يجسد الممثل مايكل فاسبِندر دور البطولة في فيلم جديد يتناول السيرة الذاتية لستيف جوبز مؤسس شركة آبل، والذي يمكن وصفه ب"أحد أيقونات عالم التكنولوجيا". ولكن هل قدم العمل جوبز على أنه عبقري أم وحش؟ في السطور المقبلة يحاول الناقد السينمائي أوين غيلبرمان التعرف على إجابة هذا السؤال. فيلم "ستيف جوبز"، يتناول السيرة الذاتية لمؤسس شركة آبل الراحل كتبه المؤلف آرون سوركين مؤلف فيلم "سوشيال نيتورك" "الشبكة الاجتماعية" وأخرجه داني بويل مخرج فيلم "سلَمْدوغ مليونير" "المليونير المتشرد". يبدأ العمل بعرض لقطات وثائقية مذهلة باللونين الأبيض والأسود تعود إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، يتحدث فيها آرثر كلارك مؤلف رواية "2001: أوديسا الفضاء"، ليصف على نحو دقيق بشكل غير عادي كيف ستبدو ثورة الكمبيوتر المنزلي في يوم ما. وعلى أي حال تبدو ملائمة هذا المقطع للفيلم واضحة أكثر من اللازم تقريبا، ولكنه يمثل كذلك ملاحظة ذات طابع ماكر وخبيث، فإذا كان بوسع كلارك التنبؤ بشكل المستقبل في هذا المضمار بتلك الدقة منذ نحو نصف قرن، فإن المعني الضمني الكامن هنا يتمثل في أن ستيف جوبز لم يبتكر هذا المستقبل ولكنه وضعه في مكانه ليس أكثر. وإذا تحدثنا عن الفيلم من الوجهة السينمائية، فسنجد أنه يشكل عملا مثيرا من تلك الأعمال التي يسعى صناعها إلى تحطيم الهالات المثالية التي يتم إضفاؤها على الشخصيات الشهيرة، فهو فيلم حافل بالعبارات الحوارية، ومشحون بالإثارة التي تخاطب عقول مشاهديه. ويقدم العمل تفسيرا وشرحا دقيقيّن للطبيعة الحقيقية لشخصية جوبز، حتى وإن كان يُضعِف بدهاء العديد من الادعاءات التي ترددت حوله لتصوّره باعتباره منقذ قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة ما ذاع منها وانتشر بعد وفاته عام 2011. أما مايكل فاسبِندر، الذي جسد شخصية جوبز، فربما لا يشبهه بشكل خاص، ولكن بشفتيه المتوترتين وعينيه اللتين تبدوان مثل الصواريخ التي تضرب أهدافها عبر تتبع الحرارة المنبعثة منها، يؤدي فاسبِندر دوره على نحو يجعل شخصيته تتسم بطابع نافذ الصبر وتحظى بمهارات فائقة في مجال التكنولوجيا وذات نزعة للاستبداد في الوقت نفسه، وهو ما لا يدعنا قط ننسى ذاك التألق الذي كانت تكتسي به شخصية جوبز، حتى وإن كان نشاطه الأساسي لا يعدو إفزاع وإرهاب كل من هم حوله على ما يبدو. وتمضي أحداث الفيلم حافلة بعبارات حوارية لاهثة متلاحقة، يتبارز بها المتحاورون، ويمكن وصفها بذات الطابع المميز لأسلوب سوركين في الكتابة، ففي الفيلم تتعالى أصوات من يبذلون كل ما في وسعهم للتغلب على بعضهم البعض. وفي وقت يبدو فيه أن الحوارات المكتوبة بعناية وذات الوقع المؤثر تتلاشى تدريجيا من السينما – وربما من الحياة الواقعية كذلك – فإن هناك شيئاً ما ذا طابع مزلزل يكسو حوار فيلم "ستيف جوبز". فالحوار يحفز ويثير عقول المشاهدين، وكأن سوركين يقول: "اتحداكم أن تكونوا قادرين على مواكبة مثل هذه التصورات والرؤى". ولا عجب في انجذاب سوركين لشخصيات مثل جوبز أو مارك زوكِربيرغ؛ أي إلى أناسٍ تتحرك عقولهم بسرعة الكمبيوتر. وقبل طرح فيلم "ستيف جوبز" قرأنا وشاهدنا ما يكفي من أعمال السيرة الذاتية الأمينة والموثوق بها التي تتناول حياة مؤسس آبل من قبيل ذاك العمل الذي طُرح عام 2011 وكتبه والتر آيزكسون، وفيلم السيرة الذاتية الذي نال انتقادات قاسية على نحو غير منصف وأُنتج عام 2013 وقام ببطولته أشتون كوِتشر، فضلا عن العمل الوثائقي الذي قدمه مؤخرا أليكس غيبني. ولذا لجأ سوركين إلى تبني أسلوب متصاعد في حدته أشبه بذاك المستخدم على خشبة المسرح، مُركزا على ثلاث من اللحظات الأساسية في حياة جوبز. وهكذا يتألف الفيلم من ثلاثة أقسام، يكشف كل منها عما دار في كواليس الفترة السابقة لإطلاق أحد المنتجات البارزة التي وقف جوبز وراء خروجها للنور. فأحداث الجزء الأول تدور قبل إطلاق نظام تشغيل "ماكينتوش" عام 1984، بينما تتناول أحداث الجزء الثاني الفترة السابقة للإعلان عن جهاز كمبيوتر يحمل اسم "ني إكس تي" عام 1998. أما الجزء الثالث فيتناول ما جرى قبيل إطلاق جهاز "آي ماك" في العام نفسه. ويبدو هيكل الفيلم مُقيِدا لصناعه إلى حد ما، كما أنه يتسم بطابع جامد ومسرحي، وهو ما يجعل العمل يفتقر لتلك السلاسة والتدفق اللذين اتسم بهما فيلم "الشبكة الاجتماعية"، الذي يمثل أفضل أعمال سوركين. ورغم ذلك فإذا كان الفيلم الجديد يتسم بقدر من الخيلاء والغرور – كثير من الحديث وقليل من الفعل – فإنه يندر أن يجد المشاهد في حواراته عبارة غير ذات وقعٍ أو تأثير مباشر. ويفترض سوركين أن مشاهدي الفيلم ملمون بالخطوط العريضة لحياة جوبز ومسيرته المهنية، وهو ما سعى لتقديم معلومات عنه عبر مشاهد تروي ما حدث في الماضي "فلاش باك"، وكذلك بالاستطرادات. وبنهاية الفيلم، يراودك شعور بأنك ربما لم تر كامل السيرة الذاتية لجوبز، ولكنك تلقيت مغزى وعصارة حياة هذا الرجل مُصفاة ومُقطرة. وهكذا، يريد سوركين فك لغز شخصية هذا الرجل الذي يدور حوله الفيلم، ليُظهر أن جوبز الذي نعتقد أننا نعرفه هو – إلى حد ما – ليس إلا نتاجا للخداع. ويبدأ القسم الأول من الفيلم بمشهد يُظهر تلك الحاجة أو الرغبة المرضية التي تنتاب جوبز، لأن يجعل نظام تشغيله "ماكينتوش" يقول "مرحبا" في بداية عرضه الترويجي لهذا النظام، رغم أن جهاز الكمبيوتر الذي يستخدمه لهذا الغرض يتعطل مرة تلو الأخرى. لكن جوبز لا يقبل بالاستسلام للفشل في هذا الأمر، وذلك بحضور مديرة التسويق العاملة لحسابه "تقوم بدورها الممثلة كيت وينسلت" والتي يتمحور دورها الرئيسي في أن تكون بمثابة قطعة إسفنج تمتص طاقته السلبية والمُسيئة. ويقودنا الفيلم لأن نرى أن غرائز جوبز وقدراته في مجال التسويق تتسم بالعبقرية، ولكن رغبته في إملاء أوامره بشأن كل ما يدور حوله، تأخذ منحى سلبيا عندما تصل زميلته وحبيبته السابقة "وتجسد دورها سارا سنوك" ومعها طفلتهما البالغة من العمر خمس سنوات، والتي تُدعى ليسا "الممثلة ماكِنزي موس"، وهي الطفلة التي يواصل جوبز إنكار بنوتها، رغم أن اختبارات الحمض النووي تشير إلى نتيجة مخالفة لذلك. ومع احتدام النقاش بين جوبز وحبيبته السابقة، ندرك أنه شخص مهووس بالتحكم والسيطرة يسعى لأن يمارس ذلك على مستوى يفوق الطبيعي. فالأمر لا يقتصر على رفضه الاعتراف بأبوة الطفلة، بل يحسب أنه بتكرار نفي بنوتها سيجعل هذا الامر حقيقة واقعة. ويبدو هنا أن سعي جوبز صوب الكمال هو ما يُماهي به إتقانه الشديد لعمله في مجال التكنولوجيا، ما يعني أنه لا يسمح بحدوث أي شيء لم يُخطط له مسبقا. رغم ذلك، فإنه ينجرف إلى لحظة مفعمة بالمشاعر، عندما يرى ليسا ترسم شيئا ما باستخدام نظام تشغيل "ماكينتوش"، وهذا هو مكمن جمال ذلك النظام الجديد أنه يمد أواصر الصلة بينهما. وعبر وسائل التعبير الدرامي، يصور القسمان الآخران خطايا جوبز، ولكن في هذين القسمين أيضا، لا تمثل هذه الخطايا مجرد عيوبٍ لشخصية أنانية أو أوجه قصور مرتبطة بسلوك استبدادي بقدر ما هي ناجمة عن أخطاء في الفهم والتصور. فبعد أربع سنوات من إطلاق نظام "ماكينتوش" – وفي ظل الفشل التجاري الذي مني به – ينفض جوبز يديه من آبل ويؤسس شركة "ني إكس تي"، تلك التي كان الرمز المُمِيز لمنتجاتها مربعا أسود اللون يبدو وأنه ُصمم لكي يكون أحد مقتنيات متحف للفن ،لكن ما الذي سيؤول إليه ذلك في النهاية؟ يستخدم سوركين هذا القسم من الفيلم لكي يأتي ثانية على ذكر فشل نظام "ماكينتوش"، وما عناه ذلك فيما يتعلق ب"جوبز"، أنه رجل أعمال سييء، لا يبالي بحقيقة أن شركة "آبل 2″ – التي فقد اهتمامه بها كلية – كانت تدر 70% من إيرادات الشركة. ويعرض لنا الفيلم الصدام الذي وقع بين جوبز وجون سكَلي "الذي يجسد شخصيته الممثل جيف دانيلز"، وهو رئيس مجلس إدارة شركة آبل، ذاك الرجل الذي كان على حق في رغبته في التخلص من نظام "ماكينتوش". ومن جديد، نرى هنا رغبة جوبز وحاجته لأن يشكل الحقيقة على هواه، إذ يستفيد من فشل هذا النظام في أن يحيك أسطورة مفادها بأنه فُصل ظلما من قبل مسئولي المؤسسة الذين يفتقرون للخيال، ويتصرفون كما لو كانوا رجالا آليين. وبدت المواجهة الكبيرة بين جوبز وسكَلي – الذي كان قد سعى في الكواليس لإدخال تعديلات ما – مثيرة بين الابتكار والابداع من جهة والعقلية التجارية من جهة أخرى، لاسيما وأن دانيلز – الذي يجسد شخصية سكَلي – يندفع غاضبا بحكم شخصيته إلى مستوى حاد وربما وقح من القوة والثورة. ورغم أن الفشل كان يَصِمُ بالفعل شركة "ني تي إكس" للكمبيوتر، فإن التحوير الذي يُحدِثُه سوركين هنا، يتمثل في أن جوبز كان على علم بهذا الأمر، وأن كل ذلك لم يكن سوى جزءٍ من خطته الانتهازية للعودة إلى آبل. أما المواجهة النهائية والقصوى بالنسبة لجوبز فتنشب في الجزء الثالث والأخير من الفيلم، بينه وبين ستيف وزنياك "الذي يجسد شخصيته الممثل سيث روغِن"، ذاك الشاب الخجول ذو اللحية؛ المهووس بالنماذج التجريبية لأجهزة الكمبيوتر، والذي كان شريكا لجوبز في إنشاء شركة آبل. وقد جعل أداء روغِن من وزنياك الشهير ب"ووز" شخصية محببة بشدة تتسم بالنزاهة والشرف، بل إن بوسعنا أن نرى في الفيلم أن ستيف جوبز كان لا يزال يُكِنُ له مشاعر مودة. ولكن ما يرفض جوبز القيام به – تماما – هو منح هذا الرجل ما يستحقه من فضل وتقدير نظير ما قام به وأن ينسب له الإنجازات التي حققها بالفعل. ويمكن القول إن ما قام به وزنياك كان في الأساس اختراع النموذج الاختباري التقني الذي يجسد رؤية جوبز. وهكذا فلا يتعلق الأمر هنا بأن جوبز لم يكن "طيبا"، وإنما بالكيفية التي تعامل من خلالها مع رغبته في سحق الآخرين كافة، واستخدام ذلك ليحوّل نفسه إلى ما هو أشبه ب"النبي الأوحد" لثورة الكمبيوتر. وبينما كان جوبز يستعد لإطلاق أجهزة الكمبيوتر من طراز "آي ماك"، كان يدرك بالفعل أنها ستشكل عنصرا يغير قواعد اللعبة. ففي عام 1998 ومع بزوغ نجم شبكة الإنترنت، بات العالم مرتبطا ببعضه البعض ومهيأً لكي يتحقق حلم جوبز المتعلق بأن يحظى البشر بنعمة الكمبيوتر. وفي نفس المرحلة من أحداث الفيلم، نجد أن ليسا باتت تقف إلى جوار جوبز، وقد بلغت التاسعة عشرة من عمرها، وهنا يُبرز سوركين ملمحا ربما يكون ذا مسحة عاطفية، ألا وهو أن النجاح لا يحالف جوبز في جهوده لتجسيد أهدافه ذات الطابع المستقبلي، سوى عندما يسمح هو للنور بأن يغزو حياته عبر ابنته التي كان يرفض في السابق الاعتراف بها. ربما كان الحال كذلك، لكن الخلاصة الحقيقية للفيلم تتسم بطابع ملتهب ، إذ تكمن في أن ثورة الكمبيوتر كان ستحدث سواء بوجود ستيف جوبز أو بغيابه، وأنه ببساطة لا يعدو سوى رجل أضفى الجمال والحسن على ذلك كله، وأقنعنا جميعا – في خطوة لا تقل عن ذلك أهمية – بأن نُجِلُه ونتغزل في عبقريته لما فعله في هذا الشأن.