من محمد عرابي إلى محمد مرسي، أربعة دساتير حكمت مصر والخامس أٌعلنت مسودته وينتظر موافقة الشعب عليه أو رفضه يوم السبت 15 من دجنبر 2012. فمنذ عام 1982 وإلى 2011 حٌكمت مصر بأربعة دساتير اختلفت مضامينها ومسالك صياغتها؛ الأول منحه أحمد عرابي للمصريين في إطار النضال ضد الاستعمار الانجليزي وحكم الملك الخديوي في سياق ما سمي آنذاك ب«الثورة العرابية»؛ أما الدستور الثاني فصدر في أعقاب ثورة 1919 بقيادة «سعد زغلول باشا» ضد الملك وضد الاحتلال الانجليزي، وسمي ب «دستور 23» نسبة إلى السنة التي أنجز فيها، ونص مضمونه على نظام حكم أقرب إلى ملكية برلمانية؛ ويعد «دستور 54" ثالث دستور يحكم الدولة المصرية، وهو من إفراز «ثورة» الضباط الأحرار في يوليو 1952 باعتباره أول دستور ينص على الجمهورية كنظام حكم، وتم الإعداد له من خلال لجنة معينة تضم أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية؛ وعقب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1970 وتولي نائبه أنور السادات السلطة لفترة مؤقتة- سرعان ما تأبدت- طلب السادات سنة 1971 من مجلس الشعب وضع مشروع رابع دستور يحكم الشعب المصري، فقرر المجلس بجلسته المنعقدة فى نفس اليوم تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوا من أعضائه ومن أهل الرأى والخبرة ورجال الدين. غير أن التعديلات التي لحقت على هذا الدستور والقوانين التنظيمية المفسرة له جعلت منه دستورا استبداديا انفرد من خلاله الرئيس حسني مبارك بالحكم. وهو ما قاد إلى ثورة 25 يناير 2011 التي انتهت بإسقاطه وانتخاب جمعية تأسيسية يُؤمل منها وضع دستور يحكم البلاد وينقلها إلى ركب الدول الدستورية الديمقراطية. فما هي سياقات مشروع هذا الدستور؟ وما هي الخلافات المثارة حوله؟. غني عن البيان، أن مسودة الدستور الذي أعلن الرئيس المصري محمد مرسي عن موعد الاستفتاء عليه (15 دجنبر 2012)، جاء في سياق الثورة المصرية التي اندلعت يوم 25 يناير 2011 والتي أنهت عهدا وأسست لعهد جديد لم تتضح معالمه بعد، غير أن ما نحن بصدده يروم تقريب القارئ المغربي من السياق العام الذي وُلد مشروع الدستور في أجوائه، إذ في وسعنا الحديث عن أهم المراحل التي صاحبت إنتاج هذا المشروع والرؤى المتباينة حوله. بحيث أنه مباشرة بعد ثورة 25 يناير وإسقاط نظام حسني مبارك اندلع نقاش بين القوى الثورية حول مجموعة من الأمور خاصة بعد تقمص المجلس العسكري لدور «الموظف الفعلي» وإدارة البلاد عن طريق إعلانات دستورية ممنوحة من قِبله، وتركز الاختلاف بشكل أساسي على سؤال: المؤسسات أولا، أم الدستور أولا؟ فكان الجواب هو الدستور أولا، ليٌستفتي الشعب المصري على مشروع الدستور الذي عين لجنة صياغته المجلس العسكري وترأسها المستشار طارق البشري. غير أن هذا الدستور لم يكتب له العيش بعد أن اكتشف الجميع أن الاستفتاء تم على بعض بنود دستور 71 ولم يرقى إلى مستوى دستور بالمفهوم القانوني للدستور. وتجدد النقاش مرة أخرى حول سؤال الدستور أم المؤسسات أولا، لكي يأتي الجواب هذه المرة: المؤسسات أولا. فانتخب الشعب المصري مجلسي البرلمان ورئيسا جديدا للجمهورية، قبل أن يصدر القضاء الإداري حكما بإبطال الجمعية التأسيسية المنبثقة عن البرلمان لكونها تضم نوابا برلمانيين في صفوفها، مما حدا البرلمان انتخاب جمعية ثانية ترأسها المستشار «حسام الغرياني» المعروف بمواقفه المدافعة عن استقلالية القضاء. غير أن المحكمة الدستورية قضت هذه المرة ببطلان مجلس الشعب كاملا، وإن احتفظت بجميع انتاجاته التشريعية بما فيها الجمعية التأسيسية للدستور، لعيب في القانون الذي انتخب على ضوئه. وهو ما لقي معارضة قوية من لدن أغلبية مجلس الشعب المؤلفة أساسا من تيارات «الإسلام السياسي». واستمر العمل على مسودة الدستور لأكثر من 6 أشهر متصلة مع تمكين المواطن المصري من الاطلاع على أشغالها عبر النقل المباشر لأعمالها، وأيضا عبر التفاعل المباشر مع أعضائها من خلال العرائض والحوارات والمشاركات الحي على شبكة الأنترنت، وهو ما يحسب للجمعية التأسيسية. وإن كانت هذه الأخيرة قد تعرضت لكثير من انتقادات التيارات «المدنية» التي ساقت كالت لها مجموعة من الاتهامات، إذ اتهمتها حينًا بعدم الشرعية لضمها نوابا برلمانيين، واعتبرت حينا آخر بأنها تضرب «في عمق التوافق» أو أنها «اعتمدت في تشكيلها بالأساس علي المحاصصة الحزبية المتغيرة بطبعها». غير أن النقطة التي أفاضت الكأس وأدت إلى انسحاب بعض أعضائها تمثلت في عدم التوافق حول بعض بنود الدستور المقترح ولجوء الإسلاميين إلى مسطرة التصويت لتمرير تلك البنود، وهو ما رأى فيه التيار «المدني» تكريسا للصوت الواحد وفهما شكليا للديمقراطية، بينما رأى فيه تيار«الإسلام السياسي» وبعض المستقلين (قضاة، عسكريين، نقيب الصحافة، محامون....) أسلوبا ديمقراطيا راقيا يتماشى وأسس الديمقراطية خاصة وأن الجميع اتفق على النظام الداخلي للجمعية الذي ينص على التصويت في حالة عدم التوافق. ثم تعرضت الجمعية التأسيسية لانتقاد آخر يرى فيها «أداة في يد الرئيس» لأنها «سرعت بإخراج مسودة الدستور إلى حيز الوجود لتجنيب محمد مرسي حرج الإعلان الدستوري» المعتبر لدى أغلب النخب السياسية المصرية «إعلانا استبداديا لكونه يحصن قرارات الرئيس جميعها، ولا يحترم استقلالية القضاء». ورغم كل هذا السياق والاعتراض الذي واكب صياغة مشروع الدستور ولم تسلم منه الجمعية التأسيسية المنتخبة التي أنتجته، فإن الرئيس المصري محمد مرسي قد أعلن عن الاستفتاء حول مسودة هذا الدستور، وفي المقابل أعلنت مجموعة من الفعاليات مقاطعته، وانقسم قضاة مصر بين مؤيد ومعارض لمسألة الاشراف على الاستفتاء حول مشروع الدستور. وهو ما قد يرشح الأمور إلى مزيد من التوترات، خاصة مع إصرار الرئيس مرسي على التمسك بالإعلان الدستوري الجديد الذي حصن به جميع قراراته السيادية وحتى الإدارية. ولنتوقف عند هذا العرض المختصر لسياق وضع مشروع الدستور المصري، ولنعد إلى قراءته- ولو شكيا- على أن نعود للموضوع في تناول مفصل لمضمونه. تضم مسودة الدستور المقترح من قبل الجمعية التي صاغته، إضافة إلى الديباجة خمسة أبواب (236 مادة) وهي على التوالي: الدولة والمجتمع - الحقوق والحريات - السلطات العامة - الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية - أحكام ختامية وانتقالية. أما الديباجة فجاءت على لسان الشعب المصري متوسلة بنون الجماعة –على شاكلة ديباجة الدستور الأمريكي- مذكرة بالمحطات والظروف التي أفرزت مشروع الدستور «هذا هو دستورنا.. وثيقة ثورة الخامس والعشرين من يناير، التى فجرها شبابنا، والتف حولها شعبنا، وانحازت إليها قواتنا المسلحة. بعد أن رفضنا فى ميدان التحرير وفى طول البلاد وعرضها كل صور الظلم والقهر والطغيان والاستبداد والإقصاء والنهب والفساد واحتكار. وجاهرنا بحقوقنا الكاملة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية... مشفوعة بدماء شهدائنا وآلام مصابينا وأحلام أطفالنا وجهاد رجالنا ونسائنا». وأما الباب الأول فيتصل بمجموعة من المبادئ الاجتماعية، الأخلاقية، الاقتصادية؛ في الوقت الذي ركز فيه الباب الثاني على الحقوق والحريات التي من ضمنها الحقوق الشخصية، الحقوق المعنوية والسياسية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وضمانات حماية الحقوق والحريات؛ بينما تولى الباب الثالث التعريف بالسلطات العامة للدولة واختصاصاتها والعلاقة فيما بينها، فهذه السلط كما بينها مشروع الدستور هي: السلطة التشريعية المكونة من مجلسي الشعب والشورى مع صلاحيات متباينة تجعل من الثاني شكليا حيث سحب منه دور مراقبة الحكومة، وتم توزيع السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية والحكومة مع صلاحيات واسعة للرئيس لكونه ينتخب من قبل الشعب انتخابا مباشرا وهو المسؤول عن أعمال السلطة التنفيذية ويُحاسَب عليها، كما خصص المشروع فصلا خاصا بالسلطة القضائية التي متعها بمجموعة من الصلاحيات وميزها عن باقي السلط، ونص المشروع أيضا على إحداث نظام الإدارة المحلية ومجلسا للأمن القومى والدفاع يختص بإقرار«استراتيجيات تحقيق الأمن فى البلاد، ومواجهة حالات الكوارث والأزمات بشتى أنواعها»؛ هذا وتعرض الباب الرابع للهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية التي من ضمنها المجلس الاقتصادى والاجتماعى، المفوضية الوطنية للانتخابات ومجموعة من الهيئات المستقلة؛ واختتمت المسودة بباب خامس يؤطر المرحلة الانتقالية بأحكام ختامية تهم تعديل الدستور والتنصيص على العزل السياسي لقيادات الحزب الوطني المنحل وتمنعهم من ممارسة العمل السياسى والترشح لانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور؛ وفي خطوة اعتبرها معارضو المشروع انتقاما من المحكمة الدستوري، قلصت المسودة عدد قضاة المحكمة إلى 11 قاضيا بدل 19 تتألف منهم المحكمة الحالية، فضلا عن التنصيص على بقاء الرئيس مرسي في منصبه لمدة أربع سنوات مع حقه في الترشح لولاية ثانية وأخيرة. يجوز القول إجمالا، انه إذا كان ما عرضنا له سلفا يمس الجانب الشكلي لمشروع الدستور المصري، فإنه ثمة سؤالا آخرا يستحق البحث لاحقا، وهو ما يتصل بالمسببات التي جعلت بعض فعاليات المجتمع من فنانين وقضاة وصحفيين...، يعترضون على مضمون مشروع الدستور الذي لأول مرة يصدر عن جمعية تأسيسية منتخبة، فهل هناك خلفيات سياسية ثاوية تؤطر هذا الاعتراض كما يعبر عن ذلك مؤيدو المشروع؟ أم أن النصوص مثار الاختلاف هي فعلا تمس المجتمع المصري ولا تقيه شر الاستبداد والقمع كما يصرح بذلك منتقدو المشروع ؟ باحث في القانون الدستوري وعلم السياسة