الفيضانات أفغانستان تودي بأكثر من 200 شخص    المغرب يُؤيد منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة    القنصل العام للسنغال بالداخلة ينفي وجود مهاجرين سنغاليين عالقين بالصحراء المغربية    الخطايا العشر لحكومة أخنوش!    الصحراء.. مخطط الحكم الذاتي المغربي هو "الخيار الأفضل" لمستقبل المنطقة    المغرب يشيد بطلب حصول فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة غزة    حماس تقول إن هجوم رفح "لن يكون نزهة"، ونتنياهو يتعهد ب"الصمود" إذا أوقفت واشنطن إرسال الأسلحة    مدرب عالمي يهاجم بقوة المغربي حكيمي    طقس حار وضباب اليوم السبت بهذه المناطق    مكافحة الاتجار بالبشر.. الولايات المتحدة تمنح 2.5 مليون دولار للوكالات الأممية بالمغرب    فيديو لمعلمة تصفع طفلاً من ذوي الإعاقة يثير موجة استياء في الأردن    اسبانيا تدرس طلبا تقدمت به المغرب لتسليمه مجرم خطير    تزايد أعطاب أسطول النقل الحضري يسائل البكوري    معلومات استخباراتية مغربية تطيح بمهرب مخدرات مشهور بإسبانيا    الصين: 39,2 مليار دولار فائض الحساب الجاري في الربع الأول    هل تدق بريطانيا اخر المسامير في نعش "البوليساريو"؟    سحب 317 "رخصة ثقة" من "سيارات الأجرة في مدينة واحدة بسبب ممارسات مخالفة للقوانين    طقس السبت.. أجواء حارة ونزول قطرات مطرية بهذه المناطق    أطروحة نورالدين أحميان تكشف كيف استخدم فرانكو رحلات الحج لاستقطاب سكان الريف    بأگادير : وبحضور الاستاذ عزيز الرباح انتخاب السيدة سميرة وكريم رئيسة فرع جهة سوس ماسة لجمعية المبادرة "الوطن أولا ودائما"    اضطرابات في حركة سير القطارات ما بين 12 و26 ماي نتيجة أشغال تأهيل منشآت التشوير    منتخب "لبؤات الأطلس" يكتسح الجزائريات    هكذا ساهمت دبلوماسية روسيا والصين في مقاومة "طالبان" للضغوط الغربية    143 دولة تدعم عضوية فلسطين بالأمم    حماس: إسرائيل تعيد الأمور للمربّع الأول    القطاع السياحي يسجل رقما قياسيا بالمغرب    مزور تستقطب شركة عالمية رائدة للمغرب    تصفيات كأس العالم لكرة القدم النسوية لأقل من 17 سنة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الجزائري    خبراء يناقشون حكامة منظومات التربية    "الطاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    اللعبي: القضية الفلسطينية وراء تشكل وعيي الإنساني.. ولم أكن يوما ضحية    لحجمري ينصب 3 أعضاء جدد في الأكاديمية    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    مدرب الجيش مطلوب في جنوب إفريقيا    صدمة جمهور الرجاء قبل مواجهة حسنية أكادير    الشركات الفرنسية تضع يدها على كهرباء المغرب    جديد موسم الحج.. تاكسيات طائرة لنقل الحجاج من المطارات إلى الفنادق    تفاصيل قاعدة عسكرية مغربية جديدة لإيواء الدرونات والصواريخ    الشبيبة التجمعية بطنجة تلامس منجزات وتحديات الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    "طاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    شفشاون على موعد مع النسخة الثانية من المهرجان الدولي لفن الطبخ المتوسطي    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    غوتيريش يحذر من أن هجوما بريا إسرائيليا على رفح سيؤدي إلى "كارثة إنسانية"        بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    أخصائية التغذية ل"رسالة24″… أسباب عديدة يمكن أن تؤدي لتسمم الغذائي    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    خبير في النظم الصحية يحسم الجدل حول لقاح أسترازينيكا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الدمليج يقدم "بوريوس" في المهرجان الوطني الرابع لهواة المسرح بمراكش    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    النادي الثقافي ينظم ورشة في الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية/ عرباوة    ندوة دولية حول السيرة النبوية برحاب كلية الآداب ببنمسيك    أصالة نصري تنفي الشائعات    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفلسفة بين الضرر والضرورة
نشر في هسبريس يوم 18 - 06 - 2016

التباكي عن محنة الفلسفة، ومُعاناتها بدءا من هولوكست محاكمة سقراط، ورحلة طويلة من المحاكمات والمضايقات والاعتقالات والإعدامات تصور تاريخ مظلومية الفلسفة، ومظاهر اضطهاد الفلاسفة، لكن وراء هذا الخطاب التراجيدي هناك مضمرات يجب كشفها، بموضوعية دون تحامل أو تساهل يمس بنزاهة البحث عن حقيقة علاقة الفلسفة بالحقيقة وبالقيم وبالتحديد التربية على قيم الاحترام، مسايرة لمسلمات الفلسفة نفسها التي تروم بلوغ الحقيقة وتفجير المسكوت عنه، والاستماع إلى كل "المتهمين" في محكمتها، تجسيدا لقيمة "الاحترام المتبادل" لآراء ووجهات نظر كل أطراف الادعاء.
بداية ألا يعتقد الفيلسوف أنه متميز ومتفرد عن باقي البشر، وأنه من فصيلة محبي الحكمة، المختصين والمخصوصين بالتفكير، وخاصة الخاصة، مقابل سجناء الكهف، العامة الذين لا يعرفون من الحقيقة إلا "ظلالها فقط" (1) وأن الدولة لا تكون فاضلة إلا إذا حكمها فيلسوف، "إن الفلاسفة ملوك"(2)، لا عقل يعلو على عقلهم ولا صوت فوق صوتهم، فيسقطون في ممارسة "لعبة الإخصاء" (La castration en jeu)، في "محاورة الدفاع" لأفلاطون، يعبِرُ سقراط عن دهشته من ضآلة عدد الأصوات ضده فيقول: لم أكن أتوقع هذه الأغلبية الضئيلة ضدي، بل أغلبية كبيرة، ويؤكد الأستاذ ستون (3) أن سقراط كان على حق في هذا التوقع، لأن تعاليمه كلها على مدى عمره المديد معادية لنظام دولة أثينا الديمقراطي، ولو كان عامة الأثينيين غارقين في الجهالة، والتحامل والانحياز، كما كان سقراط يظن بهم، لما صبروا عليه، حتى بلغ السبعين ليأتوا به إلى المحاكمة".
- هل يمكن أن نتحدث هنا عن الشخصية الاستفزازية للفيلسوف؟
- وبأي معنى يكون الاستفزاز/اللااحترام شرطا ضروريا للتفلسف أم أنه ضرر لا تقوم الفلسفة بدونه؟
ضرر الفلسفة.
لا بد من تدقيق القول في هذه الفكرة "لقد تشرب الأثينيون الديمقراطية، وترسخ مبدأ حرية التعبير في الحياة الفنية والسياسية على مدى قرنين من الزمان قبل سقراط، وكان
سببا في ازدهار المجتمع الأثيني وتفوقه في كل نواحي الحياة، كان الأثينيون يرون حق سقراط في الاختلاف معهم فيما يقول وما يعلم، وكانوا مهيئين للوقوف إلى جانب تبرئته، خصوصا أنه لم يَثبُت أنه قام بأي عمل علني ضد الدولة، ولو أذعن سقراط لنصائح أصدقائه وتلاميذه وهادن المحكمة لفاز بالبراءة، إلا أنه يريد أن يموت، وكان يرى في الموت اكتمال التحقق حيث تنطلق الروح من قيود الجسد، وتصبح قادرة على تأمل الأفكار الخالدة التي لا تتغير، ولكي يثبت في ذات الوقت احتقاره لعامة الأثينيين ونظامهم كله، كان الخلاف بين سقراط وعامة الأثينيين خلافا جذريا، لم يكن محصورا في نطاق الخلافات الفكرية المجردة، وكان أول هذه الخلافات وأشده يتعلق بطبيعة المجتمع الإنساني: هل هو مدينة حرة polis كما يعتقد الإغريق، أم انه مجرد قطيع من الأغنام كما يعتقد سقراط؟(4).
إن نظرة سقراط إلى المجتمع الأثيني كقطيع من الأغنام تسوسه حكومة من الغوغائيين، هو موقف فيه الكثير من الاستفزاز واللااحترام ، عدا كونه لا يحترم قواعد الحكم الديمقراطي ويُناصِرُ الملَكِية، وقد "كان الدفاع عن الحكم الملكي، يضع صاحبه في تناقض تام مع نظام المدنية الحرة، ففي أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد ، كان الدفاع عن الحكم الملكي يبدو خروجا عن المألوف، كما في أمريكا القرن العشرين-بل كان جنوحا كبيرا أو شذوذا ينذر بالخطر" (5)، إن الأمر أشبه بأن ينعت مفكر مغربي محترم المغاربة بالأغنام، لقد حوكم سقراط بتهمة "عدم الاحترام"، عدم احترام قوانين المدينة، عدم احترامه للدين والمعتقدات اليونانية، عدم احترامه للسلطة الحاكمة، عدم احترامه لقواعد التربية وإفساد عقول الشباب والتغرير بهم، عدم احترامه للعيش المشترك، عدم احترامه للواجبات الوطنية، والقضايا المصيرية، وهذه النقطة بالذات تحتاج إلى حفر فلسفي لاستخراج الحقيقة المطمورة التي تُبين عدم احترام سقراط لأهم وظيفة للفلسفة ألا وهي احترام الحقيقة، وكشفها والجهر بها دون مخاتلة وخداع أو خوف وجبن، إن جرأة الفيلسوف تقتضي احترامه للقيم التي يتغنى بها، وإخراج الحقيقة من الكهف لا تركها سجينة مكبلة في سراديب الصمت.
صمت سقراط تجاه "مذبحة ميلوس" الدولة/المدينة التي فضلت الحياد ورفضت التحالف مع أثينا في حربها ضد إسبرطة، "قام الأثينيون بمحاصرة المدينة، وبعد تجويعهم طول موسم الشتاء، استسلمت ميلوس، وألقت بنفسها تحت رحمة أثينا، وردت أثينا على ذلك بقتل كل الرجال والنساء والأطفال، وبعد ذلك سلموا المدينة إلى مستوطنين أثينيين، وهذه أشد الحوادث قسوة.. حدث ذلك في 412 ق.م، وكان سقراط في الثالثة والخمسين من عمره، شخصية قائدة من شخصيات المدينة، يلتف حوله جماعة من التلاميذ المعجبين به والذين جاؤوا من كل أنحاء اليونان؛ فهل ظن سقراط أن هذا كان عدلا؟ هل ظن سقراط أن
تدمير مدينة سبق لها الاستسلام عملا من أعمال الفضيلة، من المؤكد أن المدينة كان من حقها أن تسأل سقراط بمناسبة هذه الصدمة أن يشترك في الجدال.. لا يوجد ذكر لمذبحة ميلوس في زينوفون أو أفلاطون" (6).
- لماذا هذا الصمت الغريب؟
أليست المساءلة النقدية الساخرة من أبرز المهارات التي تفنن الفيلسوف سقراط في إبداعها؟ أليس الحوار التوليدي منهج سقراطي بامتياز؟ إن الموقف مؤلم وسقراط هنا لم يحترم قواعد التفكير الفلسفي التي سنها، والفضيلة التي كان يُبشرُ بها، فقط لأن مذبحة ميلوس وافقت أهواء الرافضين للديمقراطية وعلى رأسهم سقراط وتلامذته الذين كانوا يحتقرونها، وخصوصا تلميذ سقراط المحبوب ألكيباديس، الذي "كان أول محرك للقرار بعدم استخدام الرحمة مع أهل ميلوس.. كان يمكن ل "صوت" سقراط في المجلس أن ينقذ أهل ميلوس من المذبحة، ففي العشر السنوات السابقة على هذا -مذبحة ميلوس- حول ميتلين أمكن لأحد الأصوات أن يُحدث تغييرا في اتجاه المجلس، وأن يُحوِّل قرار المجلس من المذبحة(الرذيلة) إلى الرحمة(الفضيلة)، كانت ميتلين Mytilene أهم المدن في جزيرة ليسبوس Lesbos الغنية والمأهولة بالسكان، وهي مدينة مشهورة بالشعراء الغنائيين أمثال الشاعرة سافو Sappho وألكايوس Alcaeus، وقد قامت بانتفاضة ضد أثينا سنة 428 ق.م، اللحظة التي اختارت ميتلين أن تتخلى عن أثينا في حرب البلوبنيز، كانت لحظة سوداء بالنسبة لأثينا، إذ شاع الغزاة الدمار والهلاك خارج أسوار المدينة.. حين سقطت ميتلين في قبضة الجوع والصراعات الطبقية التي وقعت بسبب حصار القوات الأثينية" (7).
رغم أن ميلتين استسلمت لأثينا، إلا أن المتشددين في مجلس الحكم الأثيني وبناء على اقتراح الحاكم كليون الذي خلف بريكليس، قرروا "تدمير ميتلين، وقتل جميع سكانها من الذكور وبيع النساء والأطفال كعبيد" (8)، في هذا الموقف العصيب سيعارض رجل "يسمى ديودوتس Diodotus ولا يُعرف عنه شئ آخر في التاريخ، لقد حاول جاهدا في اليوم الأول للمناقشة أن يُحوٍّل المجلس في اتجاه الرأفة بالمدينة دون جدوى" (9)، غير أن ديودوتس Diodotus لم يستسلم، وشرع في زعزعة الأفكار الدامية لأعضاء المجلس، ودفعهم إلى احترام صوت الضمير ، بواسطة استراتيجية حِجاجية قوية وهادئة، جعلتهم يقبلون باحترام أطروحة الرأفة واللاعنف ودحض الأطروحة النقيض، أطروحة المذبحة التي نادى بها معظم أعضاء المجلس، "وقدم ديودوتس ثلاثة أسباب لتدعيم رأيه:
الحجة الأولى: "إن تدمير مدينة مستعدة للاستسلام يعد قرارا بعيدا عن الحكمة؛ فليس من السهل الاستيلاء على مدينة محصنة الجدران وعازمة على المقاومة وأن أسوارها لم تهدم بعد، إنه الجوع هو الذي جعل المدينة تركع على ركبتيها؛ فهي لم تكن قد سقطت بعد عندما قرر قادتها الاستسلام؛ فقد كانت قادرة على الاستمرار في الحرب، وانتظرت المعونة التي وعدت بها إسبرطة، أما تدمير المدينة فسوف يعلم المتمردين الآخرين ألا يتوقعوا أي رحمة من أثينا، وأنهم لن يجدوا السلامة حتى بالخضوع والاستسلام، وهذا الأمر سيجعل من الصعب علينا قمع أي تمرد في المستقبل.
أما الحجة الثانية فقد بناها على منطق الصراع الطبقي، لقد قامت استراتيجية أثينية على الانحياز إلى الديمقراطية ضد القوة الأوليجاركية الحاكمة في المدن الصديقة لأسبرطة، فإذا قامت أثينا بإخضاع ميتلين لمذبحة جزافية واستعباد، فإنه سوف تسوى في المعاملة بين الديمقراطيين والأولجاركيين، أغنياء كانوا أو فقراء بدون تمييز..
السبب الثالث الذي أوضحه ديودوتس هو أن الرحمة في هذا الصدد إنما هي إجراء عملي محايد؛ فلماذا ندمر مدينة، يمكن لأسطولها، وقوتها البشرية، ومواردها المالية أن تكون عونا لأثينا في بقائها وانتصارها؟ إن المعركة بدأت بين أثينا وميلتين عندما أرادت الأخيرة أن تترك التحالف؛ فلماذا ندمرها الآن وقد برهنت باستسلامها على استعدادها للانضمام بقوتها لأثينا؟ ثم يقول ديودوتس: إن من يُحسِن التشاور بالحكمة يكون هو الأقوى في المواجهة وأقدر كثيرا عمن يندفعون اندفاعا طائشا بقوة وحشية" (10).
لقد حصد المواطن الأثيني العادي ديودوتس نجاحا أخلاقيا، سياسيا وإنسانيا، باحترامه لمقتضيات العقل، واحترامه لحقه في التعبير، واحترامه لقيم الرحمة والتسامح والسلم، وأقنعت حججه المجلس الذي راجع قراره، وانحاز إلى أطروحة الرحمة، نظرا لقوة المرافعة التي حاجج بها ديودوتس أعضاء المجلس، داحضا المواقف التي تُحرِض على العنف كاشفا تهافتها لأن "المذبحة سوف تزيد من بذور الكراهية ضد أثينا.. أفلتت ملتين من الدمار، وأنقذت أثينا شرفها، وأثبتت الأيام أنه كان قرارا حكيما، وأصبحت ميلتين حليفا مخلصا لأثينا، ألم يكن هذا تطبيقا واقعيا للفضيلة؟ رغم أن الذين قاموا بذلك كانوا رجالا لا يستطيعون تحديد معنى الفضيلة التي يرضى عنها سقراط؟
في محاورة "الدفاع" لأفلاطون، يقدم سقراط عذرا لا يستحق الاهتمام بخصوص عدم مشاركته في الشؤون العامة للمدينة، فهو يسأل قضاته: هل تُصدقون انه كان يمكن لي
أن أعيش طيلة هذه السنين الكثيرة لو أنني انشغلت بالحياة العامة كرجل صالح، وقدمت معونتي لتأكيد كل ما هو عدل معتبرا ذلك شيئا بالغ الأهمية؟ " (11).
في مقابل هذا الانسحاب الأخلاقي السقراطي الجلي، توضح مرافعة ديودوتس، أن الأفكار السقراطية الجاهزة بأحكامها المسبقة تجاه شعب أثينا الذي كان سقراط يصفه بالأغنام، ولا يُكِنُّ له الاحترام، تؤكد المُرافعة أن هذا الشعب "لديه ضمير يمكن الاحتكام إليه، إن الذي تصرَّفَ تَصَرُفَ الرجل الصالح، كان مواطنا مجهولا واستطاع أن يُحوِّل المد الهادر نحو الرحمة، رغم المعارضة الشرسة من جانب أكبر زعماء الديمقراطية في المدينة، إن المثل الذي ضربه ديودوتس يجعل الإنسان يحمر خجلا من أجل سقراط" (12).
نعم يجب القيام بقراءة جديدة لتاريخ الفلسفة، فهناك خطأ لازم الفلسفة منذ نشأتها، ويعتمل بدواخلها، يجعل تدخلها التربوي وتدخُّلها العِلاجي محفوفا بالتعثرات، وهذا يستدعي ممارسة حرية التفكير في مستوياتها القصوى أي ممارسة الدرجة القُصوى للتأمل، واستحضارنا لهذا الموقف يرتبط بعلاقة الفلسفة بالتربية على قيم الاحترام واستلهام آليات وخصائص التفكير الفلسفي في ممارسة النقد على فكرة قيم الاحترام السقراطية وتقليبها من جميع الجوانب، وتعميق حفريات التساؤل بخصوصها، كون الحقيقة نسبية وتحتمل عدة وجوه وممكنات، إن التدخل التربوي الفلسفي حسب سقراط يتطلب "موهبة فطرية" والمدرسون سيكونون مخطئين "عندما يقولون بأنهم يستطيعون إدخال المعرفة إلى داخل النفس، والتي لم تكن موجودة من قبل، وذلك مثل دخول البصر إلى العيون العمياء" (13)، لأنها ليست عقولا فلسفية، في حين "أن العقول الفلسفية دائما تحب المعرفة، وفي أنواعها المختلفة، وخصوصا المعرفة التي تؤدي بهم إلى إظهار جوهر وطبيعة الأشياء" (14)، إن الفيسوف يولد فيلسوفا والغوغائي يولد غوغائيا، وقابلية تعلم الفلسفة تتطلب اختبارا انتقائيا لولوج المدرسة الأكاديمية "لا يدخلنها إلا من كان رياضيا"، وهو شرط احترام الاستحقاق(الميريتوقراطية) الذي يمس باحترام الحق في التعلم.
الأمثلة في تاريخ الفلسفة أكثر من أن تُعد لعدم احترام الفلاسفة للحس المشترك، الذي يصفونه بالعامة، العوام، الرعاع، الدهماء، السوقة، الجمهور، بادئ الرأي، الرأي العام، وهو ما سيعمق الهوة بين الفلسفة وجماهيرها الممكنة، فضلا عن هروبها من قضايا المعيش اليومي وإنتاج الإنسان الأفلاطوني الذي "ليس سوى الإنسان الفلسفي الثرثار" (15) الذي يتخفى مستعيرا اسم أستاذه سقراط "داخل مكان أجوف في المجتمع، مكان هادئ، حيث يمكن أن يكتب فيه الفلاسفة، إذا ما تبينت لهم الرغبة في ذلك، وقد يحدث أن يتسلوا وهم خائفون، عندما يتفلسفون بصدد كل ما يطرأ داخل الكوميديا الإنسانية؛ إلا أنهم اكتسبوا منذ الوهلة الأولى الحق المعنوي في ألا يهتموا سوى بالكوميديا الفلسفية" (16)، إن علاقة ضرر الفلسفة بقيم الاحترام، يندرِج ضمن النقد الفلسفي ومراجعة الفلسفة لفكرها، مادامت لا تفتأ عن الاستفزاز وزعزعة المعتقدات وخلخلة القيم، التي تعتبر إسمنت العلاقات الاجتماعية، الضامنة لاستقرار المجتمعات، وهو ضرر قد يقود إلى حروب أهلية لا تُبقي ولاتذر.
ضرورة الفلسفة.
لقد مات سقراط في السجن، لكنه يعيش بيننا مواطنا كونيا متجاوزا لكل الأزمنة والأمكنه، ليس لأنه بطل، بل لأنه فيلسوف آمن بقيم الفلسفة التي يمكن أن نجمعها في كلمة واحدة هي "الاحترام"، احترام القيم العقلية التي ناضل من أجلها بأعلى صوته، مجسدا جرأة الفيلسوف، في احترامه لحرية التفكير، احترامه لحرية التعبير، احترامه للحقيقة، احترامه للكرامة الإنسانية، احترامه لقيم الحقيقة، كان بإمكان سقراط أن يرتدي خاتم "جيجيس" وأن يفر من السجن، بعدما عرض عليه تلامذته ومُحِبُّوه –عشاق الحكمة- الفِرار بدل الردى، لكن سقراط ليس هو الراعي "جيجيس"، والقيم السقراطية ليست قيما مُزَيَّفة، يُحركها الخوف، الطمع، المجد، البطولة والشهرة، كلا، لذا كان من البديهي أن يحترم سقراط القيم التي عاش من أجلها.
- لماذا؟
إن المشروع الفلسفي السقراطي هو مشروع يتأسس على قاعدة الاحترام، والمساس بهذه القاعدة يعني انهيار المشروع الفلسفي برمته، لأنه مشروعُ قِيَمٍ تنبني على العقل واحترام القيم العقلية، ومصداقية المشروع القيمي تكمن في احترام قيمه، وفِرار سقراط من السجن يعني أن القيم مجرد خدعة وأكذوبة، تختفي في لِباس الفضيلة، مادام الجزع من الموت وغريزة البقاء واحدة بين البشر، وبالتالي تهافت القيم السقراطية التي كانت تدعو إلى استقبال الموت بشجاعة، لقد دحض سقراط توقعات الرأي العام، وكان أكثر تشبثا بالقيم الفلسفية في أقصى اللحظات الحرجة، مبينا لمُحِبِّي الحكمة الذين أرادوا تهريبه من السجن كمجرم جبان، أن حكمة الفلسفة تقتضي أن يناضل الفيلسوف من أجل القيم، عندما تسجن القيم وتقمع، لا أن يتخلى عنها سجينة مكبلة ويفكر في الخلاص الفردي، وهو ما يفصح عن التمازج بين الفلسفة والقيم إلى درجة التماهي والانصهار، ومن جهة أخرى علاقة الفلسفة بقضايا الحياة والخلاص الجماعي، الفلسفة ترفض التنميط، القولبة، التبعية، الخنوع، الخوف، السذاجة، الخضوع لسلطة العادة، وفرض الوصاية، وكل المظاهر التي تمس احترام الإنسان، مادام منطلقها يقوم على إعمال العقل والتحريض على ممارسة التفكير، ومحاربة "الأُمِّية الفلسفية" التي تعني "الأمية الفكرية" و "أمية القيم". (يتبع)
*المراجع والإحالات:
1- جمهورية أفلاطون، ترجمة علي رمضان فاضل، دار طيبة للطباعة، الجيزة، الطبعة 2013، الصفحة:297.
2- المرجع نفسه، الصفحة:240.
3- آي.إف. ستون، محاكمة سقراط، ترجمة نسيم مجلي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة، الطبعة الأولى2002، الصفحة:7.
4- المرجع السابق، ص:7.
5- نفسه، الصفحة:9.
6- آي.إف. ستون، محاكمة سقراط، ترجمة نسيم مجلي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة، الطبعة الأولى2002، الصفحة:128/129.
7- نفسه، الصفحة:130.
8- نفسه، الصفحة:130.
9- نفسه، الصفحة:130.
10- نفسه، الصفحة:132.
11- نفسه، الصفحة133.
12- نفسه، الصفحة.133.
13- جمهورية أفلاطون، ترجمة علي رمضان فاضل، دار طيبة للطباعة، الجيزة، الطبعة 2013، الصفحة:.302
14- نفسه، الصفحة253.
15- ضرورة الفلسفة، نقدالوضع الحالي للفلسفة، بيير ثويليي، ترجمة: عزيز لزرق، منشورات اختلاف، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى2000، الصفحة:88.
16- نفسه، الصفحة89.
* أستاذ فلسفة، حاصل على الماجستر في أسس التربية والتعلم، باحث في علوم التربية والقيم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.