تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية. هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة "العمق" أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان "نوابغ مغربية"، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ. الحلقة السابعة عشر: محمد بن إبراهيم المراكشي.. مِن بَرْنُوسِ الشَّرع إلى فَرادِيسِ الشِّعْر ! عَرفناه صِغاراً، ودَرَسنا أشعاره يافعينَ، أيامَّ الطَّلبَ بالتعليم الثانوي، وصاحَبَتْنا صُورةُ الرُّجل الذي يتدثَّرُ جِلباباً مغربياً أصيلا، بوجهٍ وَضَّاء خَلْف لِحيةٍ سَوداء مُشَذَّبة، لو حُذِفَ لَقَب "شاعِر" من أسفَل بِطاقة التعريف المُصاحِبة للصورة، لَجَزَمنا أنّه فَقيهٌ مِن مغرب القرن العشرين. تَسأل أستاذَة اللغة العربية مَن شاعِر الحمراء؟ فتتعانَق أيادي التلاميذ تُسابِقُ إلى أَخْذِ الحقّ في الجواب، وهُم جميعاً على درايةٍ باسم صاحِب هذا اللَّقَب، إنّه "محمد بن إبراهيم"؛ يُجيبُ التلاميذ. وُلِدَ محمد بن إبراهيم ذِي الأصل الهوّاري في مدينة مراكش على رأس القرن العشرين (1900) الموافِق ل 1318 هجرية حَسْبَما ذَكَره الشاعر في "يومياته" التي كتبها بخطّ يدهِ، كأنّما القَدَر اختار له هذا العُلو في توقيتِ الميلادِ ليُشرِفَ على تَلّة رابية مُلقِياً قصائد خالدة على قَرْنٍ حافِل بالنبغاء والعلماء والخُطباء والشُّعراء. حفِظ القرآن الكريم في الصِّغَرِ، نُقِشَت بلاغتُه وجزالتُه في صدْره وعَقْله لتَجْعَل مِن الفتى محمّد فخْمَ العِبارة، جَزِلَ المعنى والإشارة فيما سيُنتِجه لاحِقاً من الشّعر والنّثْر. دَرَس في القرويين وابن يوسف، منارَتَا العلمِ والمعرفة عبر تاريخ المغرب الطّويل. وكان مُجيداً لمواد النّحو والعَرُوض والبلاغة، فكيف لا، وهو القائل في اعتدادٍ بنفسه ونبوغه العلمي: تَربَّعتُ عَرشَ الشِّعرِ في نظَر الحقِّ ** وحُزتُ مَقَالِيدَ البَلاغَةِ بالسَّبقِ الأمر الذي ساعده على التخرُّج في أقصر مدّة دراسية، والانتقال لمزاولة مهنة التّعليم، مع استِئنافِ العصامية في الإبداع الشِّعْري والمطالعةِ الحرة والمُصاحَبَةِ الطّويلة لفطاحل شعراء العرب. انخرَط في دينامية العمل الوطني، فسُجِن مَعية مناضلين آخرين مِن الحركة الوطنية المغربية سنة 1937، وعُرِفَ بتناقُضٍ في الموقِف أحياناً، لا مِن جهة إيمانِه بحقّ بلاده في الحرية والاستقلال، وموقفه مِن لَفْظِ سَيْطَرة الاحتِلال؛ بل مِن جِهته انحيازِه لبعض القُوَّاد الكبار الذين ناصَبوا الحركة الوطنية والعَرش العلوي العَدَاء، ومِنهم باشا مراكش (التّهامي الكلاوي)، الذي مَدَحه ابن إبراهيم حيناً مِن الدّهر، ومِن ذلك قصيدته المشهورة التي مَطلَعها: مِثلُ التُّهامِي ما في الأرضِ مِن بَطلِ ** شَهادةٌ صَدرَت مِن أَعْظَمِ الدُّولِ ثُمَّ؛ ولِظروف خاصة؛ انقَلَب عليه هَجْواً وذَمًّا، مما سبَّب له الفرارَ إلى مدينة فاس، والمكوث فيها بضْع سِنين. واصَل ابن إبراهيم تَلقِّي الإجازات العلمية عن الشَّيوخ المغاربة، فتتلمَذ على يَدِ شيخ المُحدِّثين وعالِم الوقت سيدي أبو شعيب الدّكالي وأجازَه، ونَوَّه كثيراً بنبُوغه الأدبي، بَل بَلَغَ به الحدّ أنْ وَصَفَه حِينَ سلَّمه الإجازة ب"الشَّاب الأنجَب، اللَّوْذَعِيِّ الأدَب، الفقيه سِيدي محمد بن إبراهيم المراكشي"، ونَصَحه بالمواظَبة على "الاستفادة والإفادة". وشَهادة الشيخ هاته في جانبٍ منها تؤكّد مهارات ابن إبراهيم في الفقه، كما تؤكّد شَطارته في الأدب، فكأنّما جَمَع بين تطلُّعاتِ أبيه وتطلّعاتِ نَفْسِه، وإنْ كان الأدب والشِّعر قد غَلَبا عليه طوال مَساره. أكَّدت المراجع التي أرَّخَت لسيرة هذا العلَم؛ أنَّ أباه إبراهيم؛ الرّجل المُحافِظ الولِع بالعلماء والفقه وعلوم الشريعة، أرادَ أنْ يَصيرَ محمدٌ هذا فقيهاً ضليعاً مِن فُقهاء مراكش، إلّا أنَّ رغبات محمد وما أوْدَعه الله فيه مِن حُبِّ الأدب والميل للشِّعر وتَذَوِّقُه وتِلْقائية وُرُودِ أبياته عليه؛ نَحا به ناحية عالَم الشِّعر، مُهْمِلاً رَغبة أبيه، وخارِجاً من جُبَّة الشَّرع إلى الشِّعر بفنونه، ولا سيما؛ إتقانُه اللّزوميات والمدح والهجاء. ولم يَكن هذا الارتحال مِن عالَم الفقه إلى عالَم الأدب والشِّعر بالذي يُخْفِض منزلة محمّدٍ وشَغفه بالتفوّق، فقد انطلَق بقصائد مُتأثَرة بلُزومياتِ الشاعر العربي الكبير (أبي العلاء المَعرِّي)، ثم سُرعان ما استَقَلَّ شاعِرُنا بأسلوبٍ شعري مميَّز، فَمَلأ عالَم الشِّعر والأدب من ثلاثينات إلى خمسينات القرن العشرين، باصِماً على حُضورٍ قوِي ضِمْن تَوليفة شُعراء ظاهرة الشِّعر المغربي الحديث. كانت بَعْضُ قصائده تُولَد في سياقاتها، الثّقافية والاجتماعية والسياسية، واحتُضِنت أَشْعارُهُ ونِكَاتُه شَعبيًا وفي أوساط المثقَّفين كذلك، وطَارت شُهرته في الرُّبُوع المغربية وخارِجَها، فقال مُعرِّفاً بنفسه: وتَعرفُني الأخلاقُ والفَضلُ والنُّهَى ** وتَعرفُنِي الآدابُ والعلمُ والكُتْبُ عاشَ الرّجل تجربةً أخرى ألْهَمَت جِنّ الشِّعر في فؤادِه، وفتَحت بصيرته الأدبية على عوالِم عربية ومغاربية كانت تعوج بها الأوطان المجاوِرة لبلِدهِ المغرب، فقد ذَهَبَ حاجّا إلى بيت الله الحرام، فزار بعض مدن الحجاز، ومَثُلَ بَيْن يَدَي الملك (عبد العزيز آل سعود)، فأنشدَه قصيدَته التي مَطْلَعها: مِن المغرب الأقصى أتتكَ تَحيّةٌ ** يُبلِّغُها عَن أهْلِهِ شاعِرُ الحَمْرَا ثُمّ زار مِصرَ عقِبَ طريقِ عودته، والتقى شعراءها، ومَدح ثقافتها، وصرَّح لبعض صُحُفِها..، وحينَ عودته للمغرب، اسْتضافَتْه إذاعَتا الرِّباط ومراكش تَوالِياً، ليُحدِّث مُستمعيه عن خلاصات زياراته الدِّينية والأدبية لأرْضَيْ الحجاز والكِنانة. ظلَّ محمد بن إبراهيم يُبِدِع قصيدةً تلو أخرى، قريباً مِن الناس، ومختلِطاً بعامِّيِهِم وعالِمهِم، دائم حضور المجالِس، مُقْبِلاً على الدّنيا، مُحبِّا للطيبات والتمتّع. ومِن بَديع ما خلَّف مِن قصائد _ عِلماً أنّ مُجمل إرثه الشِّعري ناهَز (5000) بيت -، نذكر: "طال منّي لِذي النّهارِ ارتِقابي"، "حَدِّثُوا عن الخائن"، "كثَّرَ الله زُمرة الأغبياء"، "بما بيننا مِن حُرْمةٍ أيها الصَّحْبُ"، "جُوَيْهَرة القلبِ لا تَغضَبي"، "غبتِ عنّي فكدتُ شوقاً أذوبُ"، "أيّها الثُّقلاء باللهِ فينا"، "حرامٌ على حُرِّ الطبيعة والفِكر"، "حَيثما سِرت فالمعالي تَسيرُ"، "أحنُّ إلى مِصر وما أنا من مصر"، "إذا جِئتُم نَقومُ لكم حُفَاة"، "يا دارُ نِلْتِ العِزَّ والتّكريما"، "طَنجةُ تِيهي دَلَالا"، "المطعم البلدي". ومِن قصائده التي سَجَّل فيها انحيازه للحقّ، ودَعمه لقضايا أمته العربية، نذكر: "مَوت بلفور"، "تهويد فلسطين"، "عَهْدي ببيتِ القُدس وهْو مُقدَّس". وفَضْلا عن القصائد الشِّعرية؛ كتَب في أدب المسرح: "المسرحية الطلابية" و"المساجَلات" و"القصيدة الشَّطْرَنجية". ومن مُساهماته الشَّفهية التي تَمَّ تَفريغها في كتاب؛ نذكُر تِلك التي تحمِل عنوان "بَين الأدب المصري والأدب المغربي"، وأخرى بعنوان "الأدب الحَيّ وحَظُّه مِن اعتِنائنا". هذه الإنتاجية الشّعرية الغزيرة، جعَلَت الشّاعر المجايِلَ له (عبد الملك البلغيثي) يَرْفَع مَنزلته ويصِفُه ب"أمير شعراء المغرب"، ويقول فيه قصيدة رنّانة سَنة 1941 جاء فيها: يا أميراً في دَولة الأشعارِ بِسُمُوٍّ في ذَوْقِه وابتِكارِ غيرُ بِدْعٍ أنْ صِرتَ فيها أميراً بانتخابٍ فأنتَ أنتَ اختِيارِي ونَال لَقَب شاعِر الحمراء مِن طَرَفِ محبِّيهِ ومُنتقِديه، واضعين إيّاه على قَدم المساواة مع الوصْف الذي نالَه شُعراء عرب آخرون، مِن قَبيل وَصْف شاعر النّيل، الذي نودِيَ به الشاعر المصري (حافِظ إبراهيم 1872-1932)، ووَصْف شَاعِر الخَضراء، الذي أُطْلِق على الشاعر التونسي (أبو القاسم الشّابي 1909-1934) رحمهما الله. وحَلّاهُ الأستاذ (محمد منصور) في (المعلمة، ص: 90)، بوَصف "شاعر مطبوع، ونَكَّات بارع، وشاطِر أَحْوَذِي". كما أُدْرِجت كثيرٌ مِن أشعاره في المقرّرات الدّراسية، خاصّة مَادّةَ اللغة العربية، والمحفوظات (سابِقاً)، وتَداوَلت الصُّحف الصادرة في المغرب زَمنئذٍ أبياتَ شِعْره وكَثيراً مِن قصائده الطوّيلة، وسارَت نِكَاته ومُلَحُهُ في النّاس يَتذكّرونها في المجامِع ويَتَنَدَّرُونَ بها. بَعد رحيل شاعِرِنا محمد بن إبراهيم المراكشي إثْرَ سَكتةٍ قَلبية مُفاجئة سنة 1955؛ أُطْلِق اسمه المقرون بِصفة "شاعِر الحمراء"، على مجموعة من المدارس العمومية في الدارالبيضاءومراكش وأكادير، وعلى بعض الأزقِّة. ونُشِر ديوانُه (روض الزيتون) _ تَيَمُّنا بالحي الذي كان يقطُن فيه بمراكش _ في طبعة مُنقَّحة ومُصدَّرَة بأقلامِ خِيرة أدباء المغرب المعاصِرين، وذلك سنة 2002، والذي كانَ قَدْ جُمِع وقُدِّم للملك المثقَّف الراحل الحسن الثاني في أبريل مِن العام 1969، بعد أنْ أَمَرَ الملك سَنة قَبل ذلك بِجَمْع تُراث ابن إبراهيم الشِّعري والعناية بكل ما خَلَّف، وطَبْعه في ديوانٍ يَليق بمقام وشُهرة شاعر الحمراء. رحمه الله وأكرم مثواه. * إعداد: عدنان بن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر "شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي"، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي - تطوان.