"الديماغوجية كأداة للنقاش السياسي تفضي إلى قتل هذا الأخير" بوليبيو (200 سنة قبل الميلاد) تُتشتق كلمة أوكلوكراسيا من أوخلوس Okhlos الإغريقية وتحيل إلى حكم الرعاع (أو الخلا المخلي) وقد تكلم عنها العديد من المفكرين بدءا من بوليبيو (القرن الثاني قبل الميلاد)، سيسيرون في كتابه "الجمهورية"، ماكايافيلو (القرن 15)، جون سطوكوود (ق 16)، جون جاك روسو وجيمس ماكينطوش (ق 18-19) وجاك رانسيير (القرن 20)، وغيرهم.. ويصفها بوليبيو في نظريته المتعلقة بدورة أو تعاقب الأنظمة السياسية Anacyclose بأنها أقبح الأنظمة السياسية والدرك الأسفل من انحطاط السلطة. كما يشير إلى أن هذه الدورة السياسية تتكون من ستة حلقات تبدأ بتحول الملكية إلى التسلط ثم إلى الأرستقراطية التي تؤول بدورها إلى الأوليغارشية، ثم تأتي بعدها الديمقراطية التي تسعى إلى تصحيح اختلالات وتجاوزات الأوليغارشية، لكنها تغوص بعد ذلك في الأوكلوكراسيا ولا يبقى بعد ذلك سوى انتظار الشخص المعجزة لإعادة الأمور إلى الملكية. كما يشير روسو إلى أن السبب الرئيسي وراء انتكاس الديمقراطية إلى أوكلوكراسية يعزى إلى نوع من المسخ يطال "الإرادة العامة" التي تفقد عموميتها بتماهيها في الدفاع عن مصالح فئة دون أخرى. إرهاصات الأوكلوكراصيا في عالم اليوم: منذ سنة 1945، عرفت أوروبا أربع موجات متلاحقة من اليمين المتطرف: الفاشية الجديدة (1945-1955)، اليمين الشعبوي (1955-1980)، اليمين المتطرف الشعبوي (1980-2000)، واليمين المتطرف الجديد (أو نسخة 2.0) من سنة 2000 إلى يومنا هذا. النسخة الأخيرة تضم عددا كبيرا من الحركات والأحزاب من جنوب القارة الأوروبية مثل فوكس في إسبانيا، التجمع الوطني الفرنسي، العصبة الإيطالية، إلى أقاصي شمالها كالحزب الشعبي الدانماركي، حزب الديموقراطيين بالسويد، حزب التقدم النرويجي وحزب الفينلنديين. خارج أوروبا، يمكن إدراج حزب البريكزيت Brexit في هذه الكتلة الضخمة، كما الحركاتِ التي تساند كل من دونالد ترامب في الولاياتالمتحدةالأمريكية، يائيل بولصونارو في البرازيل، وخافيير ميليي في الأرجنتين. بيد أنه لا يمكن إدراج المحموعات الفاشية والنازية الجديدة لارتباطها الإيديولوجي المباشر بفاشية ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وبتبنيهما للعنف كأداة ضرورية في استراتيجيتهما السياسية. أيضا، لا يمكن إدماج الحكومات والحركات السياسية التي تدعم الرئيس دوطيرطي في الفيلبين، الرئيس مودي في الهند، الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، والرئيس بوتين في روسيا، والتي تدخل في خانة ما يمكن تسميته بالسلطوية التنافسيةCompetitive authority التي تبني شرعيتها على انتخابات حرة صوريا لكن مغشوشة. وعودة إلى الموجة الرابعة لليمين المتطرف، يمكن القول إنه ثمة ثلاثة فوارق أساسية تميزها عن سابقاتها: 1-أن الأحزاب اليمينية المتطرفة لم تعد أقلية. 2- أن الأحزاب اليمينية التقليدية أضحت تعتبرها حليفة لها بل وتعتمد بعض طروحاتها وسلوكاتها كما هو الحال بالنسبة لحزب DF الدانماركي، حزب PVV الهولندي، و التجمع الشعبي الأورثودوكسي في اليونان. أكثر من ذلك، هناك بعض الحالات التي وصلت فيها هذه الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم كما حصل مع حزبي Fidesz الهنغاري و PISالبولوني. 3-أن هذه الأحزاب استطاعت إدراج موضوعاتها المفضلة في النقاش السياسي العمومي، ونقصد: الهجرة، الخوف من الإسلام، الاحتراز من الاتحاد الأوروبي، السيادة الوطنية وقضية النوع. هنا، وجب التنبيه بأن اليمين التقليدي لم يعد يكتفي بمجاراة هذه الأحزاب المتطرفة في طروحاتها هذه، بل أصبح ينجزها ويطبقها عند توليه الحكم. هذا المعطى، حسب كاص مادلCas Muddle ، جعل الفوارق الحدودية بين اليمينين التقليدي والمتطرف (بل بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف أحيانا أخرى) تتقلص إلى حدود دنيا كما حصل في جمهورية التشيك والدانمارك. خارج أوروبا، يكفي أن نقول بأن الديمقراطيات الثلاث الأكثر عددا من الناحية السكانية في العالم قد حُكمت (وما تزال الهند وربما تعود لذلك الولاياتالمتحدة) من طرف زعماء من اليمين المتطرف: مودي في الهند، بولصونارو في البرازيل وطرامب في الولاياتالمتحدةالأمريكية. بعض أسباب صعود اليمين المتطرف في هذه الموجة الرابعة: من بين هذه الأسباب نذكر: -أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. -الانكماش الاقتصادي الكبير سنة 2008 الذي أدى إلى انغراس الشك في نفوس المواطنين بشأن مستقبلهم. في هذا الصدد، تشير الباحثة الاجتماعية بياطريث أشا بأن الناخب-النموذج لليمين المتطرف يتماهى غالبا مع كل الخاسرين من العولمة. -أزمة اللاجئين سنة 2015 التي تعتبر السبب الأكبر والمحفز الرئيسي للاحتجاجات ضد الهجرة والمهاجرين التي أضحت عادية مألوفة في الشوارع الأوروبية والأمريكية. -الخوف من التغييرات السريعة في عالم الشغل والتواصل والتكنولوجيا التي أحدثت اصطدامات ثقافية وقيميةكبيرة حسب الباحثين نوريس وهوشيلد. -فشل الأحزاب التقليدية يمينا ويسارا في إيجاد حل لمعضلة الهجرة. المعالم الأساسية لإيديولوجيا اليمين المتطرف: من المهم الإشارة إلى أن هذه الإيديولوجيا تتحدد بما ترفضه أكثر بما تقترحه. في هذا السياق، يشير المؤرخ الإسباني رودريغيث خيمينيث بأن هذه الأحزاب لا تقدم برامج انتخابية سياسية بقدر ما تطرح نفسها كمُخَلِّصة من كل أزمة، حقيقية كانت أم مُختلَقَة، وكبديل للفشل المفترض لليبرالية والديمقراطية. بيد أن لهذه الإيديولوجيا بعض المعالم الفارقة نذكر منها: -رفض القانون الطبيعي المستلهَم من القرن 19. -رفض التعدد والديمقراطية. -التركيز على الهُوية الوطنية والتقليدانية الثقافية. -الحماية الاقتصادية. -مناهضة الشيوعية. -كراهية الأجانب. مع هذا الفكر التبسيطي، وبدعم الشبكات الاجتماعية وألغوريتمات الأنترنيت بشكل عام التي تُضاعف الأفكار المغلوطة والشائعات، تقلصت العتبة التي تفرق بين الصدق والكذب بشكل رهيب مما سمح بدخول البلاغة المستعِرة والكلام البذيء إلى قلب المنازل دون مرشِّح أو دِرع يقي الأطفال والمراهقين من التطبيع مع السوء وأهلِه. وحسب معهد ماساتوسيتش للتكنولوجيا، فإن الأخبار المغشوشة تسري ستة مرات أسرع من الأخبار الصحيحة، فيما يذهب عدد من المحللين إلى أنه إذا كانت الديمقراطية من قبلُ على وفاق وانسجام مع وسائل الإعلام التقليدية، فإن حبل الود والوداد هذا قد انقطع مع الوسائط الرقمية للإعلام وأن أولَ من ينشُر معه الحق! أما على المستوى السياسي، فلا شك أن زمن "اللعب النظيف"، حيث الخاسرُ في الانتخابات يشكر من صوَّت عليه، يُهنئ الفائز ويعرِض عليه استعدادَه للعمل سويا من أجل مصلحة البلد، قد ولَّى واندثر. هذا اللعب النظيف، هذا التأدب المرادِف للتربية الحسنة واحترام ملايين الناخبين الذين صوتوا لاختيارات سياسية مغايرة، اختفى وانقرض. اليوم، من يربح لا يكتفي بذلك بل يريد أن يُهشم أضلع وعظام منافسيه، ومن يخسر يمانع في الإقرار بذلك. هكذا، وأمام حيرة المواطنين إزاء جدوى الديمقراطية وقدرتِها على تمثيلهم بشكل دقيق وفعال، ترى اللومبينLumpen أو "الشبيحة" الذين وصفهم ماركس وإنجلس كحشود فاقدة الوعي بالانتماء الطبقي، دون أية مشاركة في التغيير الحقيقي للمجتمعات، سهلة التطويع من طرف النخب اللاحِمة، تقدِّس هذا النوع الشعبوي الرديء من السياسيين وتمنحهم أجنحة. الطيور على أشكالها تقع كما يقال! ليس من الغريب إذن عن هؤلاء "البؤساء" أن يعتنقوا الأوهام و يرددوا كلمات دون معنى من قبيل "المرشح ضد النظام"Candidat anti-système و"تغيير الدورة" Changement de cycle، أن يتعايشون مع الرشوة والفساد ويعتبرونهما شيئا عاديا بل وضروريا. مع البريكزيت، تأكدنا أنه يكفي أن يكذب سياسي، أن يلقي ببعض الأرقام المغلوطة الخيالية كي يتم إخراج أمة بعراقة بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأن يتم إقبار مشروع سياسي واقتصادي ناجح مائة في المائة تم العمل عليه لعقود طوال. في إسرائيل، ثمة سياسيون أوغاد لا يرعوون في وصف الفلسطينيين بالحيوانات، في هولندا هناك زعيم سياسي يريد طرد المغاربة، وفي إسبانيا، نجد عددا من السياسيين النُّغلاء من اليمين كما من اليمين المتطرف حولوا السياسة إلى مسرح للوضاعة والفسل. إن هي إلا بعض من الأمثلة ويعلم الله أن منها الآلاف والآلاف في كل الأمصار والأقطار. في جميع الحالات، سيتوجه هذه السنة حوالي أربعة ملايير من المواطنين لصناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم ورؤساهم. إمكانية إعادة انتخاب طرامب واردة بشكل كبير ومن شأنها خلق موجة ارتدادية عنيفة، تسريع الطوفان الذي تحدثنا عنها وجعل القرن 21 قرن الأوكلوكراسيا بامتياز. كل هذا يوضح بأن ذاكرة البشر أقصر وأضعف من كل ما يمكن أن يقال عنها، وبأنه يكفي انصرام زمن ثلاثة أو أربعة أجيال كي نتعثر في نفس الحجرة ونعيد نفس الأخطاء. سبعون سنة بالكاد على مآسي الحرب العالمية الثانية، عادت التحية النازية شيئا عاديا معتادا عند الملايين من الشباب. أكثر من ذلك، هذا المنحى اليميني المتطرف سيظل معنا لمدة طويلة لثلاثة أسباب رئيسية: 1-تحدي المواطنين المتنامي للنخب، للأنظمة وللدول. 2-الخوف من العولمة. 3-الخوف من فقدان الهُوية الوطنية وبالتالي من الهجرة. هل من سبيل لكبح جماح هذه العدوى أم أن الدود نخر الجذور كما الجذوع والأغصان؟ كيف التصدي لهذه الأوكلوكراسيا، لحكم الرعاع الذي يصفه جاك رانسيير ب"تجمع الخائفين" والذاكرة الشعبية حبلى بالكوارث والجرائم التي وراءها أناس خائفون؟ كيف يمكن إيقاف تحلل القانون وانحلال الأخلاق؟ كيف يمكن تنقية الديمقراطية مما آلت إليه من فراغ وفوضى سياسيين، من تحكم الاقتصاد والرقميات وصرا ع يومي بين المواطنين وحكم القوة؟ هل من حل لإعادة الثقة في مؤسسات الدولة؟ كيف يمكن الحفاظ على هيبة الدولة وسيادة القانون واستعادة الوعي الجماعي في ظرفية مشوبة بالتضخم والأزمة الاقتصادية وعودة الصراعات العنيفة؟ كيف الحديث عن نفس الوقائع، عن نفس السرديات وألا يبقى كل واحد منا محاصرا في قوقعته وخطابه؟
هل من سبيل لكل هذا أم أن دورة بوليبيو قدر محتوم، وبأنه بعد الديمقراطية، بعد السياسة، على المجتمعات الرجوع إلى ما قبل السياسة؟ لا شك أن الإنسانية تتجه بثبات إلى الحائط، وبعد ما أن تقع الفأس في الرأس، ستعي -مرة أخرى-أهوال التطرف والهُويات القاتلة. الذكرى شيء، يقول ماتشادو Machado ، والتذكر شيء آخر.