حمدا لمن تفرد بالجلال وتنزه بالكمال، وسطعت أنواره على جميع الأكوان، وكان مبدأ ومآلا لمن في الإمكان، وهو الذي توحد بذاته وتميز ببقائه، وتجلى بصفاته على الممكنات فظهر منها طيف من بهائه على قدر استيعابها ومدى استعدادها، وتأهب قدراتها، فبرزت في الوجود خلائق متعددة في الشكل والمراتب، متباينة في الصفات والمناقب، تتباين العوالم وتتنوع في رونق وسياق عجاب، من عالم الجماد الشاسع إلى عالم الإنسان المبدع الرائع، فيبدو لنا في الوهلة الأولى في فوضى عارمة وما نبرح ندقق البصر ونحقق بالعلم والمعرفة حتى نجده في ترتيب وتناسق تام، وتوازن لا يقدر فك رحيقه إلا أولي الألباب ولن يصل إلى فهمه أحد من العباد، فهو سر من أسرار السبحان ختم عليه اسمه العزيز المستعان. ومن بين الأراضي التي تجلت عليها أنوار الخالق البارئ، أراضي قلوب الإنسان، التي اهتزت وربت وأثمرت ثمارا بديعة المحاسن، جميلة الصفات، كانت سببا في رقيه وتطوره، ومنبعا لبقائه وتكاثره، فكأنها الأمطار المحيية والأشعة الدافئة، أو القوى المغناطيسية الجاذبة ،التي تملكت من عقل الإنسان وروحه، فراح ولهانا متيما بخالقه، يذكره في آناء ليله ونهاره، يرجى لقاءه والولوج إلى جواره. فتمكن الإيمان من قلوب البشر، فصار محركا لجوارحها وملهما لمشاعرها، ودواء لعلتها، وباعثا لفضائلها ومنبعا لعقلها وفكرها، حتى استطاعت أن تقوم بأبهر الاكتشافات وسخرت قوى الطبيعة لصالحها، تغوص في البحار وتطير في السماء، وتفك ألغازا كانت محجوبة عن الأبصار. ونحمده ونشكره على أن بذرة الإيمان كامنة مستقرة في قلوب المغاربة، محفوظة في صدورهم كالخريدة العصماء والجوهرة الملساء واللؤلؤة اليتماء في صدفها في قعر البحار بحيث لا تمتد إليها إلا أيادي الأخيار ولا تنعم بحسنها إلا أعين الأبرار. وهذه ميزة وجب الحفاظ عليها ورعايتها حتى تنتقل من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان آخر؛ فالإيمان بالله الواحد الأحد مكتسب فاز به أهل هذه الديار بعد سيرورة امتدت عبر الزمان والمكان، حتى وصلت إلى أوجهها واستقرت على شكلها وترسخت في النفوس والأرواح، وصارت ملزمة للصدور والقلوب بالرغم من كيد الكائدين ومهاجمة الساخرين الناكرين لها والمعتقدين ببلادتها وبساطتها، والزاعمين بأنها نتاج عقل الإنسان حتى يطمئن نفسه، ويهدأ من روعه أمام هذا العالم الهائل متلاطم الأطراف شاسع الأرجاء، فيجد لنفسه منفذا وملاذا، ويستقر باله ويسكن حاله، فيرى لفنائه بداية ولمماته بعثة وحياة ولهلاكه نجاة. وحال لسان زعمهم أن مصدر الألوهية والذات الملكوتية ليست مرئية للعيان، ولم يشاهدها إنسان، ولم تقع عليها عين في الإمكان، وهل كل ما لا يرى عديم الوجود؟ وكل ما لا يخضع للحواس منعدم الوجدان بين الناس؟ ولنا في قوة الجاذبية خير دليل وبرهان بل حتى في أصغر الجزئيات إلى أكبر المجرات هل هي خاضعة للحواس؟ لا ورب الأرباب بل الطاقة الناتجة عنها لهي خير الحجج وأعظم برهان. والإيمان بالله ورسله له ثمار خالدة ومنافع ساطعة، إلا لمن أراد أن يولي الأدبار وينكر ما هو ظاهر متجل تجلي الشمس في وسط النهار. ولربما قال أحدهم ولكن هذا الإيمان كان ولا يزال إلى حد الآن مصدرا النزاع والجدال، وسببا في الحروب والقتال، فالشمس عند بزوغها تنفع من كان أهلا لها وتهلك دون ذلك. فأصحاب الكهوف المظلمة المقفرة إذا ما خرجوا إلى الفضاء الواسع التهمتهم قوة الشمس وألحقت بهم ضررا، وأما من عاشوا تحت نورها أخذوا منها نفعا وثمرا. وسبب هذا الجدال والقتال هو الاعتقاد بتباين الإيمان حسب الملل والنحل، وهذا ضرب من الخيال واعتقاد لمن لم ير نور الإيمان ولم يشهد في نفسه جلاله وبهاءه، فهو نور واحد لا يقبل التعداد ولا التفرقة والاستبعاد. فالإيمان كالشمس الظاهرة تتغير حرارتها حسب الفصول والأيام؛ ففي فصل الصيف تكون حرارتها ونورها على أشدها، وفي الشتاء تقل حرارتها وضياؤها، وفي الربيع تعود بدفئها وأنوارها. إن شمس الإيمان واحدة في قلوب البشر على اختلاف ألوانهم وعاداتهم وأعراقهم وأديانهم. ولما أحس المغاربة بهذا الإيمان الصادق شاهدوه في إخوانهم من الديانات الأخرى، فاستبشروا خيرا والتأموا التئاما، وقالوا حسبنا الله إننا آنسنا في القلوب نورا.