقة؛ تلك التي رأى فيها العروي معطيات أولية لا تحتاج إلى تحليل. و هذه الاتجاهات سوف تقوض مفهوم وحدة المسار التاريخي بطرحها مفهوم تعدد الاتجاهات التاريخية. كما تقوض أهمية التاريخ بالتخفيف من قيمته كبعد في الاجتماع الإنساني. و كل هذا ممكن أن يوجد، كمقوض للفكر التاريخي. إلا أن العروي يؤكد على أن المعطيات الأولى المذكورة، و المدركة بالبديهة، هي ما يشكل قناعة المثقف في العالم الثالث. و أن الاتجاهات الأخيرة، ما هي إلا نظريات قد تبهر هذا المثقف لاحقا؛ أي بعد اليأس و الفشل في حل معضلة التأخر. و لذا "يجوز لنا بكل تأكيد أن نقول بأن النزعة التاريخية (أو التاريخانية بتعبير أدق) أي فرضية التاريخ كاتجاه واحد و كمعنى، هي التجربة الأولية في ذهن مثقف العالم الثالث رغم كل ما يدعيه هو و رغم كل ما يقال عنه. لا يظهر وعي و نشاط و حيوية في مجتمع مغلوب على أمره أو مسيطر عليه أو على أقل تقدير محتقر و مهمل، إلا و ظهرت النزعة التاريخانية، بدونها يعم الخضوع و يبرر الاستسلام. هذه نقطة أساسية، عليها تدور علاقة العالم الثالث و الماركسية"..[24]
وإذن، ماهي ملامح و مقومات هذا المنظور التاريخاني، الذي تقدمه المدرسة المذكورة؟ إن العروي يقرر هنا بأن مشكلة الفكر العربي تتقاسمها نزعتان: سلفية و انتقائية. و هما موقفان ساريان في الثقافة العربية بشكل يتكرر على امتداد تاريخنا. و عليه، فلا حل أمام استفحال النزعتين المذكورتين، إلا بإخضاع الفكر العربي إلى الفكر التاريخي، بمقوماته الأربعة التالية:
- صيرورة الحقيقة.
- إيجابية الحدث التاريخي.
- تسلسل الأحداث.
- مسؤولية الأفراد (بمعنى أن الإنسان هو صانع التاريخ).
و إذا كانت هذه الأخيرة بمثابة المحدد للفكر التاريخي، فإن ما يحدد معنى التاريخانية، هو:
- ثبوت قوانين التطور التاريخي ( حتمية المراحل ).
- وحدة الاتجاه ( الماضي و المستقبل).
- إمكانية اقتباس الثقافة ( وحدة الجنس ).
- إيجابية دور المثقف و السياسي ( الطفرة و اقتصاد الزمان ) .[25]
بهذا الفكر التاريخي، حسب العروي دائما، نستطيع أن نمنح للعمل منطقا و مفعولا، و تحرير الذهن من الأوهام ووضعه في واقعه. و هذا لا يعني، أن فكرة كهذه هي بريئة من التبعية. بل يعترف العروي لها بذلك، لكنه يميزها عن أشكال التبعية الأخرى كما عند السلفي أو الانتقائي، بوصفها تبعية قابلة للدراسة و الفهم. فهي مقبولة و مفهومة، بخلاف السلفي و الانتقائي، الذين لا يعيان تبعيتهما، حيث يقعان فيها و يؤسسان لها.[26]
في التبعية والاستلاب
لا يقر العروي لدعاة الأصالة و أصحاب الموقف الانتقائي ولا حتى الماركسيين الفوضويين اللاتاريخانيين، بدعوى الخصوصية، و نبذ التبعية و الاستلاب. إنه كما يتضح من المقاربة العروية، موقف مغشوش يخفي أخطر أشكال الاستلاب و التبعية، بل ويؤسس لهما من حيث يشاء أو يأبى. فالتبعية حينما تكون قابلة للفهم و مقبولة، يصبح لها معنى؛ بخلاف التبعية التي سقط فيها داعية الأصالة و الانتقاء. و عليه، فإن العروي يستشكل على خطر ما يسمى بالاغتراب. لكنه يلفت الإنتباه إلى ما هو أخطر من الاغتراب، ألا و هو " الإعتراب ". فهذا الأخير هو استلاب أكبر. و ما تركيزنا على استلاب " الاغتراب " إلا حيلة منا لإخفاء واقع معين، محكوم باستلاب آخر؛ استلاب " الإعتراب " ! و بهذا يحدد العروي موقفه من النزعة القومانية. إذ هذا النوع من الاستلاب " الإعترابي " لو صح منا هذا الوصف، يأخذ مظهر تقديس اللغة و إحياء التراث، تمييزا للقومية العربية.ويبقى أن الاستلاب الحقيقي، هو هذا الإغراق في مطلقات اللغة و التراث و التاريخ القديم. حيث يعتقد المثقف العربي بأنه يفعل ذلك بكل طواعية و اعتزاز. و أن إغراقه هذا، نابع من موقف اختياري، و تعبير عن هويته. و عليه، فتلك في نظر العروي، هي الأوزار التي لا مجال للتحرر منها إلا عبر وعي تاريخي. .[27] الوعي الذي، حسب العروي، "سيفتح أعيننا على الواقع لأول مرة، و يمكننا من أن نرى أن اللغة و التراث و تاريخنا الخاص مواد منفصلة عنا، لا نستطيع أن نتصل بها إلا عن طريق التحليل و التركيب العقليين، لا عن طريق الحدس و المعرفة المباشرة. و سنكتشف حالا، أو سنعي لأول مرة ذواتنا الحقيقية، المطابقة لمركزها في الوقت الراهن، في الآن و المكان".[28]
لا جدوى إذن، من رفع شعار مقاومة الاستلاب، لأن مضاعفات ذلك أكبر. و نتائجه عكسية تماما، حيث تنتهي إلى أخطر أشكال الاستلاب. و ما علينا إلا الاعتراف بأن الاعتراض هو الأسوأ و الأحط من كل أشكال الاستلاب الأخرى و بأن "الحملة ضد الاعتراض، القائمة على التعميم غير المنطقي و الجهل بحقائق الخصم و التي لم تنبن على أي قاعدة قارة، ما هي إلا محاولة للتغطية على تأخرنا الثقافي المتزايد. لقد حان الوقت أن نقول إن ثمن هذه الحملة مرتفع جدا : زمان ضائع، تخلف مركب، هزائم متوالية كبيرة و صغيرة، مكشوفة و مستورة، و أخيرا انغماس في اللاتاريخ".[29]
نخلص من ذلك، إلى القول، بأن غاية المقترب العروي، هو إعلان القطيعة الكبرى مع التراث، و حسن الإنصات إلى الحداثة التي تكشف لنا عن صورة التقدم الحتمي. الحداثة التي تقوم اليوم في أرض ما و في زمان ما. و أن لا علاقة لهذا بالتبعية و الاستلاب، لأن لا خيار بعد ذلك إلا الوقوع في استلاب أفظع و تبعية مضاعفة. إن لهذا الرهان علاقة بالفكر التاريخي، الذي هو الآلية الوحيدة لتحقيق القطيعة مع الماضي. و ليس غريبا أن ينتهي الأمر إلى اقتراح المدرسة الماركسية على الفكر العربي، كي يتعلم منها الوعي التاريخي. ذلك لأن هذه المدرسة في نظر الباحث، هي مدرسة تاريخية. فالغرب يكشف عن مستقبلنا، ونحن نكشف له عن ماضيه. إن التاريخ واحد. إن لم نندمج في منطقه و سنته، حتما سيجرفنا تيار التأخر. على أن هذا المستقبل، هو واحد حتما كالماضي. و من هنا وحدة التاريخ، ووحدة وجهته من الماضي إلى المستقبل. فلا مجال للاعوجاج. فالمسؤولية الكبرى عند العروي، تكمن في غياب هذا الوعي التاريخي عن الفكر العربي. و ربما كان علينا أن نسائل الباحث، لماذا العرب وحدهم من يدفعهم العجز عن تحدي مشكلات العصر إلى إعلان الموقف اللاتاريخي، مع أن وضعنا هو وضع غيرنا من بلاد العالم الثالث، التي هي مثلنا أو أسوأ منا على صعيد النهضة و التقدم؟ ما هي العوامل التي تضغط على المثقف العربي، لكي يتلكأ أمام هذا النوع من الفكر التاريخي. فهل هو قدر العقل العربي إذن، أم أن هناك عوامل ساهمت في غلبة إحياء التراث، و فعل الانتقاء. فالوعي التاريخي موجود، و موجود ببداهة، حسب العروي، لأن معطياته كما سبق ذكره، تلفحنا للوهلة الأولى، حيث الانطباع الأولي جراء واقع متخلف، و معاش يومي مأزوم. لكن ما هي مشكلة الفكر العربي إذن، طالما أن كل ما حوله يدور مدار الحتمية؟ ! فهل، المسألة يا ترى، مسألة اختيار؟ هل العروي ينظر إلى تبني الفكر التاريخي على أساس أنه اختيار للمثقف العربي؟ هذه النقطة تحديدا ملتبسة في المقترب العروي؛ أي تارة يراها حتمية المثقف العربي نظرا لسريان الفكر التقليدي في الثقافة بوصفها تمثل البعد التاريخي، و تارة يراها اختيارا في متناول المثقف العربي. تارة، يرى المثقف العربي واقعا في حتمية الصراع الاجتماعي الذي يؤدي إلى تركيز هذا الفكر التقليدي، و تارة يتوسل إلى هذا المثقف كي يقول الحقيقة، و يكون أمينا و منصفا، و غيرها من التوسلات الأخلاقية، التي عمل العروي على تقويضها تحت طائلة النقد الأيديولوجي. بهذا المعنى، تتجاذب الحرية والحتمية في المقاربة العروية، إلى الحد الذي يجعل المثقف العربي في حيرة من أمره. فهو يدعوه إلى التزام الواقعية عبر الوعي التاريخي بمرحلته و عدم انتقاء الصور الفوضوية و الرومانسية و المثالية للماركسية، وفي الوقت نفسه يدعوه إلى الثورة و القطيعة مع التراث. تارة يعلن أن علاقتنا بالتراث منقطعة نهائيا و على كل المستويات، و تارة أخرى يرى، أن التراث يحضر في وعينا. بل إننا لم نعش الوعي التاريخي إلا في المجال التقني و المادي. بهذا المعنى ماذا نفهم من سريان الفكر التراثي في وعينا المعاصر؟ أليس هذا نفسه واقعا يتعين العمل على تغييره؟ ! إنه يدعونا إلى الثورة الجذرية و الشاملة؛ ثورة لا تراعي الواقع و لا تهادنه و لا تبرره و لا تلفق الحلول حوله. فتصبح الواقعية هنا لا تتحقق إلا بمطلب مثالي. و هذا المطلب الذي لم تقف المقاربة العروية عنده مليا، يستدعي السؤال التالي : هل عبد الله العروي، و بعد عقود مرت على كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة"، و بعد كل هذه السنين من الدعوة إلى الفكر التاريخي، هل لمسنا في كل هذه المرحلة تطورا في رؤيته للأشياء؟ بمعنى آخر، هل العروي، و هو ينشد الفكر التاريخي، أليس هو نفسه يناقضه، لما لم يغير في مطلبه التاريخي هذا، بعد أن تضاعفت الإكراهات الدولية، و بعد أن تغير مفهوم الليبرالية نفسها، التي يدعو إلى استيعابها، في لحظاتها التاريخية التي انتهت بالمركب الكوني إلى نتائج لم يعد ينفع معها اختيارات ذات طبيعة "كليشهية" للبدائل والمشاريع. فهو إذ نعى على رواد النهضة، أنهم لم يستوعبوا الليبرالية في لحظتها التاريخية، و تبنوها كمنظومة متكاملة، ها هو اليوم لا يزال يدعونا إلى تبني ليبرالية تقليدية في وقت لم يعد لهذه الليبرالية أي معنى في ظل هذا الاجتياح العولمي، الذي فرض على العرب و على عموم العالم الثالث، إكراهات اندماج غير متكافئ في النسق التبادلي الكوني. إن نقطة الضعف الكبرى، كما يبدو من مقاربة العروي، هي في تقليله من عامل الاستعمار، و الاستعمار الجديد. إنه بهذا المعنى، و خلافا للنقد الأيديولوجي الذي يدعو إليه، يمارس حجبا لواقع، لعله هو الأوضح و الأظهر اليوم.حيث أن التقدم و التأخر، أصبحا يخضعان لمنطق الرقابة الدولية. و أن التقدم، أصبح يعني أكثر من مجرد تبني الفكر التاريخي، بل يقتضي مناورة كبرى ضد الهيمنة الدولية أيضا. أو ربما اقتضى شرطا آخر ما عدا الفكر التاريخي، أعني بعضا من التنازلات. إن ذرائعية العروي ، تضعنا بلا شك أمام فهم دقيق للحداثة ، فهما لا يرقى إليه عتاة الحداثة في عالمنا العربي. إنه يعاقرها بوعي عميق ولغة السهل الممتنع. لكنه يضعنا أمام واقع مغشوش ودعوى طوباوية غير آبهة بشروط المصائر المتجددة ، والتي هي تاريخانية في الصميم. إنه بالأحرى لا يقول شيئا لم يقله الغرب عن نفسه أو لم يقله عنا. والعروي نفسه لا يرى نفسه يقول سوى ما يجود به فهمه واستيعابه للحداثة كما هي متجلية في واقعها الغربي . وكتاريخاني عتيد ، لا يرى لتقدمنا طريقا غير هذا الطريق المشرعة أبوابه أمام كل من أراد القفز وراء الماضي للانخراط بكيفية معينة مع الكون الحديث. هذه الواقعية المغرية تنطوي على نزعة أرثودكسية تاريخانية ، تخفي أكثر ما تظهر. إنها تتنكر لخصوصية اللحظة التاريخية نفسها ، حتى لا نقول الخصوصية المحلية ، تلك التي لا مكان لها ولا اعتبار في العقل التاريخاني العروي. خصوصية اللحظة التاريخية التي تميز رهاناتنا الحضارية ، عن النمط التحديثي الذي حكم انتقال الغرب نفسه إلى دورته الحضارية الحديثة . إنها تاريخانية عمياء ، تستبعد إرادة الاحتكار والسيطرة والنسق الهيمني القاضي بتأبيد الفجوة وتأمين حال التبعية ومظاهر التخلف الممنهج كما لا يخفى. بهذا المعنى فقط ، ندرك مغالطة النزعة التاريخانية التي تبسط عملية الانتقال إلى الحداثة بمجرد التبني الأرثودوكسي للعقلانية الحديثة. فهل الحداثة اليوم والتقدم معطى يتوقف على مجرد التبني والاستحضار الأيديولوجي للحداثة ، أم أن النسق الحداثي الكوسموبوليتيكي يرفض الحداثة للأطراف ويقايضهم لحداثة مغشوشة ومنزوعة الفعالية يرفض أن يسلم للمتلقي قوة التحكم بها فيحتفظ بالريموت كونترل. إن النسق الحديث يفرض على العالم الثالث قدرا من المناورة ؛ أحيانا تتم خارج النسق الحديث ، لأجل ضمان الحق في التحديث. بهذا المعنى لا تخرج التاريخانية العروية من مأزق الرؤية المثالية مستحيلة التحقق ، النزعة التي طبعت أكثر المشاريع الأيديولوجية العربية.
[email protected]
---------------------
[1] د.عبد الله العروي : العرب و الفكر التاريخي، ص 223، ط2 – المركز الثقافي العربي – بيروت (بلا تاريخ).
[2] المصدر نفسه، ص 22
[3] المصدر نفسه، ص 42
[4] المصدر نفسه، ص 22
[5] المصدر نفسه، ص 22
[6] المصدر نفسه، ص 25
[7] المصدر نفسه، ص 47-48
[8] المصدر نفسه، ص 43
[9] المصدر نفسه، ص 59
[10] المصدر نفسه، ص 59
[11] المصدر نفسه، ص 59
[12] المصدر نفسه، ص 61
[13] المصدر نفسه، ص 62
[14] المصدر نفسه، ص 61
[15] المصدر نفسه، ص 68
[16] المصدر نفسه، ص 206
[17] المصدر نفسه، ص 53
[18] المصدر نفسه، ص 53
[19] المصدر نفسه، ص 70
[20] المصدر نفسه، ص 203
[21] المصدر نفسه، ص 203
[22] المصدر نفسه، ص 68
[23] المصدر نفسه، ص 173
[24] المصدر نفسه، ص 174
[25] المصدر نفسه، ص 206
[26] المصدر نفسه، ص 207
[27] المصدر نفسه، ص 208
[28] المصدر نفسه، ص 208
[29] المصدر نفسه، ص 211


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.