لقاء مرتقب يجمع وزارة الصحة والنقابات    وزارة الفلاحة تترقب استيراد حوالي 600 ألف رأس من الأضاحي قبيل العيد    لاعب دولي مغربي يتعرض لاعتداء بشع في ألمانيا    الرجاء يرفع شكاية إلى لجنة الأخلاقيات ضد نابي مدرب الجيش الملكي بسبب تصريحاته    4 سنوات نافذة لصاحبيْ فيديو "شر كبي أتاي"    الاتحاد الهولندي يعين عادل رمزي مدربا لمنتخب تحت 18 سنة    زيادة 1000 درهم.. السكوري في رده على "البيجيدي": قمنا بما فشلت فيه الحكومات السابقة    المديرية العامة للأمن الوطني تنظم ندوة حول "مكافحة الجرائم الماسة بالمجال الغابوي"    الإيسيسكو تحتضن ندوة ثقافية حول مكانة المرأة في الحضارة اليمنية    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    بالفيديو.. "الديستي" تساعد إسبانيا في الإمساك بقارب يحمل طنين من الحشيش    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تفاصيل حصرية على كيفاش تشد المجرم اللي قتل تلميذة بطريقة بشعة فصفرو: سبق ليه دوّز 5 سنوات نافذة ديال السجن بسبب تكوين عصابة إجرامية (صورة)    شنو هي قصة مرات سانشيث؟ وشنو المبررات اللي خلات سانشيث يبقى فمنصبو؟    الأنفاس مقبوطة فالحركة الشعبية...والسبب: انتظار جلسة النطق بالحكم ضد انتخاب محمد أوزين أمينا عاما    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    مجلس النواب.. انطلاق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية برسم سنة 2024    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الاتفاق رسميا على زيادة عامة في أجور العاملين بالقطاع العام بمبلغ 1000 درهم شهريا        المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    إدارة السجن المحلي بوجدة تنفي ما نقل عن والدة سجين بخصوص وجود آثار ضرب وجرح على وجهه    المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الإثنين بأداء إيجابي        غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    الروائي الأسير باسم خندقجي يهزم السجان الإسرائيلي بجائزة "بوكر العربية"    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في المجموعة القصصية «خريف، وقصص أخرى» لأحمد المديني
الكتابة الصقيلة
نشر في العلم يوم 26 - 03 - 2009

تستوقفنا المجموعة، بداية، بعنوانها. تشير لفظة «خريف» إلى فصل تتبدل فيه الطبيعة، تذبل وتزول عنها مظاهر اليناعة والاخضرار. لذا اقترنت دلالتها في سياقات مجازية بالذبول والفناء. غير أن هذا الفصل يحمل أيضا معنى مخالفا، لكونه يحبل بالآتي ويعد بالجديد. فهو بتعبير إحدى شخصيات القصة، فصل البدايات و ميقات تسطير البرامج القادمة.
وقد وضعت قصة « خريف»، القصة الثامنة في المجموعة، شخصيتها على حرف المعنيين. إنها شخصية راو، متقدم في العمر، درج على اعتبار الخريف مرآة لذاته، وصدى لنفسه، ينتابه الخوف، بله الفزع والقلق، من أن يبادله الخريف، عند حلوله كل سنة، صدى الذبول والنصول، بما يعني ذبول ذاته ونصولها، بدل مبادلته رنين الحياة اليافعة، وإبقائه واثقا من يفاعة ذاته وتجددها.
بهذا تكون القصة وضعت، أيضا، شخصيتها أمام سؤال الزمن، سؤال احتمال تجددها، أو احتمال ضمورها وزوالها. و قد زاد من حدة السؤال ، كون الراوي، شخصية حية متوفزة، لا تستكين أبدا إلى الرتابة والتكرار. إنها شخصية تختلف عن غيرها من شخصيات القصص الأخرى، التي تستطعم العادة، بل منها من يرسي للعادة نظاما وطقوسا، يقيم فيه إقامة الدعة والاطمئنان. كما تختلف عن الشخصية الأخرى التي شاطرتها عالم قصة خريف، صديقته الفرنسية «مارغريت»، التي لا تحيا بالمطلق هاجس التجدد. إذ هي امرأة شبيهة بمومياء، تعطن بالعتاقة، تقيم خارج الزمن، وتمكث شاخصة بسكون إلى العدم. وهي، بصفتها تلك، تتصدى لقوة العدم ذاتها، بجاذبيتها وغموضها، تلك التي يختزنها الخريف حين يقصر معناه على الذبول والموت:
« لها لون ورائحة من زمن خلا، ولهذه العتاقة جاذبية عندي، فيها تلف محبب، ومحفورة عليها أخاديد، ثم لم تعد تطلب شيئا، أو هو رجاء خافت، شبه مستسلم وعطوف، ثم لا مبال في آن، لأن الزمن عبر من هنا، وانتهى الأمر، فأي جمال. بما لا يقل عن جمال الخريف، عن الأشجار التي تستقبلني في منتزه مارس تتبرج إما بتؤدة، أو تحت العصف، تتلألأ فيها رعشات الأخضر لتنير مصابيح بالأصفر في النهار، ثم في غفلة مني، لتحافظ على كرامة الجمال تسقط على الأرض والدنيا ظلام، وفي الصباح آتي فأجدها توسدت خد الأرض، وعلى خدها ندى طري من لثمة الصباح، وفي الجولة الثانية لي والرابعة أراها حجنت بالتراب، عادت إلى خلود العدم، فأشغف بهذا الرحيل، أعترف بقوة الزمن مسربلا بالعتاقة المبجلة، لذلك مارغ خريف، ومنتهى سعادتي أن أصبحه» ص 106.
تنتهي قصة خريف، وينتهي معها القلق والاضطراب اللذان انتابا الراوي، حين يعيد الأخير، فجأة، صلته بالخربف الحيي، أكاد أقول بالخريف الديونيزوسي، المبلل بقطرات المطر الأولى، والفائح برائحة الأرض الفاغمة، وأنفاس أوراق الشجر الطليقة، يعبها الراوي بنهم كما يشم « جسد امرأة». وباكتساب الخريف هذه الطراوة الديونيزوسية، تكون الذات تفاعلت حسيا معه، وتخلصت من توجسات الانحسار والنصول، مضطرمة بإيروسيتها الداهمة، وبيقين أن خريف هذه السنة، حابل كسابقيه، بالحياة الغضة :
« (...) الآن وقد نزل المطر ستفوح الرائحة، سأشم الأرض من جديد، الورق وهو يتنفس، حتى وهو يموت، لا بأس، كما أشم جسد امرأة، أحيا بها أو أموت» ص 108
يتمرأى عنفوان هذه الديونزوسية، في قصتين أخريين، قصة «حب في اللوكسمبورغ»، والتي استهلت بها المجموعة، وقصة « الكاتب في ورطته»، الي انتدبت مدينة الرباط، فضاء لوقائعها الطريفة.
تبصم قصة «حب في اللوكسمبورغ»، بدايات المجموعة، بمشاهد الحب والعشق والشهوة، تؤثث جنبات حديقة باريس الشهيرة، حديقة «اللوكسمبورغ». وقد شخصت القصة راويها، جالسا على كرسي حديدي بالحديقة، ينتظر خليلته «فاليري»، مشدودا أثناء ذلك، بحس يقظ ونافر، إلى توافر المرئيات وتوالي المشاهد المفعمة بالحياة.
ينفتح السرد في القصة فجأة، دون ترسيم معبر نصي لذلك، على زمن ومكان آخرين، استعاد خلالهما الراوي موعدا قديما كان ضربه في مقتبل شبابه، زمن الربيع أيضا، مع صديقة له، بحديقة الجامعة العربية، بالدارالبيضاء. أحدث ذلك تقاطبا زلقا، لم يخل من طرافة، بين زمانين ومكانين، حين قابل الراوي بين التعامل الفظ، لحارس حديقة الجامعة العربية، وهو يصرخ مستنكرا في وجه الحبيبين اليافعين، وبين رقة حارس حديقة اللوكسمبورغ، الذي يعتذر للعاشقين المنغمرين في ماء القبلات، بحلول أوان إغلاق الحديقة:
« ارتعش جسدها، إذ صرت لصقها تقريبا، وازداد وجهها توردا، فواصلت زحفك غير مبال ترفع ذراعك أعلى المقعد خلف عنقها مباشرة، ويدك الأخرى تتلمس يدها باقية عندك بسخاء، فتشجعت، درت يمينا ويسارا، تريد أن ترفعها إلى فمك لتلثمها، لما أحسست بيد خشنة تقبض على ذراعك خلف المقعد تهزه هزا، وصراخ من بدا بلباس حارس الحديقة أن هذا منكرا، وأنها علامة الساعة، وأن عينيك اللتين كان عليهما غشاوة انسدلتا لذا قررت فاليري أن توقظك على طريقتها حين اقتعدت كرسيا وغطست شفتيها في شفتيك، ولسانها يسبح في بركتك سباحة عوام ماهر، بينما جسدها كله مضموم بين ذراعيك، لوقت لا تذكره، لما أحسست بيد تربت بخفة على كتفك فأخذتك رعدة، نظرت إلى صاحبها فزعا، فقال:»معذرة أيها العشاق، حان موعد الإغلاق» ص 28.
يبرز التقابل، على خلفية ما وقع في الماضي البعيد، الديونيزوسية الآنية، الطافحة في فضاء الحديقة الباريسية، بخلاف قوى العدم (علامة الساعة ؟)، الكابسة بفظاظة على نأملات الحياة، وعلى دبيبها الناشئ، في الحديقة البيضاوية.
هذا الميسم نلمسه، بتنويع في النبرة وتخصيص في السياق، في القصة ما قبل الأخيرة للمجموعة: « الكاتب في ورطته». تحكي هذه القصة خروج كاتب من بيته، في أحد مساءات الرباط، بحثا عن صيد ( أي عن مادة للكتابة)، بعد أن شعر بانحسار ذخيرته ونفاذها. لقد صار الكاتب، وهو راوي القصة أيضا، نهب هواجس طارئة، بأن دفقات الإبداع وهيولاته النابعة من قدراته على «استحلاب الصمت»، و»استدرار الفراغ»، و»استقطار اليباس» قد أوشكت على النضوب.
غير أن المدينة، مدينة الرباط، لم تكن لحظة خروج الكاتب إليها، وتدرجه في أنحائها ( الشوارع، المقهى، الحانة ) واعدة بالصيد. لم تهب مادة للإبداع، ولم تستوفز طاقة الكاتب على استكناهه. فهي مدينة مستكينة إلى الرتابة والتكرار المجدب، تنتشر العادة والفظاظة، كالفطر، في فضاءاتها و على أوجه ناسها:
« نزل إلى المدينة ليبحث عن حل لورطة بلا اسم، ربما ليسد ثقبا يراه يتسع في جوفه. لكنه لم يجن إلا الهباء من ليلته هذه. والهباء لا يكتب، ليس أبجدية، هو إحساس ينمو ويتكاثر حوله كالفطر، ثم يتفسخ إلى ما لا نهاية، وهو ما لا يصلح عنده مادة للقراءة. هذا إذا وجد القراء المناسبين. فما العمل ؟ « ص 134.
فيما الكتابة قوة خلاقة، ديونيزوسية، تحتاج إلى تربة خصبة، تنبت الخيال، وتورق الفريد والمدهش. وهي تنتعش، حصرا، في المدن التي تبدي لجوابيها قدرة متغيرة على صون ذاتها من عقم الرتابة وجهامة التكرار. لكن هل ستركن الذات، ذات الكاتب، إلى الهباء الذي يتهددها بالانحسار و ينذرها بالنضوب ؟
لن تنتهي الذات إلى ذلك، فثمة قوة (ذاتية) في الكتابة، تجعلها قادرة على تخطي الهباء. إذ الكتابة، كالعنقاء، سرعان ما تنبعث حية، من رماد العقم وسديم الموت. وهي بهذا المعنى، أيضا، تستمد قوتها على الحياة من صلبها، إذا ما خذلها الموضوع، و أشاح عنها بخوائه. بل إن قوتها الخلاقة تلك، داهمة، باستطاعتها أن تحول الهباء والبدد ذاتيهما، إلى موضوع للكتابة ومناط لإبداعها ( وهذا ما قامت به، في العمق، قصة « الكاتب في ورطته»). وقد شخصت الوقائع الحلمية والكابوسية التي انتهت بها القصة، عودة الكتابة، في صورة امرأة، تطبق على الكاتب، مؤكدة له أنها ولود، لن يصيبها العقم ولن يطالها البوار: («أنا سكنتك، أسكنك، سأسكنك (...) سمع الصوت يتحسس صدره، يسري في لحمه حذرا بعد لأي: أنا العنقاء، أو نسيت العنقاء؟ بلى، بلى، وهل هي تنسى، إنما بربك أخبرني، أجن هي أنت أم إنس» ص 137.
وبخلاف ما أبرزته القصص السابقة ، خاصة قصة « خريف»، من علاقة متوترة بالزمن، أبانت قصة « هموم بطة»، عن مظهر آخر لهذه العلاقة، خلت من الأبعاد الوجودية العارمة التي صاغت الأولى، ودنت بها من شكل علاقة، بالزمن والذات والآخر، يطبعها الافتعال والاصطناع. تتميز القصة ب»شخصيتها» التي تنتمي إلى صنف البط والإوز. إلا أنه من السهل اعتبارها شخصية أليغورية، تومئ بالأحرى، إلى جنس البشر، وإلى وضعية إنسية مخصوصة، أبرزت القصة تفاصيلها بطرافة وهزل وسخرية.
التقطت القصة «بطة»، وهي تتهيأ للمشاركة ليلة سبت قادم، في مسابقة فنية (غنائية) تلفزيونية. وقد وصفت انغمارها في شطف جسدها وتجميله وتلميعه، بهزال طافح، أبدى «بطة» مهجوسة بصورتها، ترغب أن تبقيها، أبدا، لامعة ومصقولة بغية محو أثر الزمن وإخفاء بصماته على «خريف» جسدها الذي بدا مترهلا، وعلى وجهها الذي تجعد، وصدرها الذي أضاع عرامته وفقد صلادته: « صدرها مدفوع أمامها مسنود بإسفنجتين لدعم نهديها المتهدلين، لا ولا ...» ص 115.
بصنيعها هذا، تبدو «بطة» منجذبة إلى العيش تحت شعاع الأضواء (« تعبد الأضواء»)، مما يدنيها من نمط من الشخصيات أنجبها زمن الميديا، وكيف وجودها حسب مزاجية عينه الكبرى. من ثمة، وبخلاف شخصية «خريف»، مثلت بطة تجسيدا هزليا لحالة « أليغورية»، تقيم علاقة مختلة بالزمن. إنها لا تعيش الزمن، زمن عمرها، زمن خريفها، بقلق الشعور الملتبس، بالموت أو بالحياة، باحتمالات الذبول أو التجدد؛ بل تعيشه بقلق الافتعال والاصطناع والوهم، قلق «زائف»، طفلي، يتلافى سؤال الزمن، ويتجنب مضاء أسئلته القصية. لذا، اكتملت شخصية بلا نتوءات ولا طيات، شخصية مشهدية، «كيتشية»، بتعبير الروائي ميلان كونديرا.
غير أن ال»بطة» هذه، لن تستنفذها قصتها. إذ ستدعى، في الرواية الجديدة للمديني، رواية «هموم بطة»، الصادرة أخيرا، لاختبار ذاتها في سياقات جديدة، ستجعل منها شخصية روائية ذات أبعاد مثيرة ومسارات مدهشة. والمثير بهذا الخصوص، هو أن المديني أنتج نصا هجينا، اكتمل قصة وانفتح رواية (إذ أن قصة «هموم بطة»، هي أيضا نواة لرواية حملت العنوان ذاته، بل ومثلت فصلها الأول). وهو وضع فريد، يتيح لهذه القصة ، امتياز أن تقرأ على مستويين، في علاقتها بقصص المجموعة القصصية، و كذا في علاقة بالرواية التي حملت عنوانها، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة، إلى إحلال مستوى مكان آخر. إذ يظل للقصة، عالمها المفرد حتى وإن اقترنت لاحقا بسياق أشمل، هو سياق الرواية التي احتوتها.
الوحدة، التيمة والتنويع
تبدو تيمة الوحدة، تيمة مشتركة بين قصص المجموعة، فشخصياتها في الغالب، تعيش معزولة، حتى وإن بدا أنها تقاسم الغير أطوارا من حياته. وهذه التيمة تبدو مائزة أكثر في قصص: نظرة، فابتسامة، عادات ماري تيريز، الخطاب (1)، الخطاب (2)، والخطاب (3)، تركيب، ثم قصة « حليب».
يلتقط الراوي شخصيات قصصه، وقد درجت على العادة. ويمكن بهذا الصدد الانتباه إلى تواتر لفظة «العادة»، على شكل لازمة، تفتتح مقاطع الكثير من القصص، والتي كتب أغلبها، بطريقة المقاطع الشذرية القصيرة أو الطويلة.
من ذلك، الشخصية النسائية « لور»، في قصة « نظرة فابتسامة، ف ...»، وهي شابة خجولة، عمرها لا يتعدى عشرين سنة، تعمل مستخدمة أذونات بإحدى الشركات، تعيش حياتها الشخصية والمهنية، بتوحد وتكرار.
تلتقط القصة بدقة واختزال، وباسترسال في الوقائع متنام ومحكم، اللحظات التي ستبرح فيها لور وحدانيتها، وتشرع في التجاوب، بشبوب عاطفة غامضة، مع إحدى بنات جنسها (شانتال) تعمل موظفة رفيعة بنفس الشركة. تلامس القصة موضوع المثلية الجنسية لدى النساء، ضمن سياق مخصوص بعلاقات مهنية غير متكافئة، بين موظفة رفيعة ومستخدمة بسيطة.
تبرح لور وحدانيتها، استجابة لنداء غامض عجزت عن فهمه، وإن مضت خلفه بخدرممغنط. إنها تبدو، بالأحرى، كالواقعة في شرك محبوك، نصبته شانتال، بطريقتها الدربة ومراسها الظاهر، في انتقاء شريكاتها الجنسيات، والتأثير عليهن بموقعها الرفيع، ثم اجتذابهن إلى رغباتها المدبرة بإتقان.
يبدو انجذاب لور نحو شانتال انجذابا نحو المثيل والشبيه (المثلية الجنسية)، مما يعني أنها، ببراح عزلتها، لم تمض أبعد من ذاتها. إلى جانب ذلك، تشخص لور نمطا من الشخصيات الهشة، الخجولة والصامتة، تجعلها عزلتها ووحدانيتها هدفا مفضلا للمناورات الخبيرة.
مقابل لور، تبدو « ماري تيريز»، بطلة قصة «عادات ماري تيريز»، كائنا يأبى المعايشة والمشاطرة، يتخذ نظام الوحدة لديه شكل نظام مرتب بدقة، يقيم خارج الزمن، موصولا بأسباب الاطمئنان والسكون، بعيدا عن مخاطر الطارئ، واحتمالات التبدل. لذا تبدو هذه الوحدة مطلقة، مكتفية بذاتها، لا تتطلع إلى شيء عداها. وهي، بسماتها تلك، لا تتدرج ضمن نماذج الوحدة المأثورة في بعض الكتابات الأدبية، حيث تكون الوحدة انتظارا لشيء قادم وواعد؛ أو تكون وجودا فاغرا، يعيش على أمل اكتماله. إذ يمكن اعتبار وحدة ماري، وحدة لا تنتظر شيئا، ولو بالمعنى الذي قد يجعل الانتظار لديها غاية لذاته: إنها «لا تحرك خيوطا مثل بنيلوب، وليس لها أي أوليس تنتظره» ص 45.
لكن هل ستفلح ماري تيريز في الإبقاء على وحدتها هذه، خارج مفاعيل الزمن والتبدل واقتحامات الآخر، ووفق نظام للعادة لا يختل ؟.
الظاهر أن النهاية التي آلت إليها القصة، أبدت استحالة، بله عبث، إبقاء هذا النظام على ذاته، واستدامته بشكله المغلق. إنه نظام منذور للتحلل والموت. وهو ما خبرته ماري بنفسها، في لحظة ساح إدراكها، وغام، فبدا لها فجأة، جزء من عالمها المرتب، عرضة للذبول والاصفرار:
« (...) وهي لا تقوى على النهوض، جسمها انسحب، ينسحب منها، مما حولها لا ترى إلا صورة غائمة، بينما تحت عينيها المسبلتين تنظر إليها واقفة في الحديقة الداخلية للعمارة تتطلع إلى شرفة في الطابق الأول. شباكها مغلق منذ ما لا تذكر من أيام، وشرفتها هي هي، الأصص التي تعرف ما تزال في أرضيتها، لكن زهور الجيرانيوم ذبلت فيه، وتساقطت أشلاء، ولا حمام يحوم حولها، لا شك أن الزؤان في الصحن نفذ، و...البطتان، البطتان الخشبيتان، اللتان اعتادت أن تنقل إليهما بصرها عديد مرات وهي في ذهاب وإياب، تراهما ما زالتا رابضتين فوق الحاجز الحديدي للشرفة، غير أن ألوان الزخرفة على الخشب، بهتت، واصفرت، ولم تملك إلا أن تتعجب مما ترى، حتى إنها أرادت أن تستنكر: ليست هذه عادة ماري تيريز. ما الذي حدث لماري تيريز؟» ص 55.
لقد تاخمت الرؤية الغائمة معنى آخر لم تتعود عليه ماري تيريز، هي الواهمة بخلود معناها الأول. فقد برح عالمها، بغتة، نظامه السرمدي وصار عرضة للتغيرات القاسية، المنذرة بالفناء. من ثمة، بدت وحدتها فائحة بعطن الموت، لأنها أمست كأي نظام مزعوم الاكتمال، أسيرة نفسها، لا تقتات مما يغايرها، أو يصخب الحياة فيها من جديد.
بالمقارنة مع ماري تيريز، تمثل شخصية (مامي)، الشخصية الراوية في قصة «خطاب (1)، والحاضرة كذلك في قصتي (خطاب 2)، و(خطاب3، تركيب)، مظهرا مغايرا لحياة العزلة. قبل تقصي ذلك، نريد الإشارة إلى أن القصص الثلاث، تلتئم حول فضاء بعينه، هو مقهى «الصخرة الكبرى» بالدائرة السابعة بباريس، وتحكي بأصوات ثلاثة متباينة ( مامي، وراو غفل، ثم الراوي المكنى « الفيلسوف»)، الأجواء التي يلتئم حولها رواده الأليفون: فرنسيون في معظمهم، فضلا عن شخصية كنيت من طرفهم بالفيلسوف، وهو مثقف مهاجر ذو أصل جزائري. تلتقط القصص العلاقات القائمة بين رواد المقهى، حكاياتهم الخاصة، لغاتهم، ثرثراتهم، تنابزهم ولمزهم، في جو تشوبه في الآن معا، مظاهر التآلف والاحتقان.
تنتظم هذه القصص وفق منطق المتواليات القصصية، والتي تتيح للقصة الواحدة، وجودا نصيا مكتملا، و كذا وجودا ممتدا في القصة التي تليها، أو تلك التي تكون سبقتها. وقد أفرزت مجتمعة شخصيتين مائزتين، هما شخصية (مامي)، وشخصية ( الفيلسوف).
بخلاف ماري تيريز، لا تقيم مامي في شرنقة الوحدة، ولا تخلد إلى نظاميتها الصادة للزمن أوللغير. إنها تمثل بالأحرى، عزلة المنبوذ، l?exclue، الذي يشهر فرادته، ويكشفها صريحة وعارية أمام الملأ، بلغة جريئة ترفض المواضعات والتوافقات الجماعية. وهي تحيا وحدتها كوضعية وجودية، تحتمل شرطها، وتمضي به إلى مداه.
مامي هذه، امرأة كهلة، فقدت زوجها باكرا، وعبت باكتفاء من الحياة، قبل أن تجد نفسها في النهاية وحيدة، تمضي مساءاتها رفقة رواد المقهى، تبادلهم الشرب والحديث الصفيق، تكشف الزيف، وتفضح دون لأي خسة الغير ونذالته . إنها تشهر استثناءها بلا مجاملة أو مهادنة. وقد شخص كلامها، لسنا ودفقا، لا تباعد فقراته سوى خطوط متقطعة، هي علامة طباعية على أن كلامها المدون مجتزآت من سيل كلام لا يكاد يتوقف. ويبدو أن القصة تمكنت من منح هذه اللغة السيالة، شكلا جماليا، أمكن بفضله، « تقنين» دفقها، وجعله يشف عن سيرة مامي ورؤيتها الأصيلة للحياة وللآخرين. وقد شخصت المرأة متناغمة أكثر مع الفيلسوف، ذي الشرط الوجودي المماثل لشرطها. فهو بدوره، كائن وحيد، يعيش وضع الغريب والمنبوذ ( هكذا شخص نفسه في ص. 83) في الوسط الفرنسي الذي هاجر إليه.
الفيلسوف، شأن مامي، لا يجعل من شرطه المتوحد، تعلة للانكفاء على ذاته، والمكوث رفيق عزلته. لقد فضل، هو كذلك، أن يعيش وسط الآخرين ( يشارك رواد المقهى مساءاتهم)، وأن يشهر في وجههم رأيه المختلف، خاصة حين ينتفض ضد الآراء الآسنة بكره الآخر، الأجنبي، والتوجس منه وتبخيس عنصره.
تنتهي متوالية ( الخطابات)، بنبرة انفعالية، ومؤثرة، تباغتنا بانحرافها عن اللغة الحادة، الاقتحامية والساخرة ، والتي طبعت إلى حدود نهاية القصة، لغة الفيلسوف. إذ أن انشغال الأخير بالحالة الصحية لمامي، والتي ساءت في أحد مساءات المقهى، زادت من حدة قلقه عليها، فاختار البقاء إلى جانبها توقعا للأسوأ. سيكتشف الفيلسوف حينئذ أن المرأة تبيت وحيدة في المقهى، لأنها لا تتوفر على بيت تلجأ إليه.
تضفي القصة على وحدة مامي، عند نهاية المتوالية، بعدا مأساويا نبيلا. فهي حرصت أن لا تنحدر بها نحو وضع يثير الشفقة ويستوجب الحماية. بل أبقتها متسامية، في مستوى الشرط الوجودي الجدير بمأساته. غير أن هذا الوضع الصعب، يمكن أن يخصب وحدة الذات، و يدفئ عزلتها القاسية، بصداقة تشاطرها وجودها، وتنشغل بمصيرها؛ صداقة فريدة و»خالصة»amitié désintéressée ، لا يستوجب نشوؤها شرط الانتماء المشترك لوطن أو لجنس. إنها الصداقة التي تصل الفيلسوف بمامي، تدني الغريب من الغريب، و تؤالف بين المنبوذ والمنبوذ. بالتالي، يظهر أن القصة الأخيرة من متوالية ( خطاب)، لا تعرض فقط مصائر متوحدة، بل ترسم بخفوت أيضا معنى رهيفا للمشاطرة والصداقة الصامتة.
تنتهي التنويعات على تيمة الوحدة في هذه المجموعة، بعرض وضعية طريفة، تبرز وحدانية الرغبة، وعجزها المستديم على الالتقاء بنظيرها. ذاك ما شخصته قصة « حليب» التي عرضت وضعية شخصيتين، امرأة ورجل، يلتقيان مساء كل يوم بمقصف باريزي. الرجل يتميز بخجله المفرط، يكاد يصل به حد الاعتذار عن وجوده: « يعتذر دائما من الجميع، ويستغربون، فهو لم يخطئ معهم أبدا في شيء، كيف يخطئ من لا يكاد يكلم أي إنسان؟ لكنه يصر أن يعتذر، وهو يدير الطرف، يخشى أن يكون قد أقلق بعينيه من لا ينبغي أو يفترض أن يقلق.»، فيما المرأة تبدو هادئة حد الضجر. تشرع المرأة، لحظة بعينها، في إلصاق صورة وعل صغير أعلى نهدها، بدا بديلا رمزيا عن الصبي الذي لم تنجب، والذي لم يرتو من نبع حليبها. إنه طقس رمزي لأمومة «مخصية»، تعرضه المرأة، بلامبالاة وبحس الاستعراض، مساء كل يوم على رواد المقصف، وبخاصة على الرجل الذي يظل شاخصا إليها تلصق الوعل على نهدها. يشتهي الرجل في دخيلته، لو حل مكان الطفل، أي بديله الرمزي، الوعل الصغير، كي «يستطعم حليب أمه». إنه يشتهي النهد بحس الطفل الذي كانه، وكذا بحس الانتقام من أم حرمته، طفلا ما زال، من حليبها، حين أبعدته
عنها، وسلمته إلى مربية عجفاء. إن رغبته الجامحة في استحلاب نهد المرأة، وهي رغبة يختبر مساء كل يوم عجزه عن تحقيقها، هي رغبة الطفل الذي كانه، وليس رغبة الرجل الذي صاره. والمرأة الجالسة قبالته، ليست امرأة وحسب، بل بديلا محتملا لأمه الأولى التي حرمته من حليبها. إنها وضعية جديرة بالتحليل النفساني، حيث يبدو الرجل بالأحرى، أسير «المرحلة الفمية»، التي لم يعشها، وتبدو رغبته حسيرة، ماؤها راكد، لم يبرح ماضي الرغبات الأولى، ولم يمض بحثا عن رغبات أزمنة أخرى.
الوضعية بمواصفاتها تلك، لا تخلو من مفارقة، تقابل بين رغبتين متوحدتين، تبحث الواحدة عن الأخرى، شعورا أو لا شعورا ( المرأة- الأم عن الرضيع، والطفل ? الرجل عن أمه)، دون أن يفضي بهما ذلك إلى لقائهماالمرغوب. بالتالي، تظل الرغبتان تراوحان مكانهما، كالأسطوانة المشروخة، في مشهد استعراضي وتلصصي، لا يخطو إلى الأمام أبدا.
خريف: الهبة المصقولة
تنشغل المجموعة القصصية بالقارئ. يظهر ذلك واضحا من حرصها على تصدير المجموعة باستهلال، هو عتبة اللقاء المباشر بين الكاتب وقارئه. لامس الاستهلال، من بين مواضيع أخرى، موقع المجموعة الجديدة في المسار الإبداعي للمؤلف، صلته التي لم تنبت أبدا مع جنس القصة، رغم إخلاصه أكثر لجنس الرواية، مع إبراز السمات الفارقة التي تفرد كتابة القصة، وتجعل منها كتابة موهوبة للكثافة والومض والدقة واللحظة الفالتة؛
لقد بدا الاستهلال جوابا مبطنا أو صريحا على أسئلة مفترضة، تلك التي يبدو أنها شغلت قارئ أحمد المديني، قارئه الوفي، كما يسميه (ص15)، ذاك الذي إما رافق تجربته عبر عقود، أو التحق بواحد من وجوهها.
مجموعة « خريف»، اقتراح جديد، بتعبير الكاتب، على هذا القارئ.
هي كذلك، أولا، لعالمها الجديد، المستوحى من بيئة أجنبية (باريس) صارت جزءا من حياة المؤلف الذي « نبتت له جذور في تربتها، مدته بأصول كتابة ونبض حياة مغايرة» ص 15، وإن صار هذا العالم يحضر بأشكال متفاوتة في نصوصه الأخيرة ( مثل المجموعة القصصية « العصافير»، وروايته « المخدوعون»).
وهي اقتراح جديد، كذلك، باعتبار المنظور الجمالي المغاير الذي صدرت عنه.
لقد تبلور هذا المفهوم الجمالي على مهاد المسافة التي تفصل القصة ? المنطلق (العنف في الدماغ)، بالأخاديد التي حفرتها في المجرى الإبداعي المترامي للمؤلف، عن قصة ( خريف، وقصص أخرى). وهي مسافة الانتقال.
إنها، إذن، مسافة الانتقال من جماليات التجريب ( بما تعنيه من «فوضى» لا تعدم النظام برغم ذلك، وإلا استحالت عماء)، إلى جماليات «النظام»، جماليات الكلاسيكية الأصيلة. الجنوح إلى هذه الكلاسيكية، لا يعني الأوبة « المجددة» للتقليد، على غرار ما قد يذهب إليه الفهم المبتسر للكلاسيكية كما عمدته التصنيفات المدرسية، ونوع من المدونات الجامعية. إنها تعني بالأحرى الاتصال بالمجرى العميق للأدب، بجذوره الضاربة في أبدية لا زمن لها، تلك التي تعيد إلى أذهاننا الصورة الاستعارية لخوان غيتسولو عن شجرة الأدب الوارفة، ذات الأوراق الدغلة، والأغصان المتوالدة.
تختار الكتابة الانخراط في ذاكرة الأدب، وتتوق إلى انتداب موقع لها في مجراه المديد والعريض، بإبداع الأصيلoriginal ، الذي لايمحل ولا يبهت، وليس بكتابة الأصلoriginel، تلك التي تستعذبها المحاكاة، بدعة التكرار وسنة الاجترار. كتابة بهذا المنزع لا يمكن إلا أن تعجن وتمزج بمستحضرات التشذيب والنخل، كي تستخلص صقيلة، كالجسد المنذور للخلود، تجلى منه كل الزوائد التي تسرع بتحلله وموته. وستكون قصة « المصبنة الأدبية»، صدى لخطاب الاستهلال، وتمثيلا ذكيا ولماحا لمضمونه ولما نحن بصدده.
للمصبنة الأدبية، معنى ملتبسا. فهي تمثل، حكائيا، شأن أي مصبنة أخرى، مكانا للغسل والشطف والتنظيف. تمثل الغرابة أمامنا، كما مثلت أمام الراوي- الكاتب، حين بدا أن المصبنة التي اكتشفها الراوي في الخريف (لننتبه إلى عودة هذا الفصل في السياق الراهن)، تختص في تصبين وغسل ما يكتب أدبا. يصفها صاحبها الفرنسي كالتالي:
« فكرت أن البشر يغسلون ثيابهم، ولا يساومون في الدفع. فلماذا الكتاب مثلا لا يغسلون كتبهم بعد الطبع، أو مخطوطاتهم قبل ذلك، سيعود عليهم الغسيل بالنفع، سيعفيهم من أي نقد جارح، ولغو زائد» ص 150.
المصبنة الأدبية، بالمعنى الجمالي، هو الموقف الذي يصحح، يحذف ويعدل، كي ينتج نصا منخولا، نظيفا وأنيقا، جديرا بأن يكون هبة للقارئ. إذ بعد أن عاد الكاتب لتسلم نسخته، وقد خضعت للتصبين، خاطبه صاحب المصبنة قائلا:
« سم كتابك « خريف»، أما قصصه فهي التي احتفظنا بها هنا، وتخلصنا من غيرها، فرضيت بهذا الغسيل (...)، عساك أنت أيضا أيها القارئ ترضى، وتبتهج معي بالقصة والحياة كل خريف» ص 21.
هكذا يخطب الراوي- الكاتب ود القارئ، يسترضيه بنص يحمل بصمات الاشتغال والجهد والضنا. إنه لا يلقي في وجهه بمواد خام، بإسهالات، أو بفضلات وزوائد قميئة، بل جسدا نصيا صقيلا، يريده أن يكون في الآن معا، وبحس المشاطرة، تجسيدا للأدب الأصيل، واحتفاء شهيا بالحياة الثرة المترعة بالبهجة والجمال.
*********************
* قدمت هذه القراءة بمناسبة اللقاء الذي نطم حول المجموعة القصصية بالمعرض الدولي للكتاب يوم 19-02- 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.