الرد ليس على الشخص… بل على النموذج السياسي الذي يُمثله منذ انعقاد المؤتمر التاسع لحزب العدالة والتنمية، عاد عبد الإله بنكيران إلى الواجهة بخطاب مألوف، يحمل نفس نبرة التهريج، ويعيد نفس الأسطوانة التي شغّلها في سنوات «البلوكاج» و»العفاريت» و»التماسيح». لكنه اليوم يعود بوجه أكثر انفعالًا، وهو يرتدي قناع الضحية المظلومة، ويهاجم الجميع دون تمييز، ناسجًا خطابًا متوترًا، يتراوح بين الادعاء بالتعرض للمؤامرة، والتلميح الخطير تجاه المؤسسات الوطنية، وحتى إلى أعلى سلطة في البلاد. لم يكن مستغربًا أن يقول بنكيران: «إلى كان خاصني نمشي للحبس، وجدّي ليا الحوايج»، وكأنه في مشهد مسرحي يبحث فيه عن شفقة جمهور تعب من هذه العروض المتكررة. في المقابل، لم يأت الرد من منطق انفعال مماثل، بل جاء بعقلانية واتزان من عبد الحميد جماهري، الذي كتب: «لم تثبت من قبل قدرتك على البطولة، ولا أقمت الدليل على أن السجن أحب إليك من الحق في قضية تؤمن بها». لقد وضع عضو المكتب السياسي للحزب ومدير جريدة الاتحاد الاشتراكي إصبعه على الجرح: بنكيران يتحدث عن السجن كما لو أنه يتحدث عن نزهة رمزية، لكنه حين كانت البلاد تمر من محطات دقيقة، لم يُسمع له صوت، بل اختار الصمت. من التهديد إلى التخوين… حين يتحول النقد إلى مؤامرة ولأن بنكيران لا يستطيع تحمل أي نقد، فقد عاد إلى قاموسه المفضل، متهمًا منتقديه ب»الشكامة»، وقال بصراحة تامة: «كاينين شكّامين فهاد البلاد، حتى من اللي كيتسناو الحج باش يشكموا بيا!»، وهو بذلك لا يهاجم فقط أفرادًا، بل يختزل كل اختلاف معه في مؤامرة. فجاءه الرد من جماهري بهدوء قاطع: «لم أكتب مقالًا، بل تدوينة على الخفيف... ومع ذلك أصابته بالذعر، فأطلق العنان لاتهاماته». هنا نكتشف أن بنكيران، كما هو دائمًا، لا يتقبل المواقف المغايرة، ويرى في كل نقد تهديدًا، وفي كل تدوينة وشاية، وفي كل رأي مختلف خيانة. لكن بنكيران لم يتوقف عند هذا الحد، بل تجاوز كل حدود اللباقة السياسية، حين قال: «سيدنا إلى بغا يدخلني للحبس، غادي ندخل معاه!»، في جملة تبدو في ظاهرها ولاءً، لكنها في حقيقتها تلمّح بأن جلالة الملك يمكن أن يسجن المواطنين بسبب آرائهم، وهو ما لا يقبله أي وطني عاقل. هنا كان رد جماهري شديد الدقة والوضوح: «لقد دسست في غمزك أنه يدخل الناس السجن، وهذه أنكى وأخسأ»، مؤكدًا أن بنكيران لا يتورع حتى عن توريط المؤسسات العليا للدولة في لغته الشعبوية. ثم زاده بيانًا حين كتب: «لماذا تريد أن نشكم بك إلى الدولة، وهي قد وضعت لك معلفة و9 ملايين في فمك؟»، ليفضح تناقض بنكيران، الذي يجمع بين التمتع بمزايا الدولة ومهاجمتها بكل ما أوتي من قوة. استهداف الاتحاد الاشتراكي… محاولة يائسة لخلق عدو وهمي ولأن بنكيران لا يستطيع أن يعيش دون خصوم، فقد هاجم أيضًا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ووجّه سهامه إلى الصحافة الاتحادية، وكأن حزب القوات الشعبية، الذي عاش فترات القمع والنفي والاعتقال، أصبح اليوم خصمه المركزي. لكن الرد هذه المرة جاء من موقف حزبي مؤسساتي، حيث ورد في رسالة الاتحاد: «مرة أخرى، يعود الهجوم والتجريح على الاتحاد الاشتراكي بلا سبب وجيه ولا مناسبة سياسية واضحة... إنها محاولة لتصفية حسابات حزبية ضيقة، وأحيانًا شخصية، وأحيانًا أيديولوجية متحجرة». وهكذا يظهر الفرق جليًّا بين من يردّ بالصوت المرتفع، ومن يرد بالحجة الهادئة، بين من يُلوّح بالبطولة الورقية، ومن يراكم المواقف والوضوح والمصداقية. بنكيران، الذي «وصف الشهيد عمر بنجلون بالكلب الأجرب»، لا يمكنه أن يعطي اليوم دروسًا في الأخلاق أو الوطنية، كما كتب جماهري بأسى: «فهل يضره أن يُعيد خسته تجاه عبد فقير من أبناء الحزب؟». وفي ختام رده على خزعبلات زعيم الحزب الإسلاماوي، كتب جماهري جملة تختزل أخلاق الرد الاتحادي الراقي: «اللهم تقبل مناسكنا، واجعلنا ممن رباهم الدين وأحسن تربيتهم». وهي دعوة تنطوي على درس عميق: السياسة أخلاق، وليست صراخًا. موقف، لا دموعًا. التزام، لا تهريجًا. وهكذا، يبقى رد الاتحاد الاشتراكي، سواء عبر أقلامه أو مواقفه، ليس ردًّا على الأشخاص، بل على الخطاب المتشنج، والانزلاق إلى الإساءة باسم الدين، والادعاء بالمعاناة باسم الشعب. وهو ردّ يُعبّر عن مدرسة نضالية لا تسكت، لكنها لا تنزل إلى مستوى الابتذال السياسي. مدرسة تعارض، نعم، ولكنها تعرف متى تصمت، ومتى تكتب، ومتى تضع النقط على الحروف… دون أن تلوّث الحروف. بل وأكثر من ذلك، فإن ما ورد في تدوينة عضو المكتب السياسي عبد الحميد جماهري يفوق بكثير ما تم اقتباسه هنا من حججه وآلياته في الدفاع عن حزب القوات الشعبية. فقد كشف في أسلوبه، الذي يجمع بين السخرية الذكية والرصانة السياسية، عن الوجه الحقيقي لخطاب بنكيران الذي يفتقر إلى اللباقة، ويُسهم في تأجيج الأجواء السياسية بدل تهدئتها. زعيم سابق، لم يتردد في الاستفادة من امتيازات النظام، ومن الزخم الشعبي لحركة 20 فبراير، ثم عاد لينقلب على الجميع بمنطق طائفي عدائي، لم يتورع فيه عن الهجوم غير المبرر على المؤسسة العسكرية، ولا عن توظيف الدين في تصفية خصوماته السياسية. إن ما نكتبه اليوم ليس مجرد ردّ سياسي، بل دفاع عن الذكاء الجماعي للمغاربة، عن الحق في النقد العقلاني، وعن الوطن الذي لا يجب أن يُختزل في نزوات زعيم فقد البوصلة... ويبحث عن مشهد أخير في مسرح بلا جمهور. وفي الوقت الذي يستنزف فيه البعض ما تبقى من رصيده في المزايدات الفارغة، ينهمك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في عمل ميداني وتنظيمي جاد، حيث تشهد مختلف جهات المملكة دينامية تنظيمية قوية لإنجاح المؤتمرات الإقليمية، بتأطير مباشر من الأخ الكاتب الأول الأستاذ إدريس لشكر، استعدادًا لعقد المؤتمر الوطني الثاني عشر في أكتوبر 2025. وهي محطة يجري الإعداد لها بانخراط جماعي، عبر عمل اللجان الموضوعاتية التي صادق عليها المجلس الوطني الأخير، بهدف صياغة أوراق سياسية، واقتصادية، واجتماعية، ترقى إلى مستوى اللحظة، وتستجيب لتطلعات الشعب المغربي في العدالة والديمقراطية والتنمية. (*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والاخلاقيات