لاشك ان التنقيب في البعد السيكولوجي /النفساني للفساد في حد ذاته يحيلنا الى استكشاف الجوانب غير السوية /المعوجة الطاغية على الكنه والماهية في خضم استئساد جملة من الاعتلالات والتعقدات المركبة المستعصية على التفكيك، وذلك في تجلي التضخم الأنوي والاتسام بخصائص التسيد والاستبداد والطغيان والايقاع بالآخر في غياهبه ،وسلخ الانسانية عن جذع النفس البشرية ،فالفساد هو مكون استلابي بكل امتياز يأتي على الاخضر واليابس وينهج سياسة الارض المحروقة لكل القيم النبيلة ،فسيكولوجية الفساد جد معقدة ومن يلج عوالمها من الافراد بقدر تحصيلهم وانتفاعهم يزدادون في التيه ويتقمصون نفس سيكولوجية الفساد بمعنى سيكولوجية المفسد الذي تتمنع عنده خصيصة الاشباع ويكثر عنده الطمع وانعدام الوازع الديني والاخلاقي والنفاق والشيزوفرينية او حالة الانفصام في الشخصية بمعنى التعرض لوابل من الامراض النفسية التي توجه سلوكه والتي من الصعب علاجها ويصبح رهينة في يد الفساد في حد ذاته يوجهه الوجهة التي يرتضيها. للفساد قلاع كثيرة تحصنه وترعاه وتحفظه من المهالك ،فينمو ويترعرع وتتقوى شوكته من الصلابة ويحكم بقبضته على الدولة ويزرع بذور الاستدامة والمكوث الأبدي، إنه دولة داخل الدولة له مؤسساته ونخبه وقانونه الخاص ،بالإضافة الى لا أخلاقيات ممارسته وشروط إمتهانه بإحترافية، ولا مكان فيه لذوي الضمائر الحية والقلوب الضعيفة، ومن يملك حبة خردل إيمانا، إنها الدولة الموازية التي تملك وسائل الترغيب والترهيب والاكراه، وتزرع إيديولوجيتها للسيطرة على العقول ،وتعمل على تدجينها وتطويع تفكيرها لصالحه ،وتملك قدرة نورانية خارقة للاستقطاب والاستدراج الى مدارجه ومسالكه ومهالكه. ان للفساد استراتيجية محكمة وقوة خارقة لهدم كل القيم النبيلة وزرع بدل ذلك قيم الحط من النفس ووضاعتها ونزع أي بذرة من الاخلاق واقتلاعها من جذورها ،وتحويل الفرد الى كائن ذو نوازع مرضية لا يقدر قيمة العمل الا بمقدار التحصيل غير المشروع ويحاول ان يجد لنفسه تبريرات ومسوغات على ان الامر يندرج في خانة الاكراميات وليس في بند الرشوة ،فيصبح الفساد واقع يومي معاش لا محيد عنه وممارسة اعتيادية ودارجة في السلوك اليومي. في دولة الفساد تنقلب القيم والحقائق فيصبح جلاد المال العام هو الضحية او المجني عليه بينما يتحول كل من أفشى سره أو افتضح امره الى متهم وجاني، وهذا طبيعي جدا لأن قانون دولة الفساد ينص في بنوده على أنه يعتبر جانيا كل من امتنع عن فعل الفساد أو مجرد اعلان النية في ذلك أو وشى بمفسد أو نأى بقاصر عن ممارسة الفساد ،أو مارس كل ما من شأنه هداية مفسد الى الصلاح ،ومع تشديد العقوبة على من ثبت في حقه ممارسة ذلك تحت طائلة الاصرار والترصد، نعم للفساد جهاز قضائي يحاكم اصحاب النوايا الحسنة وكل المصلحين والشرفاء. وحتى من يريد تفكيك شفرات هذا الجمع المدنس الغير الشرعي، أو محاولة إيجاد فواصل وقطائع بين الدولة الرسمية والدولة الموازية للفساد يعتبر من الدخلاء وجب استئصاله وإن ثبت عزمه فمصيره الهلاك وسوء العاقبة. نعم للفساد وجوه كثيرة ويدب في شريان الدولة الرسمية ويشد مفاصلها ،وينساب في كل قطاعاتها ،وللفساد ايضا هويات سياسية و اقتصادية وإدارية وأخرى ثقافية، الفساد مهنة لا مكان فيها للهواة ويتطلب شهادة الخبرة والاحتراف، الفساد قوة اقتصادية ويخضع بدوره لقانون العرض والطلب، ويخضع للتنافسية التي تتعزز مع حرية سوق الفساد. إن الفساد مكون يقظ وحذر ويملك جهاز مناعة ومقاومة لا نظير له يقيه من كل الضربات ومحاولات النيل منه ،ويملك قوة تجديد ذاته أمام كثرة ضعاف النفوس والمغرر بهم ،ومن يدور في فلكهم، وكل من يملك صبغيات وكيميا الانغماس في ملذاته، وقد يقوم بحرب استباقية ووقائية ضد كل من يتربص به. دولة الفساد تتقوى على الدولة الرسمية بفعل ضعفها وهوانها ووهنها ولكونها ارض مشاع ومستباحة ،لكن دون أن تزيحها لأن وجودها في وجودها ولا معقب للفصل بين الاثنين، وفي ذلك ميثاق ترابط مصلحي وثيق، ودفتر شيك على بياض، والقضية مصيرية للاثنين معا فهناك سلام دائم واعتماد متبادل لا مفك منه ،رغم وجود بعض المناوشات والاستفزازات على حدود الاثنين سرعان ما يعقب ذلك إصلاح ذات البين نتيجة المساعي الحميدة، ونظرا أيضا للروابط البنيوية والوظيفية والسوسيولوجية التي تجمع الاثنين ،فنخبها من نخبها ومؤسساتها من مؤسساتها والدولة العميقة للفساد هي من يمتد في الدولة الرسمية وعكس المعادلة صحيح كذلك، وفي هذا التشابك والتشبيك محمل استعصاء محاربة الفساد أو حتى مجرد التفكير فيه. وبالنظر الى تركيبة الطبقات الاجتماعية لدولة الفساد نستكشف تلك الهرمية التي نجد على رأسها طبقة المفسدين الكبار أو الحيتان الكبرى التي تستفيد وتستأثر بالكعكة الكبرى وتمارس نوعا من السلطوية على المفسدين وتخضعهم لناموس الخضوع والطاعة والقبول بالقسمة ولو بقليلها ،وهناك في مقام ثاني الطبقة الوسطى من المفسدين الميسورين غير المخصوصين او غير المعوزين وتحاول هذه الطبقة لعب دور التوازن بين الطبقة العليا والقاعدة التي تتشكل من قاع المفسدين غير المحظوظين الذين يحيون على الفتات وما تبقى من كلأ الفساد ونفسيتهم دائما متذمرة من الوضع ويسارعون في الارتقاء في سلم الفساد للحصول على القدر الأكبر من الانتفاع، وبين هذه الطبقات لا يأمن أي من المفسدين على مركزه او موقعه فالكل مهدد بالصعود او الهبوط بحسب ميزان القوى واستراتيجيات الدولة العميقة للفساد التي تتغير بحسب ظروف الحال والاحوال. نعم لدولة الفساد سفراء النوايا السيئة يحشدون الدعم الدولي لقضاياه الغير العادلة وفي مسعى أيضا تحسين وتمتين العلاقات مع دول الفساد الكبرى لتبادل الخبرات والتقنيات في استدامة الفساد وإطالته وتعظيم شأوه بين الدول والأمم والتنسيق أيضا للإشتراك في بناء استراتيجيات المواجهة والتأبط والتآمر على كل المصلحين والشرفاء في هذا العالم وداخل الأوطان ،وعلى كل من يقف في طريقهم، وابرام اتفاقيات بشان التطبيع الكلي مع الفساد خصوصا مع الدول السائرة في طريق الفساد. ان الدولة العميقة للفساد احدثت ثورة هادئة في التغيير واستفادت في ذلك من الربيع الديموقراطي واستوعبت رياحه العاتية ولكي لا يثور المفسدين سارعت الى انجاز اصلاحات تستهدف دمقرطة حقل الاستفادة من الفساد واذكاء روح الحق والحرية في ممارسة الفساد على اشده ،ومواجهة كل اشكال التمييز بين المستفيدين والممتهنين له وانصاف المتضررين والمهمشين من خلال اعادة ادماجهم في فضاءات ومجالات الفساد من خلال جبر ضررهم ماديا ومعنويا. نعم انه حال الدولة العميقة للفساد التي مازالت تلقي بظلالها وترخي بسدولها على العديد من الدول رغم ما عرفته من اصلاحات وتغييرات وثورات، فهي ماضية في الدفاع عن وجودها وكينونتها دون تقدير اعداد الضحايا والنفوس المريضة، فإلى متى يظل الاستسلام هو المسلك في مواجهة الدولة العميقة للفساد ،طبعا فالعلاج لن يأتي بالمسكنات وانما اعتماد طريقة العلاج بالصدمة خصوصا مع هذه الامراض الفتاكة القاتلة الذي هو الفساد.