على سبيل البدء تقيم شهادة البكالوريا الدنيا و لا تقعدها، فهي الطريق السيار نحو المستقبل- كما هو شائع - وهكذا نجد جل التلاميذ ومعهم أهلهم مسكونين بحفريات الغد القاحل لمستقبل يرونه بزنطيا. ترى العائلات تبذل ما في جهدها لتمكين أبنائها من بلوغ مرادهم؛ إما بدروس الدعم و التقوية وإما بالدعم لاقتناء بطائق الجوال و الهواتف النقالة و التصغيرات... فكم من الوقت تقضي ناشئتنا في البحث عن طرق لخداع القائمين بالحراسة؟ و أي دور للعائلة في تربية النشء على القيم الإنسانية النبيلة؟ أما كان حريا استثمار ذاك الوقت في استيعاب الدروس؟ أما كان حريا بالعائلات حفز أبنائها على التفوق، سيما ونحن في فترة حساسة نطالب فيها بالديمقراطية، و العدالة؟؟ لن نقف عند مناقشة هذا الأمر بقدر ما نود أن نلفت الانتباه إلى مجموعة من المشاكل التي تعانيها الناشئة بعد حصولها على البكالوريا وقبل الحصول عليها – عشناها بدورنا – و نحاول مناقشتها. 1. 1. عقدة التخصص أتحدث في هذه النقطة عن تمركز العلمي و الأدبي؛ حيث إن التخصص الأول محفوظ للمجدين بيدما الثاني محفوظ لمن هم دون المستوى، و النظرة هاته سائدة في المجتمع، حتى إن هناك تلاميذا يتوجهون إلى الشعبة العلمية قبل الأوان، استنادا إلى ما يموج في المجتمع من تنقيص للأدبي، فصار تلميذ الشعبة الأدبية يخجل من الإفصاح عن شعبته. و حين نسبر غور هذا التمركز، نجد أن سببه الرئيس سوق الشغل. و ها هنا، أتساءل هل العطالة مرادف لدارس الأدب فقط؟ إن الأصح أن العلوم و الأدب لكل منهما دوره في الحياة، فمثلا لإنجاز وصلة إشهارية نحن بحاجة إلى علميين و أدبيين، و قس على هذا. و حاصل القول إن قيمة كل امرئ ما يحسن أو بتعبير آخر المرء عدو ما يجهل. داخل التخصصات الأدبية هي الأخرى نجد تفاضلات بينها، شعب مرغوب فيها و شعب مرغوب عنها، وهو ما سنحاول التطرق إليه في النقطة الموالية, 1. 2. اختيار التخصص إن اختيار التخصص اليوم من قبل السواد الأعظم – إلا في ما ندر – خاضع للرغبة الجامحة في الحصول على الوظيفة، و من ثمة، فإن اختيار الشعبة لا ينبني على الميولات الشخصية للطالب، و إنما يبنيه على توجيهات خاطئة، انطلاقا مما يسمعه عن شعبة ما من تزيين أو تشيين، هذا الاختيار لا تكون عواقبه محمودة، و هو خطأ يتقاسمه الموجهون و الأهل في إنارة درب هذا التائق إلى كرسي شاغر؛ الموجهون في إجاباتهم عن أسئلة التلاميذ، غالبا ما يجيبونهم عن أسئلة بأجوبة عبارة عن وصفات جاهزة، مثلا إذا أردت أن تكون محاميا عليك التوجه للقانون و وصفات من هذا القبيل، ثم يقدم لك عدد سنوات الدراسة بها، و الحال أننا ينبغي أن نركز على ميول التلميذ و مجال تفوقه، فكل الشعب تؤدي إلى الوظيفة – و لنتفق أولا أن الأرزاق بيد الله – شريطة أن نمد الطالب و نوجهه لاستثمار ذاته في خدمة تخصصه، وإدماجه في سوق الشغل، لأن الطالب في نظري هو الذي يدمج تخصصه في سوق الشغل و ليس العكس، و إلا فلا داعي للدراسة إذا كان الطالب كَلاّ على تخصصه لا يبدع و لا يسعى لذلك، و لنأخذ مثالا عن طالب اللغة العربية، التي تتعرض لهجمات قديمة/ جديدة بدعوى التخلف عن الركب التكنولوجي و غيرها من المبررات الواهية، و الخطأ البين هنا أننا نؤنسن الشعب و نتهمها بالتخلف، و في ذلك تبرئة للنفس ضمنا، والصواب أننا المتخلفون، و حيوية الشعب قمينة بحيوية أهلها. إذا سلمنا بالاتهام السالف الذكر، فلماذا الإقبال المتزايد على تعلم اللغة العربية من قبل الناطقين بغيرها؟ لماذا اتجهت بعض المؤسسات الخصوصية إلى الاستثمار في هذا الاتجاه؟ لماذا تقل العربية عن نظيرتها من اللغات قيمة؟ أليست هي الأخرى لغة شأنها شأن باقي اللغات؟ إننا أمام جيل لا يحتاج سوى التحفيز و التوجيه السوي، ليبدع في جميع المجالات، ولعل خير مثال نضربه هنا رابطة نبراس الشباب للصحافة و الإعلام التي أسسها ذات يوم شباب جلهم كان في الثانوي، إنهم أدركوا أنه آن الأوان لدخول الزمن التكنولوجي،كما أدركوا تحدياته حين انبروا لعقد ملتقيات في المجال، ثالثها كان دوليا، أفليس هذا درسا في سمو الفكر والقدرة على الإبداع؟ على سبيل الختم إن مدار كل ما تقدم ذكره، هدفنا الرئيس منه هو التأكيد على أن الشعبة ليست هي صانعة المستقبل و مذرة الأموال، و إنما الطالب هو الذي يمنحها معنى في سوق الشغل، وتحاشينا التفصيل في طرق الإبداع حتى لا يظن ظان أننا ننتصر لشعبة معينة على أخرى، والحال أننا ممن يدعو إلى التكوينين العلمي و الأدبي في الآن ذاته ثم التخصص في ما بعد، و حاولنا من خلال إثارة بعض الأسئلة أن نبين أن كل الشعب تؤدي إلى سوق الشغل إذا ما صاحبها عرف كيف يبدع و لم يكن كلا على شعبته. وكان منطلقنا في الخوض في هذا الحديث غياب التوجيه الفعال للتلاميذ حتى يختاروا الشعب التي هم أهل لها بعيدا عن المزايدات التخصصية الضيقة, عود على بدء للأسرة قسط مهم في توجيه أبنائها و الإنصات لميولاتهم، وكذا تربيتهم على القيم الإنسانية النبيلة و حفزهم على التفوق بعيدا عن الأساليب الملتوية. سيجرني ختم هذه الأسطر بتساؤل مفاده، كثيرا ما تحدثنا عن البرلمانيين الرحل، لكن بالمقابل ألم يان الأوان أن نتحدث عن التلاميذ/ الطلبة الرحل؟ أعني بهم أولئك الذين ينتقلون من المنطقة الفلانية إلى العلانية للحصول على الباكالوريا لظروف التخفيف هناك.