يلاحظ المتتبعون أن أحزابنا صارت مجرد يافطات وأسماء بدون مسمَّى، إذ إن زعاماتها غير قادرة على خلق الأحداث أو المشاركة الفعلية في صوغ التحولات والإصلاحات وإنجازها، لأنها لا تمتلك بوصلة سياسية نتيجة افتقارها لأي رؤية. فقد تحوَّل النشاط الحزبي إلى مجرد عمل روتيني موسمي خال من الخلق والإبداع ومن روح المبادرة والمغامرة، كما أصبح الزعيم مفتقدا لروح الجسارة والإقدام، حيث صار مجرد موظف نمطي تابع لا يفعل إلا ما يؤمر به من خارج حزبه... تعاني الأحزاب في المغرب اليوم من أزمات فكرية وتنظيمية حادة، ما يدل على أن الأمر يتعلق بأزمة هيكلية. وهذا ما جعل الحكومة الحالية لا تمتلك رؤية ولا مشروعا، إذ أصبح المغرب معها يعاني مشكلات خطيرة، حيث صار يتميز بتضاؤل حجم احتياطي العملة الصعبة بشكل حاد، والارتفاع المستمر في أسعار السلع والخدمات، والتراجع الكبير في عائدات السياحة، والانخفاض الواضح في معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي... كل ذلك وغيره جعل المغرب يواجه مشكلات حقيقية إن لم يكن قريبا من حافة الانهيار الاقتصادي. ومع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية تردَّت الأوضاع المعيشية للأغلبية الساحقة من الشعب المغربي، ما يهدد الاستقرار، حيث لا يمكن أن يستتب هذا الأخير إلا بالتماسك الاجتماعي... في مقابل ذلك، نجد معارضة ضعيفة تعقد تحالفات هشة لا تنهض على أية رؤية أو مشروع. كما أنها ليست وليدة دينامية نضالية في الساحة، بل هي مجرد اتفاقات على مستوى القمة معزولة عن القواعد الحزبية وغير واضحة المعالم والدوافع والأهداف، ما جعلها محط ارتياب من قبل الرأي العام، لأنه عندما تغيب الحركية السياسية تتساوى الأحزاب في الجمود، كما أن التحالفات الفوقية تكون لصالح الزعامات ومن يدعمها من الخلف، لا لصالح المجتمع... ويمكن أن القول إن الزعامات عندنا لا تعرف أسباب تحالفاتها ولا الهدف منها لأنها لا تمتلك قراراتها. وهذا ما جعل بعض المتتبعين يستنتجون أن الأغلبية والمعارضة وجهان لعملة واحدة، لأنهما تلتقيان موضوعيا في عدم الرغبة في الإصلاح والركون إلى التجميد والجمود، بل هناك من يعتبرهما متحالفتين ضد الشعب والوطن، وأن الصراع بينهما مجرد مسرحية... كتبها وأخرجها مجهولون... هكذا، إذا كانت الحكومة تجهل دورها، وبالتالي تعجز عن تدبير الشأن العام، فإن زعامات المعارضة لا تؤمن بدور المعارضة، وهي غير مؤهلة فكريا ولا تنظيميا للقيام به. يرى بعض المهتمين اليوم أن من أسباب ذلك انحدار المستوى الثقافي للنخب الحزبية، حيث أصبحت "العامَّة" نخبة سياسية في بلدنا. وبما أن "العامَّة" عاجزة عن التفكير وإنتاج المشاريع، فهي لا تدرك مفهوم "الحزب" وباقي المفاهيم الأخرى التي تنهض عليها الحياة السياسية الحديثة، ما يحول دون قدرتها على تحديث الحياة السياسية والمجتمع ودمقرطتهما. ومن ثمة فهي غير قادرة على التأطير والانخراط في المستقبل. تبعا لذلك، يُعد إيصال "العامَّة" إلى السلطة الحزبية تفقيرا فكريا وسياسيا وشلاّ تنظيميا لها، بل إنه يشكل حظرا عمليا لها، الأمر الذي قد يلحق أضرارا جسيمة بالوطن والمجتمع... إضافة إلى ذلك، يشكل غياب الديمقراطية داخل الأحزاب مشكلة هيكلية. فعندما نأخذ، مثلا، ممارسة "زعيم" جديد "معارض" محسوب على اليسار، فإننا نجده يمركز كل شيء في يده بحيث لا يسمح لأي جهاز أو عضو في الحزب باتخاذ أي مبادرة، أو القيام بأي شيء بدون تصريح منه. وللتدليل على ما أقول، فقد مرَّ ما يزيد عن ستة أشهر على انعقاد مؤتمر حزبه، لكنه لم يقبل لحد الآن بتوزيع العمل بين أعضاء المكتب السياسي، ما يشكل خرقا سافرا للمقرَّر التنظيمي للحزب، وهو ما لم يقترفه أي قيادي سابق لهذا الحزب. فهو يريد السطو على صلاحيات كل الأجهزة الحزبية، والاستئثار بكل شيء والهيمنة على كل شيء في الحزب بالرغم من تأكده من عدم قدرته على إنجاز ذلك. ويعود ذلك إلى أنه يخاف من الآخرين لأنه يعتقد أنهم مثله لا تهمهم سوى خدمة مصلحتهم الخاصة، ما أصابه بهوس الهرولة نحو الاستفادة ما أمكن من الريع لأنه يعي أن مقامه في المنصب غير طويل. وبذلك، فهذا الزعيم يريد تسخير الآخر والوطن لخدمته... ولا يتوقف هذا الزعيم عند هذا الحد، بل يخفي كل شيء عن أعضاء المكتب السياسي، ويلجأ إلى خلق ما لا حصر له من الخلافات بينهم لكي يستتب له الأمر ويتمكن من إنجاز المهمة التي كلف بها من خارج الحزب، والتي تقتضي مسخ هذا الأخير عبر تهميش الكفاءات والأطر والانخراط به في مشاريع ستمحو هويته وتشل فعاليته، ما قد يؤدي إلى زواله. وهكذا، سيتمكن هذا الزعيم من إنجاز مهمة تقويض هذا الحزب التي كان يحلم بها خصومه منذ ما يزيد عن نصف قرن. لقد صارت اجتماعات هذا المكتب السياسي فارغة، لأن الزعيم بحكم تكوينه النفسي لا يقول ولا يفعل إلا ما يؤمر به من قِبَلِ أرباب نعمته. وذلك هو الشرط الأساس الذي وافق عليه لتتم الموافقة عليه زعيما لحزبه. وللتدليل على ما أقول، فقد حدث ذات يوم في مدينة تطوان أن خاطبه أحد أسياده أمام جماعة من أعضاء حزبه قائلا له: "من دعَّمَك لكي تكون وزيرا؟"، فأجابه الزعيم: "أنتم". فأمره سيده بتقبيل كتفه، وانحنى الزعيم، ونفذ الأمر صاغرا أما أصدقائه. إنه منتهى الانبطاح !!! يركز الزعيم كل اهتمامه على الاستمرار على رأس حزبه للاستفادة مما يمكن أن يوفره له هذا الموقع من امتيازات، وهو مستعد لفعل أي شيء يضمن له ذلك. لذا فهو لا يهتم بقضايا المواطنين والوطن وأمنه، وليست له رؤية لذلك... إنه يشتغل بالحزب من أجل مصلحته ومصلحة أسياده. وهذا هو منتهى الخداع والخيانة!! فضلا عن ذلك، يتصرف هذا الزعيم مع أعضاء حزبه تصرف "الأعيان" مع أعضاء قبائلهم، حيث لا يناقش معهم فكريا ولا سياسيا، بل يسعى إلى ربطهم بشخصه عن طريق الولائم. كما لا يكف عن الظهور بمظهر الوسيط بينهم وبين الإدارة، حيث يقدم الكثير من الوعود بالتوظيف والترقية المهنية والاجتماعية مع أنه يستحيل الوفاء بها لأنها تتطلب ما لا يعد ولا يحصى من المناصب المالية... علاوة على ذلك، لقد وعد لحد الآن عددا من الأفراد، من داخل الحزب ومن خارجه، بترشيحهم في دوائر برلمانية بما يتجاوز أعضاء مجلس النواب بكثير. وهناك عدد كبير من الدوائر الانتخابية التي وعد بأن يرشح بها أكثر من أربعة مرشحين، بل أكد لهم نجاحهم... هكذا، فإذا كان التأطير يقتضي وجود مرجعية حداثية ديمقراطية لتأهيل الإنسان ليحترم الذات والآخر، ويكون قادرا على بناء ذاته ووطنه وتنميتهما...، فالتأطير بالولائم والوعود وشراء الذمم لا يشكل سوى ضرب من التربية على الانتهازية وترسيخ القيم التجارية في الحياة الحزبية التي كلما انتعشت ساد الفساد والخراب. وعوض أن تؤطر الأحزاب الشباب قصد تأهيلهم ليكونوا مواطنين فاعلين، فإن هذا الزعيم يرسخ في نفوسهم الاستسلام والخضوع والانتهازية... لست في حاجة إلى التذكير بمواقفي المعارضة لجماعات الإسلام السياسي، لكن ما أستغربه هو أن هذا الزعيم بدأ يعلن معارضته لفظا للحكومة الحالية، علما أن الناس تتذكر أنه تحالف مع "حزب العدالة والتنمية"، ضد إرادة مناضلي حزبه، في الانتخابات الجماعية الأخيرة، كما أنه عبَّر حينئذ عن رغبته في تقديم المرشح المشترك مستقبلا مع هذا الحزب، وقال ب "وجود قواسم مشتركة" تجمعه به. زد على ذلك أنه دعا إلى تأسيس ما سماه ب "جبهة ديمقراطية" مع مختلف جماعات الإسلام السياسي من أجل إصلاحات دستورية وسياسية... لست أدري كيف ينقلب هذا الزعيم على ذاته، لأنه لا يعلل ذلك، ولا يتحدث عنه حتى صار المهتمون يرون أنه لا يمتلك أي إطار مرجعي يمكنه من ذلك، إذ قد يتحالف غدا مع خصم اليوم، وهو ما يبرهن على كونه مجرد مستخدم يفعل ما يؤمر به. يروِّج هذا الزعيم لنفسه أنه كان وراء خروج حزب الاستقلال من الحكومة. لكن ما لا يفهمه هو أن الناس لا يصدقونه، لأنهم يعرفون حق المعرفة أنه هو ذاته كان متشبثا بمنصبه الوزاري حتى الموت، لكن الرياح التي عصفت به منه هي نفسها التي أخرجت حزب الاستقلال من الحكومة. ولا يكره هذا الزعيم العودة إلى هذه الحكومة، حيث كان يُمَنِّي نفسه ب "حكومة وحدة وطنية"، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفنه... نظرا لما يعرفه عالم اليوم من تحولات كبرى، فإن الأطر الحزبية والهياكل التنظيمية الحالية لم تعد قادرةً على المسايرة، حيث ضاق أعضاؤها بفضائها وبسلوك زعاماتها ورؤاها الفكرية المتسمة بالارتكاس...، ما ينذر بتلاشيها ما لم تعالج اختلالاتها بطرح أفكار ومشاريع وبرامج منخرطة في روح العصر، وتستحدث تنظيمات أكثر رحابة وديمقراطية، تستطيع أن تستوعب كل الطاقات المجتمعية من أجل بناء مجتمع حداثي ديمقراطي يرفع التحديات الماثلة أمام الوطن... وبدون ذلك سيعوق "الأعيان" و"العامة" تحديث الأحزاب، وتعمق هشاشة اللحمة الوطنية، الأمر الذي سيجعل بلدنا مرتعا للطائفية والقبلية، ويحدث شقوقا في نسيجه المجتمعي، ويُمَكِّن القوى الأجنبية من التسرب إليه، والتحول إلى طرف أساسي في الصراع داخله بغية تفتيته...