دلالات حضارية للهجرة : من مقاصد الهجرة النبوية الحرية و العدالة و الكرامة الإنسانية، أمام واقع مسيحي و وثني تمثله إمبراطوريتا فارس و الروم، و بينهما الحبشة كسياق خاص و متنفس للعقيدة، فهي أرض لا يظلم فيها الناس، تأتي الهجرة تحقيقا لموازين القوى الدولية، أفقدت قريش قوتها و هيبتها و أزالت خوف المستضعفين و ضعف الخائفين. إن فلسفة الهجرة وراء كل ثمرة حضارية أتت من بعد، إنها البذور الأولى لأي بناء حضاري، إنها مرحلة التأسيس بتجلياتها الاجتماعية والمعرفية والتشريعية والحضارية، تأسيس منهجي يجعل "النصوص متناهية والوقائع غير متناهية"، اكتمال للرؤية و وضوحها و القدرة على مواجهة الواقع و تحدياته، تجربة تعامل فيها العقل مع النص لفهمه وتنزيله على الواقع. إن الهجرة تغيير فكري و منهجي، تحمله صفوة آمنت بالتغيير و ترسخت لديها معالم العقيدة، صفوة تفكر و تبني و تصقل الأفكار و السلوك و لا تنتظر المغانم و المكاسب، إنها النواة التي ستدور حولها الالكترونات الحركية، و لا تتوقف بقانون الدوران الكوني، فالذي لا يدور و لا يهاجر هو خارج المشروع و خارج التغطية الحضارية. الهجرة هي معرفة الحق و البحث المستمر و المتجدد نحوه والالتزام به و الثبات عليه، هي تصحيح لمسار العقول و مسار الحياة البشرية و وضع لموازين القسط الدنيوية، هي بناء لمعالم الدولة المدنية و معرفة لسنن الله البشرية و الكونية. الهجرة قانون للنصرة : ﴿إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾(التوبة:40). "إلا تنصروه فقد نصره الله"، اختيار و دعوة ل" شرف النصرة"، و إلا فالله قادر على نصرة عباده المؤمنين، فلكي يصبح للحركة معنى لابد من "قانون النصرة " ليس في الهجرة فقط بل في مشروعها و نسقيتها، ( إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم ) بهذا تصبح الهجرة قانونا للنصرة ، نصرة الحق و أهله أين ما كانوا، فالله في غنى عن النصرة، لكنه "قانون الهجرة"، فحين تنصر الله تهاجر إليه بل تفر إليه و " الفرار إلى الله "مستوى من الهجرة، و الفار غالبا خائف من شيء، فمما تخاف و أنت فار إليه تعالى ؟ فالخوف هنا هو "الإخراج" ( إذ أخرجه اللذين كفروا )، و يأخذ دلالات "الفقدانات " ستفقد مالك، تجارتك، أهلك، حريتك، فماذا تساوي هذه الفقدانات لمن هاجر إلى الله ؟ سئل المغني الانجليزي " يوسف إسلام" : كيف تضيع ثروتك الغنائية و آلاتك الموسيقية ؟ فأجاب : من وجد الله لم يخسر شيئا. إنه نموذج "للمهاجرين الحضاريين ". إن "المهاجر الحضاري" يجب أن لا يخاف و "لا يحزن" لأن الله معه ، و من كان الله معه هل سيحتاج إلى آخر حتى و لو كان جبريل عليه السلام، فقد استغنى عنه نبي الله إبراهيم في لحظة الخوف و الحزن الحقيقي، حين طلب منه احتياجه: هل لك من حاجة ؟ فكان جواب حال المهاجرين إلى الله بيقين : "علمه بحالي يغنيني عن السؤال "، فالله لا ينسى المهاجرين دون أن يسألوه فما بالك إذا سألوه ؟ أيها المهاجرون الحضاريون لا تحزنوا، و إن تخلت عنكم كل قوى الأرض فالله معكم، و سيثبت أقدامكم و ينزل السكينة عليكم و يجعل كلمتكم هي العليا، و يؤيدكم بجنود لا تروها، و ما يعلم جنود ربك إلا هو، فلا تستهينوا بحركة الله، فقد كانت تعمية أبصار قريش من عنايته تعالى بالمهاجرين الصاحبين في السر و العلن. الهجرة آفاق تأسيسية : كانت الهجرة حركة استئناف لا بداية صفرية؛ خطوة غير منقطعة عما سبقها، وإن أحدثت تغييرًا عميقًا في مسيرة التاريخ الإسلامي، فحري بمن يسعى لإعادة الأمة أن لا يفكر في البدايات الصفرية، وإنما عليه أن ينطلق من مفهوم "الاستئناف الحضاري ". صورة تشخيصية للمسجد النبوي في شكله التأسيسي بمعرض بالمدينةالمنورة إن الهجرة تمنحنا خصائص التأسيس، تخلق القطائع المعرفية و المنهجية ، فالتاريخ لم يعد كما كان، أصبح انتقالا في المكان و الزمان، و أصبحت تجربة ما قبل الهجرة و ما بعدها، انتقال له ما بعده من أثر على التشريع حيث أصبح التفاعل لبناء المجتمع و الأمة والحضارة، فكانت الهجرة تأسيسا للتشريع المدني و تقنينا لشؤون المجتمع، فالتأسيس الزمني يرتبط بالتأسيس المكاني، فبنية مكة ليست هي بنية المدينة، و الاختيار الزمني والمكاني قدر إلهي، فنحن نختار و في قدر الله اختيارات، كان اختيار الرسول عليه السلام للطائف و كان اختيار الله تعالى للمدينة تأسيسا للدولة و بناء للمجتمع. الهجرة انتقال من تأسيس إيماني إلى تأسيس أخوي تضامني، و تجديد لتأسيس الوفاء بالعهد لبيعة العقبة. الهجرة نقطة انطلاق نحو الآفاق التأسيسية، مرحلة انتقالية للإثبات العقائدي و للتأسيس السياسي، تأسيس للدولة و ما له من تغيير في السلوك العربي، تجربة نقلت العرب من طور القبيلة إلى طور المجتمع والأمة، ومن أفق البداوة إلى أفق الحضارة، فقد أصبح للدولة شكل حضاري وليس شكلا باهتا يرتبط بالقوى الخارجية بالغساسنة والمناذرة. و تأسيس الأمة هو نقلة حضارية في التاريخ العربي، لم تعد القبيلة هي صاحبة السيادة، و لا القيم الجاهلية التي تشكل الإحساس العربي ، بل أصبح للعربي المسلم أفكارا وتصورات و أحاسيس حضارية، وكان شعار "الدولة المدنية " ثلاثة مبادئ : "العبادة" برمزية المسجد، و"الأخوة" بين الأنصار و المهاجرين، و" المدنية" من خلال الوثيقة الدستورية، فهو شعار يحدد صلة الأمة بالله ، و صلتها ببعضها البعض، ثم صلتها بالآخرين. من أجل هجرة حضارية : إن الواقع المعاصر هو امتداد لمرحلة تاريخية مستمرة منذ العصر الأموي، حيث صودر المشروع الحضاري و غيبت قيمه و فصل عن غاياته و تم تجزيئه لينهار كليا في عصر الانحطاط و يغيب التمثل الفردي و المجتمعي لهذا المشروع. و بسبب الهجمة الصليبية و الامبريالية الاستعمارية حصل انقطاع تاريخي و سياسي بين الأمة و مصادرها الحضارية، انقطاع عنيف تعمقت فيه مفارقة السلطة و الأمة، فبعد التقسيمات الاستعمارية للمنطقة العربية و الإسلامية و الترسيمات الحدودية، تشكلت معالم الحياة السياسية للأمة العربية و أصبحت التبعية هي الحبل السري بالمستعمر و الحاجز الذي يفصل الأمة عن عقيدتها و ثقافتها. إن ضغوط الواقع و اختلاط أوراقه يطرح السؤال عن "الإمكانات " لتحقيق هذه الهجرة الحضارية التي تتحقق أولا على مستوى التفكير في التحرر من هذه الضغوط، لاكتساب قناعة عقيدية مبدئية في حتمية الإنجاز ضمن المشروع الحضاري، و إلا سيصبح الواقع محددا للقناعات و يصبح التبرير و المنطق الذرائعي. إن مبدأ التوحيد، و ما يختزنه من طاقة و دينامية حركية و دافعية روحية لامتناهية، كفيل بإنجاز هذه المهمة الهيكلية للأمة التي تتدبر شؤونها بالإحساس العميق بالمسؤولية التاريخية، فهي توفق بين "النص الإخباري" و "النص التكليفي"، فالأول قوة دافعة و يقين مبدئي بالوعد الإلاهي، و الثاني تحديد للمهمات و المسؤوليات الفردية و الجماعية لمشروع الهجرة التاريخي الحضاري. إن النص الإخباري شهادة على الواقع، و النص التكليفي طاقة لتغييره، هكذا تصبح الهجرة محطات لتغيير التاريخ، ولهذا ظلت مستمرة كمعرفة للنص و منهجية في التنزيل. إن الدلالات الحضارية للهجرة تمنحنا فلسفة للتاريخ وفهما حركيا للدين، ليس كعبادات فقط بل كمنهج حياة و كحلول للإشكالات الفكرية و الواقعية. و تساؤلنا عن الإمكانات الواقعية هو تساؤل عن هذه الدلالات الحضارية الخالدة للهجرة النبوية، بين الهجرة المادية و الهجرة المعنوية و الهجرة الرمزية القابلة للتعميم على كل مجتمع، فما هي الدروس العملية التي يستخلصها المسلمون للخروج من هذا الواقع الذي اختلطت فيه الأوراق و النوايا و الأهداف ؟ و هل الدراسات و الجهود التي بذلت في دراسة السيرة النبوية، قد أحاطت بكل دلالاتها خاصة الحضارية ؟ وكيف نميز في دراستنا للسيرة النبوية بين المشروع الإسلامي و" الإسلام الأمريكي" ؟ كيف نجعل من الهجرة رفقا و حرية للإنسانية لا هجرانا للواقع و تكفيرا للمسلمين ؟ كيف نجعل من الهجرة " أخوة في الدين " و " أخوة في الوطن" و" أخوة في السياسة " و " أخوة في القضايا العادلة " ؟ و كل سنة هجرية و أنتم مهاجرون حضاريون .