سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    ميارة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    إسبانيا تُطارد مغربيا متهما في جريمة قتل ضابطين بالحرس المدني    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    احتفاء بموظفي مؤسسة السجن في أزيلال    الزمالك المصري يتلقى ضربة قوية قبل مواجهة نهضة بركان    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    أمن فاس يلقي القبض على قاتل تلميذة    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    الإيسيسكو تحتضن ندوة ثقافية حول مكانة المرأة في الحضارة اليمنية    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي        المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من أخبار كبار المفكرين و الأدباء و الفنانين و العلماء و العظماء .2/3
نشر في الشرق المغربية يوم 19 - 05 - 2012


حول الصحة و المرض و القلق و الجنون و العبقرية./
يقرأ للدكتور هاشم صالح،جزاه الله تعالى خير الجزاء بحث قيم تحت عنوان:
بين الأدب و الفن و النفس
بين العبقرية و الجنون
و لأهمية لهذا العمل الفكري العظيم،و توسيعا ،و تعميما لدائرة الانتفاع بما انطوى عليه من أخبار هامة أنشره في 03 حلقات للاطلاع عليه ، و الاعتبار بقصص صناع التاريخ الأنساني من كبار المفكرين الأدباء و الفنانين، و العلماء و العظماء الذي ملأت أسماؤهم الدنيا،و الاستفادة منه، و الإفادة به بعون الله و توفيقه 2/3
والآن ماذا عن القلق؟ في الواقع أن العباقرة شخصيات قلقة حساسة إلى درجة المرض والتطرف الأقصى. ولو سمعنا كل حكاياتهم وقصصهم العجيبة الغريبة لحمدنا الله على أننا لسنا عباقرة ! لنضرب على ذلك مثلاً شوبنهاور. فقد كان مصابا بجنون العظمة وعقدة الاضطهاد في آن معاً. وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد.. ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده من أجل خنق عبقريته أو القضاء على إبداعه الفلسفي. ألا يقترب ذلك من الجنون؟ أين تقع الحدود الفاصلة بين العقل والجنون؟ فمنذ عام ( 1814) أي عندما كان في السادسة والعشرين من عمره راح يقارن نفسه بالمسيح ويعتبر أنه مبعوث لهداية البشر على طريق الحقيقة. يقول:"يحصل لي ما حصل ليسوع الناصري عندما أيقظ حوارييه أو أتباعه النائمين. أنا رجل الحقيقة الوحيد في هذا العالم". ولكن جنون العظمة هذا تحول فيما بعد إلى عكسه، أي إلى عقدة الاضطهاد ثم أصبح مسكوناً بهاجس القلق الأقصى والمرعب إلى درجة أنه كان يرفض أن يسكن في الطابق الثاني أو الثالث من البناية خشية أن يحصل حريق فيها فلا يستطيع القفز أو الهرب قبل فوات الأوان ! فكان يحمل مسدساً معه باستمرار ويضع يده عليه مستنفراً ما إن يسمع ضجة خفيفة أو هبة ريح في الخارج باعتبار أن هناك دائماً أشخاصاً قادمين لاغتياله.. يضاف إلى ذلك أنه كان يكتب أفكاره للوهلة الأولى باللغات الإغريقية واللاتينية بل وحتى السنسكريتية ويخبئها بين صفحات كتبه كي لا يقع عليها أحدهم ويسرقها منه ! فقد كان يعتقد كما قلنا أنهم سيسرقوها منه وينسبوها إلى أنفسهم. وكان يحقد على معاصره هيجل حقداً شديداً لأنه نجح ولمع، في حين أنه هو بقي مجهولاً طيلة حياته كلها تقريباً. وكل هذا لم يمنع من أن يكون أحد كبار فلاسفة العصور الحديثة.
وإذاً ينبغي أن ننزع من أذهاننا تلك الصورة المثالية والأسطورية عن العبقري. فهو رجل عادي، بل وأقل من عادي في بعض تصرفاته إنه تافه جداً أحياناً. وربما كان هدف العبقري الدائم هو أن يصبح رجلاً عادياً كبقية البشر. ولكن بما أنه لايستطيع التوصل إلى ذلك فإنه يلجأ إلى الخلق والإبداع من أجل الحفاظ على توازنه. فإذا ما نجح في ذلك قال الناس عنه بأنا عبقري، وإذا ما فشل قالوا إنه مجنون. وهنا يكمن الفرق بين العبقرية والجنون.
لنتحدث الآن عن جان جاك روسو الذي يعتبر في الغرب نبي العصور الحديثة. أليس هو القائل: لو أردت أن أكون نبياً من كان سيمنعني؟! فقد كان مصابا بعقدة الاضطهاد أيضاً. وكان يعتقد أن هناك مؤامرة جهنمية تحاك ضده في كل مكان، وخصوصاً في الفترة الثانية من حياته. وكان يشك حتى بأصدقائه من أمثال ديادرو وهيوم وفولتير.. بل ويقال بأنه غير سكنه أكثر من مرة خوفاً من ملاحقة وهمية. وعندما سمع أحد الجيران بأن روسو هو الذي يسكن في الغرفة المجاورة له لم يكن يصدق. وقال: سأتعرف الآن على أكبر شخص في العالم ولكن روسو صده مباشرة متوهماً بأنه جاسوس ! فانكسر الرجل وحزن حزناً شديداً لأنه كان فقط يريد السلام عليه.. بالطبع فإن روسو لم يكن فقط ذلك، وإنما كان أيضاً إنساناً رحيماً شفوقاً يمتلئ بالعاطفة والحنان والمحبة للجنس البشري كله. ولكنه كان معقداً نفسياً لأسباب خاصة بحياته والمصاعب التي لاقاها والحسد الكبير الذي أثاره حوله بسبب عبقريته وشهرته الأسطورية. فالشهرة ليست خيراً كلها، وإنما تسبب متاعب كبيرة، بل ومخاطر جسيمة لأصحابها، وويل لمن يشتهر بدون إذن الناس ! لكأنه يسرق منهم شيئاً أو يعتدي عليهم.. ولكن قلق العباقرة يمكن أن يصل أحياناً إلى درجة الانهيار الكامل: أي الجنون الحقيقي. وهذا ما حصل للموسيقار روبيرت شومان الذي قال لأصدقائه عام 1854: " أريد أن أدخل المصح المقلي. لقد انتهيت. أنا لم أعد مسؤولاً عن تصرفاتي أرجوكم اسجنوني...".
وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال لهم: " أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء (أي في المصح العقلي ) والناس في الخارج كلهم مجانين !..." وأما أندريه بريتون الذي لم يكن مجنوناً إلا على الطريقة السوريالية فقد احتج على سجن العباقرة في المصحات العقلية وقال: إن كل هذا السجن تعسفي. لا أفهم كيف يحرمون شخصاً ما من حريته. لقد سجنوا ساد وسجنوا نيتشه، وسجنوا بودلير.." وكان يمكن أن يضيف: كونراد، وموباسان، وهولدرلين، وهمنجواي، وفان كوخ ، وألتوسير وغيرهم.. هذا القلق النفسي الرهيب الذي كان يعاني منه معظم الكتاب يتجلى أيضاً لدى بيير كامو. فقد صرح لأحد أصدقائه المقربين أكثر من مرة بأنه يشعر بأن الخواء الداخلي يكتسحه كلياً، وأنه ملي ء باليأس القاتل ولا يستبعد أن يلجأ للانتحار لحمل لمشكلته.. والواقع أنه مات في حادث سيارة على طريق " ليون - باريس"، فهل كان ذلك انتحاراً واعيا أم لا؟ على أي حال لقد أنقذه الحادث من الانتحار. ونلاحظ أن الإحباط واليأس الكامل يتجليان في كتابه المعروف " أسطورة سيزيف ". وهو كتاب جميل ويستحق أن يقرأ من أجل تبيان فراغ الحداثة وهشاشة الوجود. ( لا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية أم لا ).
لنتحدث الآن عن بودلير .. فقد مات أبوه وهو صغير . وكان متعلقاً بأمه إلى درجة المرض. ولكن الكارثة حصلت عندما تزوجت أمه من الجنرال "أوبيك" بعد فترة قصيرة فقط من موت والده وهذا ما سبب له حزناً عميقاً لم يقم منه طيلة حياته كلها. فقد اعتبر أنهم سرقوا أمه منه، وأنها خانته، ولم يعد يستطيع أن يتخيل أنها مع رجل آخر... يا للخيانة ! ويا للغدر! في الواقع أن بودلير كان يعاني من عقدة أوديب التي اكتشفها فرويد، وبلورها لأول مرة. وقد فكر بالانتحار أكثر من مرة، بل وقام بمحاولة انتحار فاشلة عندما ضرب صدره بالسيف. يقول لأحدهم معبراً عن يأسه الداخلي وتقززه من الحياة : أسوف أقتل نفسي غير آسف عل الحياة . سوف انتحر لأني لم أعد قادراً على الحياة. لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم. يا لها من عادة مملة رتيبة. أريد أن أنام مرة واحدة وإلى الأبد. سوف أنتحر لأني أصبحت عالة على الأخرين، لأني أشكل خطراً حتى على نفسي . سوفأنتحر لأني أعتقد بأني خالد ومليء باللا أمل"(9).
الواقع أن الاكتئاب شائع كثيراً لدى كبار المبدعين. نضرب على ذلك مثلاً بيتهوفن. فهو أحد كبار الموسيقيين على مر العصور. ولكنه لم يعش حياة مريحة أو هنيئة كلنا يعرف أنهكان أطرشاً لا يسمع. وقد سبب له ذلك عقدة نفسية حقيقية. وربما كانت هي الدافع إلى تفجر عبقريته. فالعبقرية تجيء كتعويض عن نقص ما أو خلل ما كما يقول التحليل النفسي. كان بيتهوفن بحسب ما يروي لنا معاصروه يتميز بالسوداوية والحزن العميق الذي لا شفاء منه. وحتى عندما كان يضحك فإن ضحكته كانت بشعة. عنيفة، ناشزة غير طبيعية. كانت ضحكة رجل لم يتعود على الفرح أبداً في حياته. وعندما كانت تجيئه لحظة الإلهام، فإنه كان يخرج عن طوره ويصبح وكأنه أصيب بمس من جنون يصبح غائباً، سارحاً، شارداً والناس يضجون من حوله، ولكنه لا يعبأ بهم عل الإطلاق. وكان يصرخ بأعلى صوته، ويتمتم، ويدندن، ويمسح غرفته، ذهاباً وإياباً. وهو في حالة من التوتر الأقصى، حتى تحصل الولادة السعيدة، أو القطعة الموسيقية المنشودة. وبالتالي فهناك علاقة واضحة بين التوتر النفسي ، إن لم نقل المرض النفسي وبين الإبداع.
نضرب على ذلك مثلاً أخيراً الرسام الفرنسي الشهير كلود مونيه، أحد مؤسسي المدرسة الانطباعية في الفن. فقد كان على حافة الانهيار النفسي، وكان يشهد حالة الإحباط التي تسبق وتتلو كل عملية إبداع: أي كلما رسم لوحة فنية، وكان مازوشياً زاهداً في نفسه، مستصغراً لقدراته ولا ينفك يقول: كل شيء ضاع، لن أنجح في حياتي أبداً، سوف تخسر كل أعمالي، سوف أضطر لبيع البيت والفرش والأدوات الخ.. ومع ذلك فقد سجله التاريخ كأحد كبار الفنانين في العصر الحديث..
قلنا إذاً بأن العبقري يشترك مع المجنون (أو مع المريض العقلي ) بصفة أساسية واحدة: هي التأزم الداخلي، ولكن الفرق بينهما هو أن أزمة العبقري تنحل عن طريق الإبداع، في حين أن أزمة المجنون تبدو مجانية ولا تؤدي إلا إلى الهذيان الفارغ. هذا يعني أنه لولا إبداعه الخارق لكان العبقري قد أصبح مجنوناً .
فالإبداع هو الذي يحرر الشخصية من أزمتها الداخلية أو من تناقضها الحاد الذي يبدو عصياً على التجاوز في الحالات العادية. بهذا المعنى فإن الإبداع هو انفجار خارج من الأعماق. إنه ولادة تجيء بعد مخاض عنيف وخطر. وهكذا يستعيد المبدع توازنه لفترة من الزمن، وذلك قبل أن يدخل في دورة تأزمية جديدة تنحل أيضاً عن طريق إبداع جديد وهكذا دواليك.. نقول ذلك وبخاصة إذا ما لقي الإبداع ترحيباً في وقته من قبل شريحة واسعة من الناس. وهكذا يتوازن العبقري على اعتراف الناس وإعجابهم به.، ولولا هذا الاعتراف لربما فقد توازنه وغطس في بحر الجنون. فاعتراف الآخرين بك يعطيك ثقة بالنفس ويثبت أقدامك ويزيل الكابوس النفسي عن صدرك. والواقع أن تعريف العبقرية هو هذا : اعتراف العدد الأكبر من الناس بالمبدع، وديمومة هذا الاعتراف على مدار الزمن والقرون. هذا هو الشي ء الذي يعطي قيمة لا تقدر بثمن للوحات ميكيل أنجيلو ، أو فان كوخ ، أو لمسرحيات شكسبير، أو لروايات بلزاك وديستويفسكي، أو لكتب ديكارت، وكانط وهيجل في مجال الفلسفة، الخ.. ولكن المشكلة هي أن بعض العباقرة لم يتوازنوا نفسياً حتى بعد أن أبدعوا، كما حصل لفان كوخ وشومان وفيرجينيا وولف ونيتشه.
وربما كان السبب الأساسي يعود إلى أنهم لم يحظوا بالاعتراف الكامل بهم أثناء حياتهم، وإنما بعد مماتهم، فقد جاء الاعتراف متأخراً ، جاء بعد فوات الأوان. وينطبق ذلك أكثر ما ينطبق على فان كوخ الذي تباع لوحاته الآن بعشرات الملايين من الدولارات، في حين أنه كان جائعاً وفقيراً في حياته. لم يتح له القدر أن ينعم بشهرته ونتاج عبقريته. وقل الأمر نفسه عن نيتشه الذي لم يعترف به إلا نفر قليل في حياته، ثم انفجرت شهرته كالقنبلة الموقوتة بعد جنونه أو موته بوقت قصير. وكان قد تنبأ بذلك عندما قال جملته الشهيرة: البعض يولدون بعد موتهم ! سوف يجيء يومي، ولكن لن أكون هنا. وقد تنعمت أخته " إليزابيث " بهذه الشهرة والمال العريض الناتج عن بيع أعمال أخيها بملايين النسخ، في حين أنه لم يبع منها إلا بضع عشرات في حياته كلها.. ولكن يمكن القول بأن هناك نفوساً عطشى لا تشبع حتى بعد أن ترتوي. إنها أرواح حائرة لا يعرف كنهها أو سرها. وأكبر مثل على ذلك الكاتبة الانجليزية فيرجينيا وولف التي انتحرت حتى بعد أن نجحت وذاقت طعم الشهرة في حياتها..
في يوم الاثنين بتاريخ 27 فبراير 1854 كان الموسيقار الألماني الشهير روبيرت شومان جالساً مع أصدقائه في جلسة سمر في بيته. وفجأة يترك الزوار ويخرج بثيابه العادية. واعتقد أصدقاؤه عندئذ أنه خرج لحاجة ما وأنه سيعود بعد قليل. ولكنه في الواقع توجه مباشرة إلى نهر الراين وألقى بنفسه فيه بعد أن وصل تأزمه إلى حده الأقصى. ولحسن حظه (أو لسوء حظه، لم نعد نعرف ) كان هناك صيادون بالقرب منه فانتشلوه وأنقذوه من الغرق..
وفي عام 1880 كان عمر نيتشه 36 سنة. عندئذ ترك الجامعة بعد أن قدم استقالته وذهب لكي يعيش حياة التشرد والضياع على الطرقات والدروب. وهكذا ابتدأ يصبح فيلسوفاًحقيقياً. ولكن مزاجه كان دائماً متقلباً وفكرة الانتحار تلاحقه باستمرار. وقد اشتد تأزمه بعد أن فشل حبه الكبير للغادة الحسناء: لواندريا سالومي. ويبدو أنه قام بثلاث محاولات انتحار فاشلة عن طريق تجرع كميات ضخمة من سائل الكلورال. ولكنه لم يمت. والغريب العجيب أنه على أثر تلك الفترة بالذات راح يكتب رائعته الشهيرة: هكذا تكلم زرادشت وهكذا أنقذ من الجنون ولو إلى حين..
أما فيرجينيا وولف فقصتها مختلفة. فقد كانت مهددة بالانتحار طيلة حياتها كلها. وكانت تغطس في حزن عميق لا قرار له. وترفض أن تأكل، وترفض أن تعترف بأنها مريضة. وكانت تقول بأن حالتها تعود إلى شعورها بالذنب. ولكن أي ذنب؟ لا أحد يعرف. وعندما وصل تأزمها إلى ذررته حاولت أن تنتحر مرة أولى عام 1895 عن طريق إلقاء نفسها من النافذة. ثم حاولت مرة ثانية عام 1913 عن طريق تناول السم. ثم حاولت مرة ثالثة عام 1941 (ونجحت ) عن طريق إلقاء نفسها في النهر والموت غرقاً..
أما الكاتب الفرنسي الشهير دو مو باسان فقد حاول الانتحار عام 1892 عندما أطبقت عليه الأفكار السوداء ووصل تأزمه إلى ذررته. ولكنه لم ينجح. فاقتادوه إلى المصح العقلي حيث مات بعد سنة من ذلك التاريخ. وهكذا دفع ثمن شهرته وإبداعه غالياً .
والآن من يصدق أن الفيلسوف الفرنسي الكبير أوجست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، كان على حافة الجنون أكثر من مرة، وأنه حاول الانتحار عن طريق رمي نفسه في نهر السين !.. وبما أن الوضعية تمثل قمة العقلانية في الغرب، فإن أحداً لا يتوقع أن يكون مؤسسها قد أصيب بالجنون ، أو بالانهيار النفسي ، في بعض مراحل حياته. وهو دليل على أن العبقرية يمكن أن تخرج من رحم الجنون، بل وتنتصر على الجنون. ولولا أن أوجست كونت استطاع التوصل إلى بلورة فلسفته الوضعية وحظي بالإعجاب والتقدير من قبل معاصريه لكان قد انهار وغاص كلياً في ليل الجنون...
إذاً ينبغي أن نغير تلك الصورة السائدة في أذهاننا عن العباقرة والتي تعتبرهم أنهم فوق البشر وأن الضعف لا يأتيهم من بين أيديهم ولا من خلفهم.. فهذه صورة مثالية أو أسطورية لا علاقة لها بالواقع. إنها صورة تتشكل عادة عن العباقرة بعد موتهم،. صورة تبجيلية يساهم في صنعها الأتباع والأنصار والمعجبون هذا لا يعني بالطبع أن العبقري ليس عظيماً ، إذ يكفيه عظمة أنه استطاع الانتصار على انهياره الداخلي وتحويله إلى شيء ايجابي، إلى عمل عبقري. هنا تكمن عظمة العباقرة بالضبط. فهم يبذلون جهوداً جبارة للتغلب على أنفسهم، لقهر العقد النفسية المتجذرة في أعماقهم. وهكذا يحولون السلب إلى إيجاب والتحت إلى فوق، والجنون إلى عبقريات. أو قل إن الجنون والعبقرية يتجاوران لديهم جنباً إلى جنب. فأوجست كونت الذي كان يهذي والذي حاول الانتحار مرة هو نفسه أوجست كونت الذي أسس الفلسفة العلمية التي رافقت صعود العصر الصناعي في الغرب. وبالتالي فإنه يمثل قمة العقلانية وقمة الجنون في آن معاً ! وبالتالي فإن العبقرية والجنون هما من مصدر واحد: أي يصدران عن اللاوعي السحيق للفرد، ذلك اللاوعي الذي يمثل قارة مظلمة ومجهولة في آن معاً. إنها تشبه البركان العميق الذي يختلج تحت طبقات الأرض الجيولوجية. فأحيانا تقذف بالعبقرية إلى السطح، وأحياناً تقذف بالهذيان والجنون.
وأما جوته فعلى الرغم من الجنون الدوري الثقيل الذي كان يصيبه من حين إلى آخر، إلا أنه لم يقدم على الانتحار. وإنما اكتفى بأن جعل بطل روايته الأولى " آلام الشاب فيرتر " هو الذي ينتحر وهكذا وفر على نفسه هذه المهمة، ويقال بأن الكتاب الذين يمارسون الانتحار في كتاباتهم، أو يتحدثون عنه كثيراً ، لا ينتحرون فعلاً. وأما أولئك الذين يسكتون عنه كليا فهم الذين ينتحرون حقاً . وهكذا يفاجئون الناس بأنهم أقاموا على شي ء بدون مقدمات ودون أن يرهصوا به. وقد جرت إحصائيات في فرنسا عن نسبة المنتحرين بين المبدعين وتبين أنها عالية في أوساط الأدباء والشعراء وضعيفة في أوساط الرسامين والموسيقيين . نقول ذلك على الرغم من انتحار فان كوخ وجو جان وشومان وتشايكوفسكي. ولكن عددهم لا يقاس بأسماء الشعراء والروائيين الذين انتحروا من أمثال : جيرار دونيرفال، مايكوفسكي، بودلير، همنجواي، مونترلان، جي دوموباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو ، والقائمة طويلة..
أخيرا سوف يكون من الحمق والغباء أن ندعي هنا بأننا قادرون على اكتشاف سر العبقرية. فالعبقرية، تحديداً ، هي سر الأسرار إنها تستعصي على كل تفسير. ولكن يمكن فهم بعض الجوانب المحيطة بها من خلال تجلياتها في أشخاص معينين ندعوهم بالعباقرة ، أو بالأشخاص الاستثنائيين أو بالمبدعين الكبار كما نحب أن نقول في لغتنا المعاصرة، وذلك لأن كلمة "عبقري" أو "عبقرية" أصبحت عتيقة أو بالية في الوقت الراهن. نقول ذلك على الرغم من أن المعنى هو ذاته. فلا أحد يعرف سر مسرحيات شكسبير الرائعة، أو سبب نجاح لوحات فان كوخ، أو قصائد رامبو، الخ.. صحيح أنه يمكن لمناهج النقد الأدبي والفني أن تشرح لنا الكثير من جوانب هذه الأعمال الإبداعية، بل وتنفذ إلى أعماقها في بعض الأحيان. ولكن يبقى هناك لغز ما يصعب الوصول إليه واستنفاده كلياً عن طريق التحليل. وهذا اللغز هو ما يدعى بالعبقرية.
فرامبو كان يستخدم اللفة الفرنسية مثله في ذلك مثل بقية شعراء جيله. ولكنه هو الوحيد الذي استطاع أن يكتب تلك القصائد التي لا تضاهى والتي لا تزال تسحرنا حتى الآن. يمكن أن نقول الشي ء ذاته عن المتنبي في اللغة العربية، أيضا أو حتى عن شعراء كبار آخرين. وإذاً فهناك كيمياء سحرية أو سرية للإبداع لا نعرف كنهها، ولا يتوصل إليها إلا المبدع الكبير (أو العبقري). إنه يركب الكلمات بطريقة ما وينفخ فيها الروح ثم يسطرها قصائد خالدة على صفحات التاريخ. وتظل تعجبنا وتأخذ بقلوبنا حتى بعد مرور مئات السنين. هنا يكمن سر العبقرية أو لغزها المحير. لقد حاول علم الطب النفسي والتحليل النفسي أن يكتشف سر العبقرية وتوصلا إلى نتائج لا يستهان بها، ولكن يبقى هناك شيء ما في العبقرية يستعصي على كل تفسير. يقول جاستون باشلار، أحد كبار العلماء والنقاد الأدبيين في آن معاً :"في أعماق الطبيعة ينبت عشب غريب. في ظلام المادة تنبثق أزهار سوداء. إن لها قطائفها الرائعة وعطرها الفواح"..
هكذا تولد العبقرية: إنها كالنور الذي ينبثق من رحم الظلام، أو كالعقل الذي ينهض عل أنقاض الجنون. والعلامة الأساسية التي لا تخطي، على العبقرية هو الاعتراف الكامل والكوني والدائم بها. فلا أحد يشك في عبقرية شكسبير، أو المتنبي أو المعري أو بودلير أو نيتشه أو هيجل.. وكلما مرت الأزمان على إنتاجهم عتق ونضج كالخمرة المعتقة وأصبح أكثر أهمية وامتلاء بالمعاني والدلالات.
لقد أثبت الطب النفسي الحديث بعد أن أجرى دراسات تجريبية عديدة أن العبقري لايتميز بتركيبة نفسية خاصة بقدر ما يتميز بتشغيل خاص لهذه التركيبة النفسية. فهو إنسان مثله مثل بقية البشر. ولكن استعداده النفسي مختلف،. فهو يتميز مثلاً بطاقة هائلة عل الحركة والابداع قياساً بالإنسان العادي. كما أنه يتميز بالاختلاف وحب الخروج على المألوف. فالامتثالي الخاضع للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع لا يمكن أن يكون عبقرياً. لأن أول سمة من سمات العبقرية هي الشذوذ عن المألوف. ولذلك فإن العباقرة يصدمون الناس في البداية ويلاقون صعوبات جمة من قبل وسطهم والمحيط السائد. ثم يمضي وقت طويل قبل أن يتم الاعتراف بهم، وأحياناً لا يعترف بهم إلا بعد موتهم. وحده العبقري يعرف قيمته منذ البداية، ولكنه لا يستطيع إقناع الآخرين بها فوراً بمن فيهم أسرته الشخصية. ولذلك يعاني معاناة جمة ويصاب بالإحباط في لحظات كثيرة، ويحاول التراجع عن الأمر أو الاستسلام، ولكن هناك قوة داخلية فيه أي قوة سرية، تدفعه لأن يستمر، لأن يواظب على مسيرته. ولذلك قلنا بأن من صفات العبقري الصبر والمواظبة لفترة طويلة من الزمن. إنه عنيد فعلاً، ولا يتراجع قبل أن يتواصل إلى تنفيذ المهمة التي خلق من أجلها. لذلك انه ينبغي أن نعتقد بأن العبقري يعتبر نفسه محملاً برسالة أو مسؤولاً عن تنفيذ مهمة عليا تتجاوزه وهو مستعد لأنه يضحي بحياته من أجلها، ومن أجلها وحدها. من هنا تجيء سر قوته ومقدرته على تجاوز العقبات والحواجز التي يصطدم بها في طريقه، والتي يضعها الآخرون في طريقه، فالعبقري ما إن يكتشف الآخرون نواياه الحقيقية حتى يتألبوا عليه ويحاولوا منعه من تحقيق مهمته. العبقري مهدد باستمرار خصوصاً في مراحله الأولى، والعبقرية خطر على صاحبها. ويصل هذا الخطر أحياناً إلى مرحلة التهديد بالتصفية الجسدية.
لماذا كل هذا الخطر على العبقري؟ لأنه ليس من الطبيعي أن تكون عبقرياً، وإنما الطبيعي أن تكون عادياً مثلك مثل بقية البشر. ولذا فما إن يشعر الناس بأنك عبقري، أو تحمل بذرة العبقرية في داخلك، حتى يعترضوا طريقك ويحاولوا الإيقاع بك بشتى الأسباب. فالحسد قاتل أحياناً. وأحياناً يجيء من قبل عباقرة سابقين لا يريدون أن تتفتح أي موهبة بعدهم. وتروي الأسطورة أن أم كلثوم قد ساهمت في القضاء على أسمهان لأنها غارت منها وخافت أن تنافسها بعد أن سمعت صوتها وعرفت أنها عبقرية. وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة أم لا فإنها تدل على شي ء ما. وتروي الروايات أن شعراء كباراً حاولوا القضاء على بعض المواهب الجديدة أو الصاعدة لأنهم أحسوا بأنها تشكل خطراً علىأمجادهم.. نعم إن العبقري يدخل في الدائرة الحمراء للخطر ما إن يشعر بعضهم بأنه قد يصبح عبقرياً ويحل محلهم.
ولكن هناك خطراً أخر يهدد العبقري كما ألمحنا إلى ذلك أكثر من مرة ألا وهو: الجنون أو التوتر العقلي الشديد أو الهيجان. وقد أثبتت أخر دراسة احصائية أجريت مؤخراً على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، أي أنها حديثة العهد جداً، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب.. وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبين بعد إجراء هذه الدراسة أن هؤلاء العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية. فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، بل وتشلهم عن الإبداع في بعض فترات العمر. وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%. ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة (حوالي 30% ) ولا نستطيع أن نحصي عدد الشعراء والروائيين الذين أصيبوا بالجنون أو المرض العقلي بشكل جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، ولكن هذا لا يلغي إبداعهم أو عظمتهم و عبقريتهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.