سماها الفرنسيون «باريس الصغيرة» وصنعوا بها بحيرة ماء جميلة ظل المستعمر الفرنسي يعشق مدينة وادي زم، وبشكل خاص حينما اكتشف أنها فضاء استثنائي اختار أن يكون على سفح تل. لذلك أطلق عليها اسم «باريس الصغيرة»، وصنع في وسطها بحيرة اختار أن تكون على شكل خريطة للجمهورية الفرنسية يتوسطها مجسم أسد. ولا غرابة في الأمر، فوادي زم هي باللغة العربية «وادي الأسود». غير أن كل هذا التاريخ المجيد أضحى اليوم مجرد ذكرى، ولم يتبق لأهل المدينة وقبائلها من السماعلة وبني خيران إلا هذا الماضي، في الوقت الذي تعيش حاضرها شبه منبوذة، على الرغم من كل محاولات ترميم وجهها والقضاء على مظاهر الفقر التي أصبحت من أكبر عناوينها. يحكي أهل المدينة أن لتاريخ وادي زم، خصوصا أثناء مقاومة المستعمر الفرنسي، أثرا فيما تعيشه اليوم. وفي الوقت الذي يقول أهلها إن المدينة كان يجب أن تجازى على ما قامت به، يصنفها البعض على أنها مدينة «الثورات». تلك التي وثقتها العيطة وهي تقول في أحد المقاطع «فين أيامك يا وادي زم.. الزناقي عامرة بالدم». اليوم يردد شباب المدينة وشيوخها نفس الأغنية « فين أيامك يا وادي زم» حسرة على الماضي، وليس افتخارا بما قدمته المدينة. لماذا توقف قطار التنمية في وادي زم؟ وهل لهذا الوضع، الذي يجعل المدينة رتيبة بدون ملامح غير هذه المقاهي الممتدة، حيث يقتل الشباب وقته في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، أسباب تاريخية؟ الكثيرون يقولون إن ما حدث في 20 غشت من سنة 1955 كان له أكبر الأثر على ما نحياه اليوم، على الرغم من أن ما قام به أهل وادي زم في تلك المرحلة، كان دفاعا عن الوطن وعن شرعية السلطان محمد الخامس. تحكي كتب التاريخ كيف خرجت المدينة عن بكرة أبيها في ذلك اليوم القائض، لتنتفض في وجه المستعمر الذي سيقتل يومها أكثر من خمسة آلاف فرد، ويتكبد خسارة كبيرة في الأرواح. وهي المحطة التي شعر فيها المستعمر أن وادي زم، أو «بوتي باري»، لم تعد ترغب في بقائه. لذلك شكلت تلك المحطة تاريخا فاصلا بين مرحلتين ليس فقط في هذه المدينة ولكن في كل مدن وقرى المغرب. بل إن قبائل السماعلة وبني خيران تقول إن عودة السلطان الشرعي محمد الخامس إلى عرشه وقع بدماء انتفاضة وادي زم. اليوم يفخر أهل وادي زم بهذا التاريخ. لكنهم يتحسرون على ما حدث بعده. ولا يخفي البعض اقتناعه أن هذا التهميش الذي تعيشه المدينة كان بسبب ما حدث يومها في 1955، خصوصا أن المنطقة كانت تعرف نهضة قوية لم تتأت لغيرها من مدن وحواضر المغرب. وتقول المعطيات إن القرية الصغيرة التي تطل على مدينة وادي زم، كانت أول تجمع قروي يتم ربطه بالكهرباء في الخمسينيات، وهي القرية التي تعرف اليوم باسم «أربعاء الكفاف». بل إن وادي زم وصلها القطار وقتها في 1917 قبل أن يصل كبريات المدن المغربية. اليوم انمحت كل مظاهر التنمية، وتركت المدينة للتهميش الذي تعتبره ساكنتها مقصودا، على الرغم من موقعها المتميز في وسط المغرب بين محوري الدارالبيضاء وبني ملال، الموقع الذي ظل يوفر الماء حيث توجد عيون ماء زلال بوادي زم. وهي التي كان المستعمر الفرنسي قد جعلها منطقة استراتيجية لمواجهة رجال المقاومة. وأصبحت بذلك مخزنا للأسلحة والوقود. كما أصبح حكمها يمتد إلى مولاي بوعزة والبروج وأولاد زيدوح، وبدأت تكبر بتوسع عمرانها وتكبر معها المرافق الاجتماعية والاقتصادية حيث أسس بها المستشفى العسكري وكذا المدني. كما أسست بها مجموعة من الشركات كشركة المشروبات والتبغ والتعاونية الفلاحية. اليوم في أحياء كالهرية، الذي كان خاصا بتجارة الحبوب، أو الأقواس أو المسيرة، تبدو مظاهر الفقر والتخلف ظاهرة، خصوصا أن المدينة التي كانت أرض الفوسفاط والحديد والرخام، أغلقت كل فضاءاتها الإنتاجية وتركت ساكنتها عرضة للتهميش. وقد تكون سنوات الجفاف التي تعاقبت على المنطقة هي التي ساهمت في تهميش المدينة، بعد أن اختار شبابها الهجرة خارجها بحثا عن فرص عمل أخرى. أغلقت في بداية الثمانينيات شركات التبغ، ومعمل ايكوز للخيط، وشركة لاسيكون، وفرتيما، أبوابها. وسرح العمال، ولم يجد شباب وادي زم غير الحلم بهجرة بحثا عن الفردوس المفقود. لذلك كانت المدينة قد تحولت إلى مشاريع مهاجرين سريين. وكان في كل بيت يوجد مشروع مهاجر سري قد يكتب له عبور الضفة الأخرى للمتوسط، أو العودة إلى وادي زم جثة هامدة في صندوق خشبي. اليوم لم تعد الهجرة السرية تغري الكثيرين. وأصبح شباب المنطقة أكثر شهرة فيما يصطلح عليه بالابتزاز الجنسي عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية. وهكذا عشنا في السنوات الأخيرة مع حكايات هذا «الأرناك» الذي سيشتهر به شباب وادي زم، الذين وجدوا أن المدينة لم تعد قادرة على توفير فرص شغل لهم، وكان لا بد من البحث عن البديل، الذي لم يكن غير ابتزاز المهووسين بالدخول في لعبة الجنس الافتراضي. اليوم لا يمكن أن تذكر اسم وادي زم، التي كانت في الماضي القريب أرض المقاومة والثورة ضد المستعمر، إلا وأنت تستحضر أسماء كل هؤلاء الشباب الذين جعلوا من الابتزاز حرفة تدر عليهم الخير العميم. ولا غرابة أن جل شباب وادي زم دخل التجربة، ونجح بنسبة كبيرة في كسب المال عن طريق التحويلات المالية التي تأتي من بعض دول الخليج على الخصوص. وعلى الرغم من أن الاعتقالات طالت بعض هؤلاء الذين قضوا فترات سجنية بسبب هذا السلوك، إلا أن الظاهرة لم تتوقف، وأصبحت شغلا لشباب المدينة، بدلا من الحلم بالهجرة السرية، أو البحث عن فرصة عمل لم تعد ممكنة في مدينة أغلقت كل معاملها، وتركت هناك تعيش رتابة وقتها. جريدة المساء 07 يوليو 2015 العدد : 2727