من حين لآخر تذهب الرياح ببعض الملاحظين والمهتمين بالشأن الفكري والثقافي إلى التماهي مع الانطباعات والخواطر، إلى حد محاولة "تطويع" بعض تقاليد المغاربة لتستقيم مع خواطرهم. والقصد هنا هو استغلال ما يسجله كاتب مغربي، له مساهمات فكرية معروفة، وقرصنة أفكاره التي تحدثت عن موضوع حفل الولاء وتقبيل يد الملك، وذلك باستغلال "خواطره.." المنشورة في كتاب، إلى الدعوة لإلغاء حفل الولاء وطقوسه وكذا تقبيل يد الملك، وذلك بعد أن يدعي ما يفيد بأن هذه الطقوس لم تعد "تتلاءم مع واقع اليوم". في وقت أن الكلام في الموضوع، ومن كل زواياه، كان يفترض، من هذا الكاتب "الصحفي والسياسي" وغيره، التحفظ والابتعاد عن مثل هذه الإطلاقيات وعن التأويلات السياسية المتأثرة بنظرة "العصرنة" أو "الحداثة" السطحية، وذلك بالنظر إلى: * أن التعبير عن الاحترام الواجب لجلالة الملك وحبه من لدن شرائح المجتمع ونخبه هو قبل كل شيء تقليد مغربي يمتد عميقا في تاريخ هذا البلد وثقافته. * أن أواصر البيعة التي تربط العرش بالشعب تجعل من حفل الولاء موعدا رمزيا لتجديد وشائج هذا الارتباط المتين بين أفراد الأمة ومؤسساتها، والجالس على العرش. * أن شكليات التعبير عن الامتنان لجلالة الملك هي تقدير فعلي، وفي نفس الآن فهي ليست ب "الضوابط" المفروضة. * أن جلالة الملك، وكما ينص الدستور، وعبر تاريخ الملكية المغربية، هو أولا : "أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية"، وهو بذلك أيضا له مكانته السامية عن كل التأويلات السياسية التي لا تراعي ثقافتنا الإسلامية وخصائص النسق السياسي المغربي. * أن هذه الخصائص ملتصقة بالشخصية المغربية، وليس من شأنها تقييد أو الحيلولة دون العمل بثقافة وسياسة الانفتاح، واختيار طريق التقدم والتطور. ومن هنا، فإن كان هناك من يدعو إلى الاهتمام بقضايا اليوم، فإن مثل هذه الدعوة ينبغي أن تنطلق من الأسئلة الحقيقية التي توضع أمام مغرب اليوم بكل مكوناته وجهاته وشرائحه الاجتماعية. ومناقشة موضوع البيعة بالمغرب، ليس بالأمر الهين ولا مجرد ترف فكري أو نزوة إيديولوجية، وعندما يعتقد البعض أنه بمجرد النبش والحفر بخلفية معادية للخصوصية المغربية، يمكن إحداث قطيعة بين الأجيال الحالية والصاعدة مع ماضيها وتراثها وتقاليدها المرعية شرعيا ودستوريا وديمقراطيا، علما أن هذه الخصوصية وتلك التقاليد والأعراف تمتد إلى 12 عشر قرنا، فإن ذلك يعني أنه يريد أن يتعاطي مع هذا الموضوع الهوياتي خارج السياق الطبيعي الذي تمثله البيعة بمختلف شكلياتها ومضامينها الشرعية والدستورية والسياسية، ويغالط نفسه قبل أن يغالط الآخرين، ويبحث عن أعذار ومبررات ومسوغات فكرية ونظرية، يهدف من ورائها إلى محاولة نسف النسق السياسي المغربي، والأسس التي بنيت عليها الدولة في المغرب على مدى قرون عديدة، والتي بفضلها حافظ المغرب على وحدته وسيادته وتميزه الحضاري والسياسي والثقافي والمذهبي، وهي الأسس التي أضحت اليوم تجمع، مع التطور الذي عرفته الأنظمة السياسية في العالم، بين مرتكزين اثنين هما إمارة المؤمنين بما هي خصوصية مغربية تستمد مقوماتها من أحكام البيعة الشرعية في الإسلام ، وبين رئاسة الدولة التي هي مظهر من مظاهر الحكم الحديث المبني على المبادئ الدستورية والقواعد الديمقراطية. إنه من الخطأ الكبير الاعتقاد أن البيعة كما هي بمظاهرها و شكلياتها وأعرافها المرعية بالمغرب، مناقضة لمفهوم العقد الاجتماعي كما هو متعارف عليه في الفكر السياسي الغربي، في الوقت الذي ظلت تمثل آلية من آليات من الحاكم السلطاني المستمد من روح ومقاصد الشرع الإسلامي، والذي بموجبه على الإمام أو الخليفة أو الأمير بعد البيعة له من قبل علماء الأمة ووجهائها ورجالات الدولة حماية بيضة الإسلام وسيادة الأمة وأمنها واستقراها، ورعاية شؤون المسلمين وقضاء مصالحهم، وهي مقاصد لا تخرج عن مبادئ الحكم الديمقراطي كما هو متعارف عليه اليوم. ومن ثم، فإن مسألة تقبيل اليد أو الكتف والانحناء احتراما وتوقيرا للجالس على العرش، لا تختلف عما تعرفه بعض الملكيات في العالم مثل اليابان أو بريطانيا، اللتين ما زالتا متمسكتين بتقاليد حكمهما الملكي العريقة ، دون أن يشكل ذلك عائقا فكريا أو سياسيا لدى النخبة السياسية والمثقفة هناك، بما أن التمسك بتلك التقاليد هو تكريس للخصوصية التي يتميز بها هذان البلدان، وقس على ذلك غيرهما من الملكيات في العالم، بالإضافة إلى بابا الفاتيكان، فالمغرب ليس بدعا في ذلك، إذ حتى فرنسا الجمهورية أبت إلا أن تحافظ على الكثير من تقاليد وخصوصيات فرنسا الملكية، والتي ما زلنا نشاهد بعضها إلى اليوم في حفلات تنصيب الرئيس، والتي تعود إلى تقاليد تنصيب الملوك الفرنسيين. لقد نجحت الملكية المغربية منذ الاستقلال في أن تؤلف بين متطلبات الحكم الحديث وآلياته من دستور وانتخابات وبرلمان وحكومة منبثقة عنه، وبين الحفاظ على مقومات إمارة المؤمنين التي تشكل البيعة فيها مظهرا من مظاهر تجديد العهد بين أمير المؤمنين ورعيته من المسلمين، مثلما تعتبر الدساتير المتتالية منذ 1962 عقدا اجتماعيا ينظم العلاقة بين الملك والشعب والمؤسسات، وذلك ضمانا وتحقيقا للاستقرار، وتكريسا لمبدأ الشراكة بين الطبقة السياسية والمؤسسة الملكية، وهو ما يفند دعوى التناقض بين إمارة المؤمنين ورئاسة الدولة الحديثة ، وبين البيعة الشرعية و الدستور، وبالتالي لا معنى للنبش في شكليات ومظاهر البيعة وحفل الولاء ومناقشتها بطريقة أقرب ما تكون إلى "السفسطة" منها إلى الفكر الرزين، إذ أن ملوك المغرب منذ الاستقلال لم يفرضوا يوما على أحد تقبيل اليد، وبقي الأمر متعلقا بالشخص وطريقة تعبيره في احترام شخص الملك، حيث فضل البعض تقبيل الكتف والبعض الآخر الانحناء والسلام على الملك مثلما هو الحال في ملكيات أخرى. إن الأنظمة السياسية في العالم كله لديها بروتوكولها الخاص، ولا تختلف الملكية المغربية بمظهريها الشرعي والعصري عن الملكيات والأنظمة الرئاسية، بل كانت سباقة منذ قرون في مجال البروتوكول أو التقاليد والأعراف السلطانية، بما جعلها موضوعا لأبحاث ودراسات أبرزت مكانة ووزن البيعة في النظام السياسي المغربي الحديث. إن الأسئلة الحقيقية التي تتغيى بناء المستقبل لا يمكن أن تركز إلا على التحديات والرهانات الكبرى التي تواجهها بلادنا في مختلف المجالات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والثقافية، وحري بالجميع وبالذات، رجال ونساء الفكر والتنظير السياسي، الاهتمام بالإشكاليات والصعاب التي تطرح على هذا المستوى، والاجتهاد لبلورة السبل الممكنة لمواجهتها ومعالجتها، لأن ذلك هو ما يعبد الطريق أمامنا للالتحاق بقطار التقدم والنماء والحداثة.