ثورات الشعوب ضد الظلم معروفة جدا، والأدبيات حول هذا الموضوع لا تعد ولا تحصى. لكن، هناك نوع آخر من الثورات لم تحظ بالدراسة والإهتمام الكافيين رغم أنها حاضرة بشكل جلي في حياة الشعوب المقهورة.. إنها ثورة الجسد الصامتة! وقد يكون الفيلسوف الفرنسي، على حد علمنا، ميشال فوكو أول من تناول بالتحليل بعضا من تجليات هذه الثورة اللاشعورية عبر مفهوم السلطة الحيوية La biopolitique في العديد من مؤلفاته. عندما تسلب الحرية تدريجيا، يرتفع منسوب القهر على الجسد البشري ومعه منسوب الضغط المعنوي والمادي، فيتحلل الفرد من كافة القيود الأخلاقية والدينية والثقافية والإجتماعية والفكرية…إلخ بمعنى آخر، لا جدوى من الأخلاق والقيم في ظل العبودية القاهرة. الإنسان الحر هو من يلتزم بها أما فاقد الإرادة والإختيار فلا معنى لالتزامه من عدمه. لا أخلاق البتة لدى العبيد! بلغة الرياضيات، يوجد ترابط إحصائي Corrélation statistique بين درجة القهر والظلم والإنسلاخ التام من القيم الإنسانية. هكذا! وخير دليل على ما نقول، وكمثال تدني مؤشرات الفساد والرشوة في المجتمعات الحرة مقارنة بغيرها من المجتمعات المقهورة المتخلفة. في العصر الحديث، وبفعل الثورة الرقمية والتكنولوجية تطورت أشكال المراقبة والتحكم والإخضاع بشكل غير مسبوق. لم تعد رواية 1984 لجورج أورويل من نسيج الخيال، إنها واقع يومي للملايين من البشر المراقبين ليل نهار في حركاتهم وسكناتهم. في بيئة كهذه وخلافا لما يشاع عبر وسائل الإعلام الرسمية، ينعدم الأمن والأمان وينعزل الأفراد عن بعضهم البعض فيسود الخوف وتنعدم الثقة لتتفكك بذلك أواصر اللحمة الإجتماعية شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى نهائيا. وفي هذه النقطة بالذات يدق ناقوس الخطر! تبلغ معدلات الإكتئاب والإنتحار مستويات قياسية ناهيك عن الإضطرابات العصبية والعقلية والنفسية والعاطفية والسلوكية الأخرى. لنقلها بصيغة أخرى، الإنسان كائن اجتماعي بالضرورة. لا طاقة له بصقيع العزلة القارس، لذا فهو يحترق وحيدا ويشتعل بسهولة. وكما يحتاج للماء وللهواء، فهو أيضا يحتاج لحرارة ودفء العلاقات الإنسانية. ثورة الجسد إذن هي نوع من التمرد الداخلي البيولوجي والنفسي على القهر الخارجي المادي في أفق الثورة السياسية الشاملة التي عادة ما تأتي متأخرة وكنتيجة للظروف اللاإنسانية للجسد البشري. أي عندما يطفح الكيل ويبلغ السيل الزبا كما يقال!