في التراث الشعبي لقريتنا الصغيرة، وإلى وقت قريب كان الناس -وما يزالون بصورة خافتة- يجمعون بين الفرح والحزن في عاشوراء جمعا غريبا. تراهم يشترون الألعاب للأطفال، والدفوف و(الطعارج) للبنات، والأبخرة الزكية، وتخضيب النساء لرؤوسهن وأكفهن وأقدامهن بالحناء، ويقيمون تجمعات للبهجة والضرب على الآلات والرقص، ويقتنون أنواع الفاكهة الجافة ويسمونها "عاشورا" ويتراشقون بالماء ويطلقون عليه "زمزم"، ويعلون النار ويتحلّقون عليها بالتنكيت والفكاهة والقفز.. وفي نفس الوقت يحتفظون على عظم الساق من أضحية العيد، ويخضبونه بالحناء حتى يحمرّ، ثم يلبسونه من الثوب الأبيض قميصا وجلبابا وسلهاما، ويتخذون له وسادة وفراشا وغطاءا، ويسمونه "عيشور" ويضعون معه بيضة أو اثنتين وشيئا من الحناء، ويطوفون به في الأحياء ويجمعون به وله القطع النقدية والسكّر، وفي يوم التاسع من محرّم يغسّلونه كما يغسل الموتى، ويجتمعون على جنازته ويبيتون، وفي اليوم العاشر يحملونه على الأكتاف ويقصدون به المقبرة مصحوبا بالنواح واللطم والبكاء، ثم يجعلون له قبرا صغيرا، وبعد ذلك يقتسمون ما جمعوا من الغنائم أو يقيمون به مائدة.. القوم يفرحون على العادة ولا يستحضرون عبادة ولا طاعة، جريا على ما وجدوا عليه آباءهم وأمهاتهم، في صورة واضحة لِما كان عليه المسلمون من الجهل بتعاليم الدين الحنيف قبل بروز الصحوة الإسلامية، والحقيقة أن ذلك نابع من أصل السنة الداعية إلى الفرح بنجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، إلا أن تغييب البعد الديني للمناسبة ألصق بها شوائب الانحراف تلك. ويحزنون على العادة أيضا، ولا يعلمون أن أصل ذلك واقعة ذبح سبط الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام ووضع الأغلال في أيدي وأعناق أهل بيته، في نفس اليوم، وتلك الطريقة هي نفسها ما عليه الشيعة في إحياء الذكرى، بالنواح واللطم وشق الجيوب ولبس السواد والتطبير وغير ذلك من مظاهر سلوكية تجديدا لجنازة الحسين عليه السلام، وهي لا شد انحراف عن الجادة. يعلم الجميع أن المغرب بلغه المذهب الشيعي في الصدر الأول من الفتح، ودخل قبله الأمويون، وهما طرفا الصراع في مسألة الولاء والبراء من آل البيت، ولا شك أن الإسلام الموروث في البلاد قد احتفظ بشيء من الرائج يومهما من تلاطم الأفكار والاعتقادات، إلا أن احتضان أجدادنا للإمام الشريف إدريس بن علي دفين زرهون والوقوف خلف نسله من الأشراف في وجه أعدائهم كان النواة الأساسية لتوطين حب آل البيت في عقيدة المغاربة، ولا نجد عبر تاريخه نصبا للعترة الشريفة على عكس ما ساد في بعض مناطق المشرق، كالشام مثلا. بل إن سند الانتساب للبيت الشريف يتّخذه الملوك إلى اليوم لتوطين أقدام حكمهم على المغرب والتمويه بالشرعية لهذا النسل الشريف، لما علموا من تعظيم المغاربة له، وإن كان هؤلاء أهل استبداد وظلم وجور، وزاد المذهب المالكي وطّن تلك المحبة في أحشاء المغاربة وهو المحبّ لآل البيت والمناصر لقضيتهم في عهد حكم بني العباس. وعليه فالفرح في اليوم العاشر من محرم في المغرب لم يكن دافعه النصب ولا الفرح بمقتل سيد شباب الجنة ولا الشماتة في أهل الدوحة النبوية الشريفة، وحاشا أن يتخذوا ذلك سلوكا. واعتقاد ذلكَ كفرٌ والعياذ بالله. هذا المزج بين الفرح والقرح في مناسبة عاشوراء هي الاعتدال في المسألة، ما اجتنبت فيها مظاهر الانحراف، وذلك أن يُصام التاسع والعاشر على سنة النبي صلى الله عليه وسلم شكرا لله تعالى على إنعامه، وتستحضر قضية أهل البيت والتعريف بمظلوميتهم وفضح قتلتهم من بني أميّة، والتنبيه على إفراط الشيعة الروافض في الانتصار لآل البيت ونعيهم، وتفريط أهل السنة في ذلك، وإنكار دفاعهم عن السفاح يزيد بن معاوية الذي لا تجد له فضلا إلا عند من في قلب مرض، نسأل الله السلامة. باحث في العلوم الشرعية والفكر الإسلامي [email protected]