لم يبالغ العالم السويدي كارولوس لينيوس عندما أطلق على شجرة الكاكاو اسم طعام الآلهة. هذه الشجرة العاشقة للظل، المتعطشة للمياه، التي تشترط الفي ملمتر من الأمطار في السنة لتسقط فاكهتها على مائدة الآلهة. لها على ما يبدو في مملكة القحط والجفاف البنيوي اتباعا ومريدين شكلوا فيما بينهم وفي غفلة من الجميع، تنظيما مغلقا شبيها بالطائفة السرية التي اتخذت من المال العام مصدرا لتحقيق غايتها. هكذا بين الفينة والأخرى إذاً، ينط علينا خبر يذكرنا بوجود أتباع لهذه الطائفة، متعصبون لمعبودتهم شجرة الكاكاو، لا يتوانون عن فعل أي شيء لمزاحمة الآلهة مائدة طعامهم. الأصل لكل إنسان الحرية في تعبد وتقديس من يراه جديرا بالعبادة. كما أن الكل شبه حر في اختيار القربان الدي يعتقده مناسبا لإرضاء معبوده. ولكي تكون نية العبادة صادقة ومخلصة، يجب أن يترجم القربان مدى قدرة العابد على التضحية. كأن يضحي مثلا بماله، بزوجته، بولده، بعضو من أعضاء جسده وفي بعض الحالات القصوى بحياته، وإلا سيكون الإيمان ضعيفا مغشوشا وفاقدا للمعنى من أساسه. حينما كنا أطفالا، عند الاستراحة أو بعد نهاية الدرس. بعيون متلهفة، كنا نتحلق حول الطاولة المنتصبة أمام باب المدرسة وكلنا أمل الظفر بفُتاتِ فُتاتِ الفُتاتِ المعروض فوقها من شوكولاتة لا تشبه الشوكولاته في شيء. كانت أشكالها غريبة عجيبة: فيلا، سمكة، قوقعة حلزون… كانت تذوب بين الأصابع قبل أن تذوب في الفم. طبعا وقتها لم نكن نعلم أنها من الصنف الرديء، وأنها ستكون سببا في إتلاف أسنان جيل بكامله بعد أن استوطنتها السوسة اللعينة تاركة آثارها الهدامة حتى الآن. كل ما كان يشغلنا وقتها هو أن نستجدي أمهاتنا جوج ريال، ثمن قربان إطفاء لوعة الشوكولاته وغوايتها. وقتها كنا صغارا، وقتها لم نكن نكترث لسخافات الأكل الصحي ومساوئ الوزن الزائد. الحنين. يقال إن الحنين هو قدرة الروح العودة إلى زمن يعجز الجسد بلوغه. وحتى إن تمكن الجسد من إيجاد مسرب سحري للرجوع إلى ذلك الزمن، فالأكيد أن إعادة عيشه مرة ثانية لن يكون بنفس كثافة، زخم، وشغف المرة الأولى. لن يكون لطعم شكولاتة الفيل نفس الطعم الأول. بل قد يتسبب الإقبال عليها غثيانا وإسهالا ينهك المخارج. فلا شيء يبعث على الكدر أكثر من واجب التصدي للقاع البدائي ولنداء الأصول، نداء الحرمان الأولي، الذي قد يستطيع البعض التملص منه، في حين يستسلم البعض الآخر، ولو نالوا كل أموال الدنيا وسُلط الكون، لابتزازه. فوحدهم الرواقيون يستطيعون كبح نفوسهم من الانقياد للذة ومن الضعف أمام الرغبة. اما الغالبية العظمى من البشر، فهي تعيش لمثال واحد، اللهث والجري للحصول على قرابين لملئ الفراغ، كل الفراغ الدي تحفره سهام الرغبة في نفوسهم الجائعة على الدوام. من صباحهم لمساءهم يسرقون، يقتلون، يلقون بأنفسهم من شاهق بدون مظلات، يبحرون وسط بحار الظلمات بلا أشرعة ولا بوصلة، يبيعون شرفهم وشرف أمهاتهم، يأكلون الجيفة ولا يجدون أدنى حرج في الانبطاح عبيدا لأول سيد يصادفونه في طريقهم إلى الخلاص…خلاص تحقيق الذات عن طريق إشباع الرغبة. لا شيء مجاني عند هذه الحياة العاهرة، العهر لا يقابله إلا العهر. ماذا يعني شرائك ستون كيلوغراما من الشوكولاتة الرفيعة بمبلغ ستون ألف درهم؟ لا شيء…لا شيء ما دمت قادرا على دفع ثمن باهض لهذا القربان المخملي، أنت الرجل الثري، رجل الأعمال الحذق الذي ينشط في كل المجالات. ثم ماذا إذا أضفنا لك صفة رئيس جهة، أغلب شبابها يمضون زهرة عمرهم في تدخين التبغ الرديء، مفترسين الدكك المنتشرة على طول الشاطئ بعناق مشرئبة نحو الجارة الشمالية التي يتحرقون "للحرقة" إليها صباح مساء؟ لا شيء …فبالنهاية المسلمون خلافا على ما كان عليه الكاثوليك، لا ينظرون بعين الريبة لمظاهر الغنى، فالله وحده من يغني ويفقر. ثم ماذا لو كان ثمن قربانك المخملي هذا من ميزانية المجلس، صندوق دافعي الضرائب: مستخدمون، موظفون، تجار، أصحاب مهن حرة، مشردون، عاهرات…كل من أجبرته المواطنة على المساهمة بمقدار في تمويل الفضاء المشترك؟ سيكون من العته والطرافة أن نتخيل تحت شمس أخرى، في كنف عالم آخر شيدته رومانسية حالمة لشاعر صعلوك، أن يبادر رئيس مجلس جهة طنجة وبعض من اعضائه إلى تحويل كمية الشوكولاتة هذه من حالتها الصلبة على حالة سائلة، تعبئ داخل صهاريج طائرات لترشها من السماء على سكان الجهة ليستطيبوا للحظة وجيزة رذاذ الشوكولاتة الرفيعة، بعيون مغلقة تشبه لحظة انخطاف في حياة صوفي، لحظت تتحقق فيها يوتوبيا التحام القمة بالقاعدة. بيد أن الصوفي سرعان ما سيفتح عينيه لتتجلى له الحقيقة، الشمس هي الشمس، العالم هو العالم والطائرات العملاقة ماهي إلا تذكار لتلك الطائرات التي كنا نشاهدها في فقرة أحوال الطقس وهي تلقي ما بداخلها من مبيدات على أسراب الجراد التي كانت تجتاح البلاد من الشرق. فعوض أن يقدم السيد الرئيس قربانا من ماله ليلبي شهوته، قدمه من مال غيره، من أحلام غيره، من لحم وأمعاء غيره، من الدم المالح الطازج لغيره، المتدفق من مقصلة اليأس والإحباط. شوكولاتة حمراء…شوكولاتة بطعم ولون الدم. طبعا سيجد السيد الرئيس التجمعي ألف مبرر ومبرر ليبرر فعله وسيفلح في ذلك وستنسى الحكاية. كما نسيت حكايات أكثر سوادا من سواد الشوكولاته. من منكم مازال يتذكر قصة الوزير الشاب وقتها السيد الوزير الحركي الكروج. تتذكرون آخر فاتورة وقعها وهو يهم بمغادرة مقر الوزارة، فاتورة بقيمة أربعة وثلاثون ألف درهم من الشوكولاته الرفيعة، أرسِلت مباشرة إلى مصحة خاصة حيث الزوجة والمولود الجديد. طبعا تم أداء الفاتورة من ميزانية الوزارة من مال.. و..و..و..إلى آخر بئيس و بئيسة ممن حرموا ظلما من شهية الحياة. ككل الطوائف، لابد من رئيس أو عراب لطائفة الشوكولاتة. غير أن الطوائف السرية كالنوادي المغلقة، المعلومات عنها شحيحة، وكل ما يتسرب عن طرق اشتغالها يكون غالبا نتيجة سهو، سقطة، فضيحة لأحد منتسبيها الذي يَصعب تحديد هوياتهم أو عددهم باستثناء عراب طائفة الشوكولاتة، الذي لا نحتاج كثير تخمين لمعرفة من يكون، إنه المنسي الحاضر دائما في الحكاية. السيد الوزير سابقا، السيد رئيس البرلمان سابقا، السيد رئيس مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، السيد رئيس المجلس الأعلى للتربية، الفتى المدلل لمدينة أبي الجعد العريقة، الفقيرة والمهمشة. الاشتراكي السي الحبيب، العراب والرئيس المفترض للطائفة الذي ما من مؤسسة سياسية مر بها إلا وتوطدت وتجدرت وتعمقت علاقتها ببائعي أفخم وأغلى أنواع الشوكولاته، ولأن السي الحبيب يأكل نفسه تعبا في خدمة المغاربة من أي منصب وجد فيه، فلابد له من أكل، أكل وأكل الشوكولاتة لتُحسِّن مزاجه ولتمده بالطاقة الضرورية لنضمن استمراريته في العطاء. العادية المدهشة في مملكة الطوائف، أن السياسيين في السنين الأخيرة لم يعودوا يتوجسون من الفضائح، لم يعودوا يأبهون لأي شرخ مهما كان عميقا في القواعد الدنيا المؤسسة للفعل السياسي. على العكس يبدو وكأنهم بألا مبالاتهم هذه، يسعون إليها ويحرصون كل الحرص تعمدها. لأنها ربما تمنحهم تلك النشوة التي تعتري الطغاة بأن بمقدورهم فعل ما يرغبون فيه ضدا في إرادة الجميع. فمع غياب مفاهيم مثل ربط المسؤولية بالمحاسبة وشيوع ثقافة الإفلات من العقاب، سينظرون إليك بازدراء واستخفاف، حتى لو نعتهم بالسفه، بقلة الذوق والعفة وبالجوع العميق المتأصل الذي لا يختلف من شيء عن جوع القراصنة.