بدءا، تجدر الإشارة إلى مسألة مهمة ألا وهي مسألة الموضعة في العلوم الإنسانية، هذه العلوم التي أثير حولها الكثير من الشغب المعرفي، وهي العلوم التي عرفت وتعرف تقدما مطردا سواء على مستوى المناهج، أو على مستوى طرح المعضلات ، أليست هي علوم تختص بمعالجة الظواهر الإنسانية؟ إذن، فهل من سبيل إلى هذه الموضعة؟ سؤال طرحه بياجي( 1896- 1980) عندما استشعر أثناء أبحاثه المتميزة أنه بالفعل لا سبيل إلى موضعة الظاهرة الإنسانية، أولا لأنها ظاهرة تحبل بالعديد من الإشارات والرموز، ثانيا ، لأنها ظاهرة متغيرة وقابلة للتأويل في أية لحظة، وتبقى جميع طرق معالجتها نسبية، نظرا لتعقيداتها واختلافها من مجال معرفي إلى من جال معرفي آخر. يقول بياجي:" تتميز السلوكات الإنسانية بعدد من المميزات النوعية تتجلى في تكوين ثقافات جماعية وفي استعمال أدوات دلالية أو رمزية متميزة أعلى ما يكون التمييز..." فعلا، إن هذا الترميز لا نجده في العلوم الفيزيائية وحتى في العلوم البيولوجية كما يذهب إلى ذلك هذا العالم. ما سطرناه سالفا، يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن أن تتحقق الموضوعية في الكتابة عن معرض تشكيلي، أو في معالجة رؤية فنية لفنان أو لفنانة معينة؟ بصرف النظر عن أي إجابة عن هذا السؤال، تبقى رؤى ومتاهات وهلوسات الفنان مستعصية عن القبض، ناهيك عن التشخيص الموضوعي أو الرمزي الذي تزخر به اللوحة من معاني يوقظها فينا إحساس خاص بالشكل، باللون، الظل، الضوء، النقطة، الخط، المادة وباقي المعاني الأخرى التي لها علاقة بثقافة العين، عين الفنان ثم عين المشاهد أو الزائر للمعرض. قد يكون هذا الطرح ، وقد تكون هذه الأسئلة غير ضرورية، فنحن أمام مجال يصعب فيه أن نقول هذا جميل وهذا غير جميل. يقول فريديريك نيتشه(1844-1900) : "لا أحد بإمكانه أن يدرك في العمل الفني( المنجز ) الكيفية التي أنجز بها، وتلك ميزته" إذا كانت ميزة الفن، أنها غير خاضعة للموضعة كما نجد في علوم ومجالات أخرى، فإن ذلك يتيح لنا استعمال خطابات ولغات مختلفة لفهم العمل الفني. الأمر إذن يتعلق بالذات:ذات الفنان التي لا يمكن إلا أن تنفلت من سلطة الإكراه والضغط، الطفولة، الثقافة، المجتمع، وباقي الشروط والعوامل الأخرى التي تنتمي إلى منطقتي ( الوعي واللاوعي) ومع ذلك، ينبغي لنا، كمشاهدين أو كمشاركين، أن نبحث عن شرفة، يمكن أن نطل منها على منجز الفنان وما أكثر هذه الشرفات. مظلة "نرجس الجباري" سؤال محير، فقبل المظلة، كانت هذه الفنانة أسيرة اللونين الأبيض والأسود، وفي بعض الأعمال أضافت لونين آخرين هما الرمادي والأزرق، وفي أخرى سابقة استعملت أدوات ومواد التراب والجير وقطع من الورق المقوى وخرق بالية وخيوط من حرير وأوراق الكتب والمؤلفات القديمة، أوراق تحمل عناوين العشق والحزن وفناء الذات والفاعل والمفعول به والجحيم، وسعادة القلب والهجر وعذاب الوجدان، وعن طريق المراقبة المستمرة، لاحظت أن نرجس تعيش قلقا فنيا عالي الدرجة... كعادة الفنانين المهووسين بالبحث عن اللوحة المثال أو اللوحة النموذج، ولهذا استطاعت أن تمر بكثير من التجارب... رسم السحب، الضباب، الندى، الليل، الفجر، النهار، الأمواج، الوجود، الجسد، لون الماء ، أسوار... وبعث الحياة في الأشياء التي تتخيلها حيث يتم العمل على إخراجها من العدم إلى الوجود أو من المجهول إلى المعلوم. هكذا نكون أمام تجربة فريدة. تجربة تشكل انزياحا في مسار هذه الفنانة القلقة الهادئة، التي تحاول، بل تجهد ذاتها كي لا تسقط في فخ مدرسة فنية بعينها. إن المتأمل لأعمال هذه الفنانة سوف تلفت انتباهه بصمة الأناقة في توزيع الألوان، والبحث عن لغة فنية وتشكيلية تنأى عن الشبق والتوظيف المتعسف للتراث الذي يصل أحيانا إلى حد الفكلرة، أو استثمار ذاكرة الطفولة بشكل أعمى وسطحي. مظلة نرجس، من أجل ماذا؟ هل هي مظلة مشرعة من أجل محاسبة الذات ، ستر العورة، من أجل المطر، من أجل الشمس، الطفولة، الحنان، الدموع، الفرح...أم من أجل الحب، الحرية، ومحو الأوجاع؟. لمن ترسم نرجس؟ لترميم وعيها، أم لترميم وعي الآخرين؟ لا شك هما معا. نص، من وحي مشاهدة لوحات الفنانة "نرجس الجباري" الفنانة التي تعيش من أجل تطوير اللوحة ،و هي تنتمي إلى الحساسية الجديدة في الفن التشكيلي المغربي، و خريجة معهد الفنون الجميلة بتطوان. أصيلة 17يناير 2011