المغرب يدين إغلاق متطرفين إسرائيليين باب المغاربة في القدس    بعد استئنافه الحكم.. حامي الدين يمثل أمام محكمة فاس في هذا التاريخ    وزير التجهيز: 3000 كلم طرق سيّارة ستواكب تنظيم المغرب لكأس العالم    الدرك يحتفل بذكرى تأسيس القوات المسلحة    رئيس رابطة "لاليغا": كيليان مبابي سينضم إلى ريال مدريد لخمسة مواسم    كيف يمكن الاستعداد لامتحانات البكالوريا بهدوء وفعالية؟    تاريخها يعود ل400 مليون سنة.. الشيلي تعيد للمغرب 117 قطعة أحفورية مهربة    شبيبة "البيجيدي": تصريحات ميراوي غير مسؤولة وعلى الحكومة تحمل مسؤوليتها في أزمة طلبة الطب    الاتحاد الأوروبي يمنح الضوء الأخضر النهائي لميثاق الهجرة واللجوء الجديد    التوقيع على مذكرة إنشاء المركز الدولي للبحث والتكوين في الذكاء الاقتصادي بالداخلة    القضاء يتابع مُقتحم مباراة نهضة بركان والزمالك    الجامعة تعين مساعدا جديدا لطارق السكتيوي    تنسيقيات التعليم تؤكد رفضها القاطع ل"عقوبات" الأساتذة وتحذر من شبح احتقان جديد    340 نقطة سوداء على مستوى الطرق الوطنية تتسبب في حوادث السير    "أمنستي المغرب" تدعو إلى إلغاء تجريم الإجهاض والعلاقات الجنسية خارج الزواج    قيمة منتجات الصيد الساحلي والتقليدي المسوقة ارتفعت لأزيد من 3,5 مليار درهم    "الطابع" لرشيد الوالي يكشف عن مأساة مهاجر مغربي في رحلة بحث عن الهوية    حيتان "الأوركا" تحطم قاربا شراعيا بسواحل طنجة.. وتنسيق مغربي إسباني ينقذ طاقمه    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    جماعة طنجة ترصد نصف مليار لتثبيت مئات الكاميرات لمراقبة شوارع المدينة    دار الشعر بمراكش تواصل الانفتاح على التعدد اللساني والتنوع الثقافي المغربي    "أكديطال" تفتتح مستشفى ابن النفيس    إدارة السجن المحلي بتطوان تنفي تعرض سجين لأي اعتداء من طرف الموظفين أو السجناء    ارتفاع حصيلة قتلى العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 35173 منذ بدء الحرب    بسبب إياب نهائي الكونفدرالية.. تأجيل مواجهة نهضة بركان والرجاء إلى يوم 23 ماي القادم    الخط الأخضر للتبليغ عن الفساد يسقط 299 شخصا        طبعة ثانية من « أوراق من دفاتر حقوقي «مهنة الحرية « للنقيب محمد الصديقي    "أطلنطا سند" تطلق التأمين المتعدد المخاطر منتوج "برو + المكتب"    الباحث البحريني نوح خليفة: جهود المغرب تأتي موازية لتطلعات العالم الإنساني وعالم الطبيعة    قُصاصة حول إصدار    بعد القضاء.. نواب يحاصرون وزير الصحة بعد ضجة لقاح "أسترازينيكا"    هاشم تقدم مؤلف "مدن وقرى المغرب"    بيع لوحة رسمها الفنان فرنسيس بايكن مقابل 27.7 مليون دولار    دعوات متزايدة عبر الإنترنت لمقاطعة مشاهير يلتزمون الصمت حيال الحرب على غزة    الصين تدعو لعلاقات سليمة ومستقرة مع كوريا    أسعار النفط تواصل الارتفاع وسط توقعات شح الإمدادات    هل تكون إسبانيا القاطرة الجديدة للاقتصاد الأوروبي ؟    توظيف مالي لمبلغ 3,8 مليار درهم من فائض الخزينة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    10 لاعبين يحرجون ريال مدريد قبل انطلاق الميركاتو    الجمعية الرياضية السلاوية للدراجات تتوج بسباقي القصر الكبير وأصيلا    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    المغرب يفكك خلية إرهابية موالية ل"داعش" ينشط أعضاؤها بتزنيت وسيدي سليمان    دراسة: البكتيريا الموجودة في الهواء البحري تقوي المناعة وتعزز القدرة على مقاومة الأمراض    جامعة شعيب الدكالي تنظم الدورة 13 للقاءات المغربية حول كيمياء الحالة الصلبة    بطولة فرنسا: مبابي يتوج بجائزة أفضل لاعب للمرة الخامسة على التوالي    تبون يلتقي قادة الأحزاب السياسية.. هل هي خطوة لضمان دعمها في الاستحقاقات الرئاسية؟    اعتقالات و"اقتحام" وإضراب عام تعيشه تونس قبيل الاستحقاق الانتخابي    قناة أرضية تعلن نقلها مباراة الإياب بين بركان والزمالك    إسبانيا ترد على التهديد الجزائري بتحذير آخر    لماذا يجب تجنب شرب الماء من زجاجة بلاستيكية خصوصا في الصيف؟    الأمثال العامية بتطوان... (597)    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلاقات المغربية الجزائرية.. "واقع مأزوم" وسيناريوهات صعبة
نشر في لكم يوم 08 - 03 - 2021

عرفت العلاقات المغربية الجزائرية خلال الثلاث سنوات الأخيرة تحولات ومسارات صعبة كادت أن تصل إلى الانفلات في بعض المحطات، إذ انتقلت هذه العلاقة بسرعة فائقة بفعل المتغيرات الجيوسياسية والإقليمية والداخلية من حالتي الفتور والبرود إلى " وضع مأزوم ومعقد" ينذر بحدوث سيناريوهات دراماتيكية قد تجر المنطقة المغاربية إلى المجهول.
خمسة محطات بارزة ساهمت بشكل لافت في وقوع تغيرات وتحولات أترث بشكل مباشر وغير مباشر في تأزيم العلاقة بين المغرب والجزائر خلال الثلاث سنوات الأخيرة، حيث غدت هذه العلاقة مفتوحة على كافة السيناريوهات، لاسيما في ظل بروز تعقيدات داخلية وإقليمية طارئة.
المحطة الأولى، فشل العهدة الخامسة[1] للرئيس بوتفليقة، وبروز الحراك الشعبي الجماهيري[2].
المحطة الثانية، إجراء انتخابات رئاسية عرفت أضعف نسبة مشاركة[3]، وأفرزت فوز مرشح الجيش عبد المجيد تبون[4].
المحطة الثالثة، استمرار الحراك الشعبي رغم الإجراءات المعمول بها (انتخاب رئيس، إقالة ومحاكمة مجموعة من الوزراء[5]..).
المحطة الرابعة، إخماد الحراك بشكل مؤقت مع تفشي جائحة كوفيد 19، وإقرار التعديل الدستوري[6] رغم المقاطعة الشعبية للاستفتاء، والاقتتال والصراع داخل مربع الحكم بين الجنرالات، لاسيما بعد عودة جنرالات العشرية السوداء.
المحطة الخامسة، تحرير معبر الكركرات من طرف الجيش الملكي المغربي في 13 نونبر من السنة الماضية، و الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء من طرف ترمب في 10 دجنبر من نفس السنة، بالإضافة لمتغير افتتاح القنصليات في الأقاليم الجنوبية المغربية.
سنة 2018 ..حملة الإقالات في صفوف جنرالات الجيش بالجزائر
صيف ساخن عاشته الجزائر سنة 2018، حيث توالت موجة الإقالات بشكل أثار العديد من علامات الاستفهام والتساؤلات، لا سيما أن "الإسهال الحاد" في هذه الإقالات شمل مراكز حساسة في الدولة، فمنذ ما يعرف ب"فضيحة الكوكايين"، التي أدت إلى الإطاحة بمسؤولين كبار في الدرك والأمن، مثل الجنرال عبد الغني الهامل، المدير العام السابق للأمن لوطني، فإن مسلسل الإقالات استمر، حيث تمت إقالة قائدي الناحيتين العسكريتين، الأولى والثانية، منتصف شهر غشت من تلك السنة.
كما شملت الإقالات مدير أمن الجيش محمد تيرش، المعروف ب "لخضر"، وهو الرجل الرابع في هرمية مؤسسة الجيش، والمراقب العام للجيش اللواء بومدين بن عتو. وقد أعلن عن إقالتهما يوم الأربعاء 22 غشت 2018، وبررت وزارة الدفاع الجزائرية هذه الإقالات بإعادة هيكلة وتحديث وتشبيب المؤسسة العسكرية.
مسلسل الاقالات في تلك الفترة، كان بمثابة عنوان عريض لمرحلة امتدت طيلة فترة مرض الرئيس بوتفليقة، وكانت جل تحركات ومناورات مؤسسة الجيش، تؤشر على عدم توافق وعجز القوى السياسية عن إيجاد مخرج سياسي ودستوري للأزمة غير المعلنة في الجزائر، بغية تجاوز وضعية الفراغ على مستوى السلطة أنذاك.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن تاريخ الجزائر المعاصر لا يخلو من تدخل سافر للمؤسسة العسكرية والأمنية في اختيار الرؤساء، بالرغم من اعتماد انتخابات شكلية تلعب فيها الأحزاب دور الكومبارس في مسرحية محسومة مسبقا، مثلما حدث سنة 1979 عند اختيار الشاذلي بن جديد، ثم في 1992 مع محمد بوضياف، و1993 مع اليمين زروال، وأخيرًا في 1999 مع عبد العزيز بوتفليقة.
لذلك، فموجة الإقالات خلال هذه المرحلة لم تكن إلا مجرد محاولة استباقية لترتيب البيت الداخلي، والاستعداد للانتخابات الرئاسية لسنة 2019، حيث كانت المؤسسة العسكرية في ظل "فراغ كرسي الرئاسة" تصارع الزمن من أجل تقوية وتحصين نفسها من الارتدادات، التي كان من المحتمل أن تقع في حالة فشل المرحلة الانتقالية – ما بعد بوتفليقة- من خلال احتواء قيادات جديدة وإبعاد مختلف القيادات المرتبطة بعهدة الرئيس الحالي.
وبالتالي، فقد أجمعت كل القراءات على أن هذه الإقالات ما هي خطوة استباقية لشرعنة وتقوية الدور المحتمل للجيش في انتقال السلطة، لا سيما أن استقدام وتحمل المسؤولية من طرف وجوه جديدة يمكن أن يؤجل أو يحول دون وقوع اصطدام مباشر بين المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية في المستقبل من جهة، أو مع الشعب من جهة أخرى.
إذ كان الرهان في تلك المرحلة يتمثل أساسا في مدى قدرة المؤسسة العسكرية على تدبير مرحلة ما بعد بوتفليقة، باعتبار أن هذا الجهاز هو الذي يدير فعليا البلاد منذ الاستقلال إلى اليوم.
سنة 2019.. التفاف الجيش وضغط الشارع
الجزائر ما بعد بوتفليقة هو العنوان الأبرز لسنة 2019، فبعد استقالة الرئيس[7] بضغط من الشارع ورئيس الأركان الجزائري الرحل القايد صالح، عاشت الجارة الشرقية على إيقاع مخاض عسير، من تجلياته دخول البلاد في مرحلة انتقالية تعتبر الأصعب والأعقد في تاريخها.
اللافت في الحراك الشعبي الجزائري أنه أربك حسابات قيادة الجيش ومن يدور في فلكها في دوائر السلطة بالجزائر، خاصة أن الجيش كان يراهن على عاملين أساسين لإدارة البلاد بكل أريحية في المرحلة المقبلة؛ الأول عقدة "الخوف لدى الشعب" من تكرار سيناريو عشرية الدم، والثاني محاولة شراء السلم الاجتماعي وصمت واستكانة الشعب الجزائري بسبب الدعم الموجه إلى المجال الاجتماعي. لكن خروج مختلف شرائح المجتمع إلى الشارع بطريقة عفوية وسلمية دفع بالجيش إلى الخروج إلى واجهة الأحداث (خطابات القايد صالح الاسبوعية) ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي تارة بالوعيد وتارة أخرى بترويج خطاب المؤامرة.
خطوات عدة تم الاعلان عنها لاحتواء الوضع، إعلان المجلس الدستوري سنة 2019 [8] عن شغور منصب الرئيس، فتح المجال أمام مجموعة من الخيارات الدستورية والسياسية؛ فعلى المستوى الأول، الدستوري[9]، خيار تطبيق المادة 102[10]، رفض من طرف الحراك الشعبي، بحكم أن اللجوء إلى هذه المادة ليس مطلبا شعبيا ولا يتناسب والمطالب المرفوعة في الشارع، بالمقابل، فإن تفعيل وتطبيق المادة 7 و8 من الدستور، بالإضافة إلى تغيير النظام بشكل جذري، تعتبر أهم المطالب التي كان ولا يزال يتبناها أنصار الحراك الجماهيري.
أما على المستوى السياسي فالخيارات المطروحة كانت بدورها محدودة ومتجاوزة من طرف الشارع الذي رفع السقف عاليا، لاسيما أن النخب السياسية التي تفرض نفسها أو التي يحاول الجيش فرضها على الحراك الشعبي ينتمي معظمها إلى حزب جبهة التحرير، الذي بات ينظر إليه في الأواسط الشعبية على أنه المسؤول عن الوضع المتردي الذي وصلت إليه الجزائر، كما بات ينعت بأنه "الأداة الطيعة" في يد الجيش، التي جرى توظيفها لشرعنة وتقوية نفوذه في الحياة السياسية والاقتصادية.
أحزاب أخرى كانت بالأمس القريب محسوبة على التحالف الرئاسي، مثل التجمع الوطني الديمقراطي (حزب الوزير الأول السابق أو يحيى)، حاولت أن تخلي ذمتها ومسؤليتها من العهد السابق، لكن الرأي العام الجزائري تفطن إلى كل المناورات وتعامل مع هذه النخب والأحزاب بتوجس كبير.
سنة 2019 كانت الأوضاع تبدو على أنها قاتمة، لكن، فجأة أضاء الحراك الشعبي السلمي الحضاري سماء بلد المليون شهيد، إذ غدت الجزائر مع الحراك كالمصباح المنطفئ الذي ينتظر من يشغله ليضيء سماء المغرب الكبير، بعدما عاشت وأرغمت شعوب المنطقة لسنوات عجاف على القبول بواقع مرير عنوانه القطيعة (غلق الحدود) والتوتر والصراع.
كل المؤشرات والمعطيات خلال هذه السنة كانت تنذر وتؤشر في نفس الوقت على أن الجزائر مقبلة على تحديات ورهانات عديدة، من المتوقع حسب مسار الأحداث أن تتجه نحو منعطفين: الأول أن تدخل الجارة الشرقية إلى مرحلة "الجمهورية الثانية"، وأن تعيش تحولا ديمقراطيا يتم عبره ومن خلاله، نقل السلطة من العسكريين إلى المدنيين. أما المنعطف الثاني فهو الالتفاف على الحراك وإعادة إنتاج نفس النظام والعودة إلى نقطة الصفر.
بين الخيارين، فكل المؤشرات كانت ترجح فرضية أن رياح التغيير في الجزائر ليست مجرد سحابة صيف عابرة رغم التكهنات والمحاذير. وكيفما كانت المخرجات والنتائج بالنسبة حتى للمتشائمين، فهذا الحراك مجرد بداية لبروز نزعة جديدة، نزعة تؤكد أن إرادة الشعوب في الدول المغاربية باتت تفرض نفسها في ثالوث السلطة والثروة والديمقراطية..
المغرب والجزائر .. الجوار الصعب
ثمة أشياء عصية على الفهم والاستيعاب بشأن علاقة الجارين المغرب والجزائر، حكم الجغرافيا وروابط وأواصر الأخوة بين الشعبين ثقافيا ودينيا، وتقاليد ولغة وعادات ومصير مشترك كلها روابط، لم تشفع لطي صفحة الماضي، إذ اصطدمت بصخرة السياسة وحسابات وتعقيدات الماضي البعيد، وحطمت معها أحلام وتطلعات أجيال المنطقة بأكملها، فما إن تطفو على السطح بوادر الإفراج والتقارب، حتى يظهر ما يجعل العلاقة العادية والطبيعة بين البلدين تبدو وكأنها بعيدة المنال أو مجرد أضغاث أحلام.
سقط جدار برلين وتوحدت ألمانيا، تجاوزت أوروبا رواسب الحربين العالميتين الأولى والثانية وما خلفتهما من مآسي ودمار وملايين الضحايا، وتوحدت اقتصاديا وسياسيا ولم تعد الحدود التقليدية في ما بين دولها تشكل أساسيات جغرافيا الدولة، إذا صارت لغة المصالح وتبادل المنافع الاقتصادية والمالية ورفاهية المواطن الأوروبي محددا أساسيا في رسم السياسات، مقابل ذلك، على الضفة الأخرى، بدا الاندماج المغاربي عصيا ومؤجلا، بل صار من أكثر الرهانات تعقيدا في إفريقيا.
لكن، من سخرية القدر أنه في الوقت الذي أعلنت فيه دول المغرب الكبير عن إنشاء تكتل إقليمي تمثل في الاتحاد المغاربي في مراكش سنة 1989[11]، كانت دول القارة الإفريقية غارقة في الحروب والمجاعة والاقتتال الداخلي خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. أما اليوم، فالصورة معكوسة بل أريد لها بفعل فاعل أن تكون مقبولة ومستنسخة بشكل تراجيدي لم يكن في الحسبان. تكتلات اقتصادية هناك مقابل انقسام وصراع واشتباك وتفكك بعض الدول كليبيا هنا بالمغرب الكبير، تنمية وازدهار ومعدلات نمو كبيرة هناك، مقابل، اقتصاديات هشة وضعيفة وسياسات تقويمية وهيكلية يمليها ويمولها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
تبدو الصورة مشوهة وسوداوية في الرقعة المغاربية، إذا ما استحضر المرء بقليل من الموضوعية ما يعتمل على الساحة الإفريقية، فالاقتصاد الإثيوبي في مصاف الاقتصادات الأسرع نموا بالعالم[12]، ويُعد من ناحية أخرى الأسرع نموا على مستوى القارة الإفريقية حسب صندوق النقد الدولي. ولا داعي للحديث عن نيجريا وروندا وغيرها من الدول الإفريقية التي تشق طريقها بثبات نحو التقدم والازدهار.
أما التكتلات الإقليمية والاقتصادية، فتلك حكاية أخرى، إذ بات النموذج المغاربي مثالا للفشل والجمود، بل للسخرية والشفقة في آن واحد. حيث ستضطر دول هذه المنطقة إلى الذهاب فرادى لاستجداء والتماس الانضمام إلى تجمعات إفريقية إقليمية لا تزال تنظر بتوجس وتردد إلى نظم شمال إفريقيا. وما عدم الموافقة على انضمام المغرب إلى "إكواس" المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، رغم مرور ثلاث سنوات من وضع الطلب، إلا خير دليل على عديد أشياء.
لا يختلف اثنان على أن قضية الصحراء هي جوهر المشكل بين المغرب والجزائر، وأن الصراع حول هذا الملف أخد أبعادا عسكرية وسياسية وديبلوماسية، وأثر وأضعف الدوليتين جيوسياسيا وأنهكهما اقتصاديا وماليا، دون الحديث عن التكلفة الباهظة جراء فشل وغياب الاندماج المغاربي، والذي يدفع ثمنه غاليا شعوب المنطقة. واقع مغاربي عنوانه التمزق والتردي، لا تسعف ولا تساعد نظريات الاندماج السياسية والاقتصادية على فهمه ومحاولة تجاوزه، إذ يظل حالة فريدة في العالم.
تاريخ ومسار منطقة المغرب الكبير، يمكن اختزاله في الفرص الضائعة، فرصة أخرى سجلت ضمن خانة "الضائعة" مع انتخاب رئيس جديد للجزائر بطريقة لا يمكن القول إنها ديمقراطية على كل حال في ظل حراك شعبي من المؤكد أنه لن تخمده مناورات الجيش، لكن، سيبدو من السابق لأوانه الإقرار بضياع-الفرصة- والحراك لا يزال قائما بشعاراته وشبابه وشيوخه..
سيقطع هذا الرئيس الجديد – لنظام قديم-، الشك باليقين، يوم الخميس 19 دجنبر 2019 وخلال حفل تنصيبه أمام البرلمان، وهو يرد على دعوة الملك بطي صفحة الماضي من خلال رسالة التهنئة، بطريقة لا تخلو من استفزاز وتصعيد، عندما أعلن على أن قضية الصحراء هي قضية "تصفية استعمار" أمام تصفيقات حارة لنخب برلمانية – تصف حتى من أبناء الجزائر- بأنها خانعة ومسلوبة الإرادة ولا تستطيع أن تجهر بمواقف مغايرة أو تغرد خارج سرب الجيش.
سيكون من العبث أو السذاجة الاعتقاد أو تصديق أنه من الصدف تزامن خطاب تنصيب "الرئيس الجديد" مع المؤتمر 15 لجبهة البوليساريو، وأن من الصدفة كذلك، أن ينهل في خطابه من نفس قاموس ومفردات الجيش في ما يخص النزاع حول الوحدة الترابية للمملكة. وليس من الصدف مرة أخرى، أن تترك خارجية الخارجية كل التزاماتها وانشغالاتها لتعلن يوم التنصيب عبر بلاغ[13] أن "افتتاح جمهورية القمر قنصلية بمدينة العيون انتهاك صارخ للقانون الدولي".
بكل تأكيد ليست صدف، فمن المؤكد، أن الجيش خطط بشكل جيد ووضع أجندة التنصيب ضمن ثنائية الاستناد والدعم لقيادة البوليساريو خلال هذا المؤتمر، لاسيما وأن كافة المؤشرات كانت تصب في اتجاه انفلات وانفجار هذا المؤتمر الذي يأتي في سياق خاص.
الرئيس الجديد بدا بهذه الخرجات وكأنه يزايد أو يحاكي الجيش في عقيدته العدائية للمغرب، عندما استعمل مفردات استفزازية لم يكن من المناسب ولا من اللائق دبلوماسيا ولا برتوكوليا أن يوظفها في خطاب التنصيب. ظنا منه أن الولاء ونيل رضا الجيش الجزائري يمر عبر استعداء المملكة المغربية، لاسيما وأنه من أبناء النظام الذين دعموا العهدة الخامسة لبوتفليقة، وتقلد مناصب حكومية عدة قبل أن يرمي به خارجا وبطريقة مهينة شقيق الرئيس السابق السعيد بوتفليقة.
المغرب بدوره استشعر أنه لا جديد في الأفق ولا شيء تغير عند الجارة الشرقية، وألتقط الإشارات والرسائل السلبية التي بعثها هذا الرئيس خلال حملته الانتخابية وبعد تنصيبه، وهو ما جعله يفطن إلى فشل المراهنة على سياسة اليد الممدودة تجاه نظام خاضع لعقيدة عسكرية عدائية يصر على السير ضد ركب المستقبل والمصالح.
لكن، ثمة معطيات على الأرض، تجعل من المخرجات الانتخابية التي راهن عليها الجيش لإخماد حراك الشارع، مجرد مسكنات ظرفية سرعان ما تفقد تأثيرها وتعود الأمور إلى نقطة الصفر. لاسيما وأن سقف مطالب الحراك الشعبي خاصة شعار" اتنحاو كاع" لم يكن مطلبا طوباويا أو شوفينيا، بقدر ما أنه مطلب جوهري وضروري لتحقيق التغيير المنشود، بحيث يضع نخب الجيش والسياسة في سلة واحدة.
في المجمل، لا يمكن التكهن بكافة السيناريوهات والمسارات والمآلات داخل الجارة الشرقية، هي أشواط ومباريات لا تزال تخاض بحسب الوسائل والإمكانات، وإن كان الشوط الأول، حسم لصالح الحراك الشعبي، بعدما خلع بوتفليقة وفشل سيناريو الولاية الخامسة، إلا أن الشوط الثاني، حسم لصالح الجيش، حيث تمكن الجنرال الراحل القايد صالح من إجراء انتخابات–مشكوك في شفافيتها ونسبة مشاركتها، ومكنته من استقدام أحد رجالات نظامه العسكري، عبد المجيد تبون...
لكن الجزائر اليوم على وقع الشوط الثالث والحاسم، إذ باتت المواجهة مفتوحة بين الشارع والجيش، ومن سيحسم هذا الشوط سيقول كلمته الأخيرة، إما إعادة إنتاج نظام الجيش أكثر قوة من السابق، أو بناء الجمهورية الجزائرية الثانية بأسس ومقومات مدنية.
مسوغات عدة حاول الجيش توظيفها لإخماد الحراك، النظام وشرعية الرئيس الجديد، اقتصاد ووحدة البلاد، إذ حاول من خلالها تقسيم الشارع واللجوء إلى العنف المادي والرمزي موظفا الأجهزة القمعية والإعلامية لإخماد وشيطنة الحراك، لكن استمرار الشعب الجزائري في حراكه السلمي والحرص على السلمية ومحاولة إفراز قيادة تتحدث باسم الحراك ربما سيقلب المعادلة في المستقبل.
سنة2020 ..الجزائر ومأزق "الكركرات" وتداعيات الاعتراف الامريكي بمغربية الصحراء
إن تدخل الجيش الملكي المغربي فجر الجمعة 13 نونبر 2020 لتأمين معبر الكركارات بشكل نهائي، شكل نقطة تحول نوعية في مسار النزاع حول الصحراء؛ إذ أنهى هذا التدخل سلسلة من الاستفزازات والممارسات التي اتسمت بالعداء والتصعيد، وطوى بشكل نهائي أطروحة "الأراضي المحررة" على مستوى هذا المعبر، مما أكسب المغرب مساحات ميدانية لم يكن ممكننا تحقيقها بالاعتماد على الاشتباك الدبلوماسي. هذا التحول الميداني من المحتمل أن ينعكس على سقف ومحددات مسار التسوية الأممي.
ثمة مؤشرات تؤكد أن خيار التدخل العسكري المغربي وإن كان بخلفية غير قتالية أو هجومية لم يكن مطروحا على أجندة المملكة التي راهنت منذ بداية المسار السياسي على الدبلوماسية الناعمة، لكن سوف يصبح هذا الخيار مطروحا بقوة عندما ظهرت بوادر على الأرض تروم خلق واقع جديد، ومحاولة عزل المغرب عن محيطه الإقليمي والقاري.
إن قيام المملكة المغربية بإنشاء حزام أمني يطوق الحدود مع موريتانيا بقدر ما يخدم الأمن القومي المغربي، هو يؤشر على بداية مرحلة جديدة فيما يتعلق بمحددات وقواعد إدارة النزاع دبلوماسيا وميدانيا، سواء على مستوى مسار التسوية الأممية، أو على مستوى الاشتباك الدبلوماسي أوروبيا وقاريا وإقليميا، أو فيما يتعلق بتعقيدات الجغرافيا ومستقبل اتفاقية وقف إطلاق النار.
ليس من المبالغة القول، أو الإقرار ولو بشكل مجازي بأن محاذير وتعقيدات الجغرافيا لم تنصف المغرب؛ إذ لم يكن الحظ في صالحه على الإطلاق وهو يواجه قدرا لم تنفع معه كل المحاولات، فما إن تظهر بوادر الانفراج عند الجارة الشرقية حتى تعود الأمور إلى نقطة الصفر، حراك سلمي شعبي استمر لمدة سنة وهو يطالب بدولة مدنية لم تنفع معه مناورات الجيش وظل عصيا على التطويع، مما جعل البعض يعتقد بحماسة مفرطة أن عهد العسكر قد ولى بغير رجعة، لكن فجأة ظهرت جائحة "كوفيد-19" التي تكلفت نسبيا بإخماد وإن بشكل مؤقت.
صعود رئيس جديد سرعان ما انتهى به الأمر مثل الرئيس السابق، إذ عادة ما ينتهي المشهد بالرئيس في ألمانيا في رحلة البحث عن الاستشفاء، لكن لا أحد يستطيع التنبؤ بعودته أم لا، لكنه يظل الرئيس الذي يحكم من هناك أو فوق الكرسي المتحرك أو سرير المرض، بحسب وسائل الإعلام، هو مشهد سوريالي يتكرر دون وجود أجوبة أولية قد تساعد على فهم "نسق قائم" أريد له أن يكون "دولة الجيش" عوض أن يكون جيش الدولة.
لقد اعتاد النظام العسكري الجزائري على اللجوء إلى منطق الاستفزاز كلما أحس بأن ملف الصحراء يتجه نحو الجمود والنسيان على المستوى الدولي؛ إذ يتم الزج بالصحراويين في كل مرة في مغامرات غير محسوبة، تارة باستعراض القوة في المناطق العازلة، وتارة أخرى من خلال الدفع بالبعض منهم لعرقلة حركية المرور مثل ما حدث على مستوى معبر الكركارات.
لا يختلف اثنان على أن المشهد يبدو ضبابيا داخل الجزائر، اقتتال وصراع داخل مراكز السلطة، جنرالات يحكمون اليوم بقبضة من حديد، لكنهم في اليوم الموالي من غير المستبعد أن يجدوا أنفسهم داخل السجون، فلا شيء يسود غير منطق القوة داخل رقعة السلطة والنفوذ؛ إذ تحولت "جماعة الجيش" إلى طوائف تتصارع حول السلطة بطريقة تكاد تكون متكررة ومفتوحة، فبعد دخول جماعة الجنرال توفيق إلى السجن، لم يكد قبر الجنرال القوي في عهد بوتفليقة قايد صالح يجف حتى تم إدخال ذراعه الأيمن وعلبته السوداء الجنرال بوعزة واسيني إلى السجن، بل وصل الأمر إلى التنكيل به وتعذبيه بطريقة وحشية، بحسب الشهادات التي تأتي تباعا من الجار.
وضع داخلي يعقد مهمة المغرب في إيجاد محاور جدي أو أطراف جزائرية على الأقل يمكن أن تتحمل مسؤولية القرارات التي يجري التحضير لها في كل مرة، تصرفات طائشة لها ارتدادات على الداخل والخارج، وقرارات وسياسات لا يرى فيها النظام العسكري سوى أداة لتصريف أزمة داخلية تنذر بعودة الحراك الشبابي، أو لحل "عقدة المراركة"، بحسب المخيال الثقافي والنفسي الذي بات يشكل عقيدة بائدة ومتجاوزة ترتبط برواسب الماضي والحرب الباردة.
إن توظيف ورقة البوليساريو لتقزيم ولإضعاف المغرب من طرف قيادات الجيش الجزائري، باتت رهانا خاسرا، وتحولت هذه الورقة مع مرور ما يقارب أربعة عقود ونصف إلى عبئ ثقيل على مالية الجزائر، كما أنهكت دبلوماسيتها بعدما أفقدتها حلفاء أساسيين، وما الاصطفاف العربي الأخير مع المغرب إلا الجزء الظاهر الذي يؤشر على عزلة دولية غير مسبوقة.
هذا بالإضافة إلى أن المخيمات في تندوف أصبحت بمثابة عود الثقاب الذي قد ينفجر في أي لحظة، لا سيما في ظل انحسار وتآكل أطروحة الانفصال على الصعيد الدولي والأممي.
وضع مضطرب ومقلق، وربما يستدعي، بحسب عقلية الماسكين بالسلطة في الجزائر، تجريب كافة الوصفات والاستفزازات التي من الممكن أن تساعد على تصريف الأزمة الداخلية من جهة، وحلحلة الملف وتعيين مبعوث أممي جديد من جهة أخرى، وإن اقتضى الأمر جر المملكة جرا إلى ساحة الحرب.
انسداد مسار التسوية الأممية.. وتنائية اللاحرب واللاسلم
رغم انخراط الأطراف في مسار التسوية الأممي في الصحراء، إلا أن استعراض القوة في كل مناسبة في منطقة تفاريتي وغيرها من المناطق العازلة التي تسميها بروباكاندا البوليساريو ب"المناطق المحررة"، كان جزء من الإستراتيجية التي تعتمدها الجزائر لامتصاص الاحتقان داخل المخيمات، ولخلق اصطفاف داخلي مصطنع غايته إطالة أمد النزاع.
على امتداد قود من الزمن، ظلت الجبهة حبيسة الأطروحة الانفصالية وفق الأسس والمرتكزات الدعائية البومدينية البائدة، حيث عملت طوال هذه الفترة على إعادة إنتاج المقولات والشعارات نفسها التي ارتبطت بالحرب الباردة، إذ رغم سقوط جدار برلين، وبروز تحولات وتغيرات عالمية كبرى، إلا أن نسماتها لم تكن لتصل إلى المخيمات بفعل سطوة الجيش الجزائري.
إن عدم انسياق المملكة وراء هذه الاستفزازات ونزوعها إلى ضبط النفس وعدم الانجرار والتسرع في اتخاذ ردود فعل غير مدروسة، وإن كان الأمر يرتبط بوجود مسوغات موضوعية وتكتيكية صرفة، والتجاهل في بعض الأحيان والتركيز على المعالجة الدبلوماسية، ضيع على الجزائر فرصة استدراج المغرب إلى المواجهة المباشرة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق مجموعة من المكاسب النفسية والاستراتيجية.
لكن عرقلة معبر الكركارات الذي يعتبر شريان المملكة ومنفذها الوحيد تجاه عمقها الإفريقي لما يزيد عن ثلاثة أسابيع، لم يكن مكننا التغاضي عنه، لا سيما وأن انقسام مجلس الأمن وتراجع بعض القوى المؤثرة في الساحة الدولية دفع بخصوم المغرب إلى السعي إلى تغيير معالم المنطقة العازلة، خاصة على مستوى مناطق الكركارات وبئر لحلو وتفاريتي.
إن تدخل الجيش الملكي وتأمين الحدود المغربية الموريتانية بشكل كامل، يعتبر فرصة مواتية للمغرب لمراجعة مسار التسوية الأممي ولفرض سيادته كاملة على إقليم لكويرة وإعادة إعماره؛ إذ باتت الاتفاقيات العسكرية متجاوزة ومناقضة للواقع الميداني، رغم تشبث المملكة باتفاقية وقف إطلاق النار، بحسب ما ورد في بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم 16 نونبر 2020 إثر المكالمة الهاتفية بين الملك محمد السادس والأمين العام للأمم المتحدة.
حاليا وفي ظل الظروف الراهنة، من الواضح أن الجغرافيا السياسية والتحولات الجيوسياسية في صالح المغرب، إذ أن الظروف، الأوضاع والبيئة التي ساهمت في بروز واستمرار جبهة البوليساريو تغيرت وتختلف كليا في الوقت الراهن، لا سيما وأن الأدبيات والقواعد والمبادئ التي حكمت النظام الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ودخول العالم مرحلة القطبية الأحادية لم تعد قائمة في ظل بروز عالم جديد متعدد الأقطاب وإن كان في طور التشكل.
تحولات قانونية وميدانية أفرزها التدخل العسكري المغربي في معبر الكركارات، قد لا تتناسب وتتناقض ولا تنسجم مع اتفاقية وقف إطلاق النار التي وقعها المغرب سنة 1991، مما يستدعي إيجاد بدائل ومقترحات جديدة ومسوغات قانونية ترافعية تراعي هذه التحولات بالشكل الذي يتناسب مع الواقع ويساير تعقيدات الساحة الدولية.
خلال هذه المرحلة وغم تعقيداتها، كانت الرباط تدرك أنها مقبلة على خوض معركة دبلوماسية وفق أسس ومقاربات جديدة لتثبيت الوضع الميداني على المستوى الدولي والأممي، وهو المكسب الذي يتطلب استنفار جميع الإمكانات والدعامات الدبلوماسية الناعمة والصلبة، قبل أن تجد المملكة نفسها في مواجهة مجلس الأمن على غرار ما وقع سنة 2017 عندما اضطرت لسحب الجنود من الكركارات.
أما سيناريو الحرب الذي أعلنته البوليساريو عبر دعايتها الإعلامية منذ تحرير معبر الكركرات وتوالي البلاغات المنسوبة لمليشياتها، فمن المكمن أن تنفلت الأمور وأن تتطور إلى مواجهة مباشرة بين المغرب والجزائر، وهو خيار يظل قائما، خاصة في ظل صمت القوى الكبرى في ظل سياقات معقدة وفوضى عالمية غير معلنة تشكل مخاض بروز نظام عالمي جديد، حيث إذا ما أصرت قيادة الجيش الجزائري على الدفع بمليشيات البوليساريو إلى التصعيد واستعمال أسلحة ثقيلة وفتح جبهات عدائية على طول الجدار الدفاعي، فالمغرب قد يكون مضطرا لاعتماد تكتيكات ميدانية برية وجوية متقدمة تتجاوز الجدار، مما قد يؤدي إلى وقوع تصادم واشتباك مع القوات الجزائرية. هذا السيناريو رغم تكلفته الإنسانية والاقتصادية، من شأنه أن يعطل مسار التنمية في المنطقة المغاربية ويدخل المنطقة إلى المجهول.
لعنة الجوار" .. لماذا يوظف الجيش الجزائري الاعلام والدعاية ضد المغرب ؟
أسهم الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء من طرف الرئيس السابق ترامب، وما استتبعه من عودة استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل، في ارتفاع منسوب العداء والتوتر لدى الجارة الشرقية، حيث قامت وسائل الإعلام التابعة للجيش بشن حملة إعلامية غير مسبوقة وصلت إلى حد " التهكم والإساءة " إلى ملك المغرب في بعض البرامج التلفزيونية على قناة الشروق، وهو ما أثار موجة من الاستنكار والتنديد لدى المغاربة.
لكن كيف يمكن فهم وقراءة "السقطة المدوية" لإعلام الجيش الجزائري، الذي انحدر إلى مستويات غير أخلاقية في خرجاته الدعائية، عندما أساء إلى أحد أهم رموز المغاربة، وهو رئيس الدولة الملك محمد السادس؟ هل من خلال التحولات الإقليمية والدولية، أم من خلال الوضع الداخلي الصعب اقتصاديا والفاتر سياسيا، مما ينذر بعودة الحراك الشبابي، أم من خلال الصراع داخل مربع السلطة، أم لا يغدو الأمر أن يكون مجرد ردة فعل هستيرية/ انفعالية تجاه بسط السيادة المغربية على معبر الكركرات ومغربة الحدود مع موريتانيا، بالإضافة إلى الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وما يستتبع ذلك من تحولات جيوسياسية واقتصادية تنضاف إلى التمدد المغربي الذي بات يلوح في الأفق نحو غرب إفريقيا عبر أنبوب الغاز النيجيري؟
بطبيعة الحال، المغرب غير مسؤول عن سياسات واختيارات نظام عسكري أسير الماضي، سياسات ارتبطت بشكل ما بحسابات وتوازنات الحرب الباردة، حيث أفضت تلك الخيارات في مجملها إلى عزل الجزائر عن محيطها، ودخولها حالة انكفاء غير مسبوقة، بالإضافة إلى وضع داخلي معقد يزداد مع الوقت تعقيدا، نتيجة ارتهانه إلى عقيدة عسكرية لا تفكر ولا تتحرك إلا بمنطق العداوة والحرب بشتى أصنافها، مما جعل مقدرات وموارد الجارة الشرقية بمثابة "غنيمة حرب" في أيدي اللوبيات الأمريكية والأوربية والإفريقية عوض أن تصرف على الشعب الجزائري.
كما لا يمكن لعاقل أن يصدق أو أن يفهم ويتفهم حجم الموارد والأرقام الفلكية التي صرفت، ولا تزال تصرف إلى يومنا هذا، على اللوبيات الأمريكية بغرض سحب الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء. ولم يتوقف "السخاء العسكري" عند هذا الحد، بل وصل إلى درجات يصعب تصديقها واستيعابها، إذ لا تزال بعض الدول الإفريقية ترهن دعمها للطرح الانفصالي بحصولها على امتيازات وعمولات تحت الطاولة، بعكس منهج التكامل الاقتصادي ومنطق رابح/ رابح، اللذين انتهجهما المغرب في سياساته تجاه أفريقيا.
من جهة أخرى، لا يمكن تبرير وقبول مثل هذه "السقطات الإعلامية" وإن غلفت بمنطق التنافس الإقليمي، لاسيما أن الهجوم الإعلامي لمنابر تابعة للسلطة في الجزائر على المغرب بلغ حد "التخمة" منذ الاعتراف الأمريكي، إذ لا تخلو قصاصات وكالة الأنباء الجزائرية، وبعض المنابر، مثل "الخبر" و"الشروق"، من نشر أخبار زائفة، ومقالات تحريضية وعدائية، وعناوين مستفزة، بشكل يكاد يكون يوميا وممنهجا.
من المهم الإقرار في هذا الصدد بأنه منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء وعودة العلاقات مع إسرائيل، عملت وسائل الإعلام، التي تدور في فلك السلطة بالجزائر، على شن حملة منظمة للنيل من رمزية ومشروعية المؤسسة الملكية ومحاولة شيطنتها، موظفة في ذلك خطابا دعائيا تحريضيا، خطابا ينهل من قاموس شوفيني- استهلك خلال ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي- محاولا أن يجعل من فلسطين مطية وأداة لتصريف المواقف والسياسات العدائية. بل وصل الأمر إلى درجة توظيف المساجد ضد الجار المغربي.
غير أن الحديث عن التطبيع ومحاولة استغلاله بشكل سياسي من طرف إعلام الجيش، سرعان ما يصير أكثر وقارا وحشمة عند الحديث عن "التطبيع الإماراتي"، لاسيما أن أموال الجنرالات المتنفذين واستثماراتهم موجودة في الإمارات وبنوكها حسب شهادات معارضين جزائريين.
لماذا يوظف الإعلام بهذه الطريقة في هذا التوقيت؟ وما الغاية من هذه الحملة الدعائية؟ ومن المستفيد حقيقة من هذا الخطاب والسياسات العدائية التي أخذت أشكالا غير مسبوقة؟ تساؤلات من شأنها أن تساعد على فهم الرسائل وتحديد المرسل والمرسل إليه (المتلقي). إذ من الخطأ الاعتقاد أو اختزال تلك الممارسات في محاولة الاستفزاز فقط، بل يتعدى الأمر ذلك لما هو أخطر وأعقد.
إن ربط الأحداث واستحضار كافة التحولات انطلاقا من الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وتفكيك محتوى الخطاب الدعائي الموجه من طرف جنرالات الجزائر في الشهور الأخيرة، يؤشر على وجود ثلاث خلفيات ربما ساهمت في رسم سياسات وتوجهات حكام الجارة الشرقية.
أولا، محاولة قادة الجيش تعبئة الشعب الجزائري ضد المغرب، ليس بغرض تصدير الأزمة الداخلية فقط، بل محاولة خلق اصطفاف داخلي مصطنع حول قضية الصحراء، إذ بعد تلاشي وتراجع وسقوط بعض الدعامات والمعاقل الدولية والإقليمية، التي كانت تناصر الطرح الانفصالي، لم يجد حكام الجارة الشرقية من مخرج سوى محاولة إيجاد "حاضنة شعبية" جزائرية مفتقدة لتحقيق مجموعة من الأهداف، بغية خلق رأي عام مناصر لعقيدة الجيش، وفي نفس الوقت محاصرة وقمع الأصوات الحرة المنتقدة لهذا التوجه الداعم لأطروحة انفصال الصحراء، ومحاولة استباق الأحداث وتجنب أي محاسبة تلوح في المستقبل بسبب التكلفة الباهظة جراء احتضان حركة انفصالية طيلة ما يقارب أربعة عقود، بالإضافة إلى الأوضاع داخل مخيمات تندوف التي تنذر بالانفجار في ظل انحسار أطروحة الانفصال.
ثانيا، سياسة الأمر الواقع، وتحديد الأجندة من طرف الجيش، إذ ليس من المصادفة أن تتزامن عودة الرئيس الجزائري تبون من ألمانيا بعد رحلة استشفاء مع استفزاز قناة "الشروق" المسيء إلى رموز الأمة المغربية، وهي محاولة لخلط الأوراق وحصر الرئيس في الزاوية، إذ كان من المتوقع أن تحدث بعض التحولات رغم محدوديتها بعد عودته، لاسيما في ميزان القوى داخل رقعة السلطة، إذ شكل غيابه فرصة لتقوية جناح رئيس الأركان الجنرال شنقريحة مقابل إضعاف الأجنحة الأخرى.
كما يبدو المشهد ضبابيا، لاسيما بعد عودة وزير الدفاع الأسبق خالد نزار إلى الجزائر، رغم الحكم الصادر في حقه لمدة عشرين سنة، حيث جرت ترتيبات عودته من إسبانيا وإلغاء قرار توقيفه في غياب الرئيس، بغية تقوية أهم الأجنحة المتصارعة حول السلطة، وهو جناح شنقريحة.
ثالثا، لمسة وتأثير جنرالات العشرية السوداء (الجنرالان توفيق ونزار) حاضران في الهجوم الإعلامي العدائي على المملكة، إذ يمكن ربط عودتهما إلى مربع السلطة بمحددين أساسيين: الصراع داخل مراكز السلطة، والعداء للمملكة المغربية، وهو ما يؤشر على أن التموقع داخل مراكز النفوذ والقيادة في الجزائر بات مقترنا بثنائية "الولاء والعداء"، الولاء لقادة الجيش والعداء للمغرب، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للتنافس في "بورصة العداء" هاته، عوض التنافس لإيجاد حلول للمشاكل التي يعاني منها الشعب الجزائري.
وختاما، يبدو أن العلاقات بين الجارين تجاوزت مرحلة "البرود المزمن"، ودخلت مرحلة القلق والحذر، إذ باتت مفتوحة على كافة السيناريوهات، لاسيما أن العداء في هذه المرحلة تخطى مرحلة دعم "ميليشيات مسلحة" لا تتردد في مهاجمة وتهديد واستفزاز الجيش الملكي لتحتمي بعد ذلك داخل الأراضي الجزائرية، إلى مرحلة عنوانها التوتر والتصعيد، حيث يحاول النظام العسكري الجزائري تجريب كافة الوصفات -رغم خطورتها وإمكانية انفلاتها- لدفع المغرب إلى التراجع والعودة إلى ما قبل 13 نونبر، وإثارة انتباه المنتظم الدولي إلى النزاع حول الصحراء المغربية قبل أن ينفجر فتيل البوليساريو في وجه جنرالات الجارة الشرقية.
[1] – الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي جرت في 12 ديسمبر 2019.
[2] – الذي انطلق بتاريخ 22 فبراير 2019.
[3] – بلغت نسبة المشاركة 39.8%.
[4] – أجريت الانتخابات الرئاسية الجزائرية في التاريخ الموافق ل الجمعة 12 ديسمبر 2019. حيث شغر عبد المجيد تبون في السابق منصب رئيس الوزراء في عهد بوبفليقة سنة 2017، ولم يعمر في هذا المنصب أكثر من ثلاث أشهر.
[5] – من بينهم رئيسي الوزراء السابقين أحمد أو يحيى وعبد المالك سلال.
[6] – صادق مجلس النواب الشعبي الوطني بالإجماع على مشروع القانون الخاص بتعديل الدستور بتاريخ 10 ديسمبر 2020. وبتاريخ 12 ديسمبر 2020 صادق مجلس الأمة بالإجماع على مشروع القانون.
[7] – قدم الرئيس بوتفليقة استقالته بتاريخ 02 أبريل 2019، قبل انتهاء ولايته من الناحية القانونية الموافقة ل28 أبريل سنة 2019.
[8] – بتاريخ 03 أبريل 2019.
[9] – التعديل الدستوري المؤرخ في6 مارس سنة 2016، بموجب القانون رقم 16-01 المؤرخ في 06 مارس 2016 الجريدة الرسمية رقم 14 المؤرخة في 7 مارس 2016
[10] – وتنص المادة 102 من الدستور الجزائري المعدل عام 2016 على أنه "إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التّصريح بثبوت المانع.
ويعلن البرلمان -المنعقد بغرفتيه- ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضائه، ويكلف بتولي رئاسة الدولة بالنيابة مدة أقصاها 45 يوما رئيس مجلس الأمة. وفي حالة استمرار المانع بعد انقضاء 45 يوما، يُعلَن الشغور بالاستقالة وجوبا، ويتولى رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها 90 يوما، تنظم خلالها انتخابات رئاسية.."
[11] – اتحاد المغرب العربي ا م ع (UMA) اتحاد إقليمي تأسس بتاريخ 17 فبراير/فيفري 1989 م بمدينة مراكش بالمغرب، ويتألف من خمس دول تمثل في مجملها الجزء الغربي من العالم العربي وهي: موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس وليبيا. وذلك من خلال التوقيع على ما سُمّي بمعاهدة إنشاء اتحاد المغرب العربي.
[12] – حسب تقرير مؤسسة صندوق النقد الدولي ل أبريل سنة 2018، أنظر الموقع الإلكتروني https://www.imf.org.
[13] – بتاريخ 19 ديسمبر 2019.
أستاذ العلوم السياسية، جامعة شعيب الدكالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.