سانشيز: "الهجرة تساهم بشكل إيجابي في الاقتصاد الإسباني"    الكونفدرالية تُشدد على حماية مكتسبات المتقاعدين وتُحذر الحكومة من قرارات أحادية في ملف التقاعد    فرحات مهني يُتوَّج في حفل دولي مرموق بباريس    ميتا تخطط لتطوير ذكاء اصطناعي يتجاوز قدرات العقل البشري    "لوفيغارو": المغرب وجهة "مثالية" لقضاء العطلة خلال يوليوز أو غشت    بطولة إيطاليا: انتر يسعى لضم النيجيري لوكمان من أتالانتا    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة بالمغرب    مكناس..توقيف شخص يشتبه في تورطه في قضية تتعلق بحيازة وترويج المخدرات والمؤثرات العقلية    احتفاء بالراحل بن عيسى في الإسكندرية بمناسبة اختياره شخصية الدورة العشرين للمعرض الدولي للكتاب    كيوسك الجمعة | موسم عبور استثنائي للجالية المغربية المقيمة بالخارج    البحر يلفظ جثة رجل يرتدي بزة غطس قبالة سواحل سبتة المحتلة    البيت الأبيض يعلن إصابة ترامب بمرض مزمن    جريمة بشعة في تازة.. العثور على طبيبة مقطعة ومدفونة في حديقة والاشتباه في زوجها الطبيب الذي غادر البلاد    سقوط شخص من الطابق الرابع لمنزل سكني بطنجة    إدانات دولية للهجوم الإسرائيلي على سوريا والشرع: "لسنا ممن يخشى الحرب"    بعيدا عن قضية الصحراء المغربية .. التعاون يتقوى بين إسبانيا وموريتانيا    اليهود المغاربة يطالبون بإعلان رأس السنة العبرية عطلة رسمية وطنية    تقرير: الهلال يقنع بونو بتمديد العقد    "حزب الكتاب" يدافع عن آيت بوكماز    وزير الثقافة يعزي في وفاة الفنانين الأمازيغيين صالح الباشا وبناصر أوخويا    تسريب بيانات أفغانية يكشف هويات جواسيس ونخبة من القوات البريطانية    ولد الرشيد يستقبل الرئيس السابق لجنوب إفريقيا وزعيم حزب "أومكونتو وي سيزوي" جاكوب زوما    رئيس الفيفا ينعي بأسى وفاة أسطورة الكرة المغربية الراحل أحمد فرس    فيلدا: لبؤات الأطلس عازمات على حسم بطاقة التأهل إلى نصف نهائي كأس أمم إفريقيا للسيدات    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا للجنة الوطنية لمتابعة ملف التقاعد        حصيلة دامية في السويداء: 500 قتيل    محمد رضا يطلق "كشكول شعبي" يحتفي بالتراث بروح عصرية مدعومة بالذكاء الاصطناعي    الشغف الموسيقي يصدح من كورنيش ابي رقراق    افتتاح بهيج للمهرجان الوطني للعيطة في دورته ال23 بأسفي تحت الرعاية الملكية السامية    السلطات السويسرية تدعو مواطنيها إلى أخذ الحيطة من الكلاب الضالة في المغرب    وداعا أحمد فرس    مؤسسة وسيط المملكة تلقت أزيد من 13 ألف شكاية وتظلم وطلب تسوية ومبادرة تلقائية خلال سنتي 2022 و2023    تدشين توسعة مصنع «ستيلانتيس» بالقنيطرة    النفط يستعيد توازنه بدعم من انتعاش الاقتصاد الأمريكي    الأهلي يتعاقد مع اللاعب المغربي أيوب عمراوي ل 3 مواسم    بيلينغهام يغيب حوالي ثلاثة أشهر عن ريال مدريد بعد جراحة ناجحة في الكتف    البلاوي: التحديات الوطنية والدولية تتطلب من فضاء النيابة العامة التأهيل على مستوى الممارسة القضائية    القضاء الفرنسي يأمر بالإفراج عن اللبناني جورج عبدالله بعد 40 عاما في السجن    الجيش الفرنسي يغادر السنغال مُنهيا وجوده الدائم في غرب إفريقيا    موقع "الأول" يتوج بجائزة الصحافة البرلمانية لسنة 2025        بورصة الدار البيضاء تغلق على وقع الارتفاع    تزنيت تحتضن ندوة وطنية حول المجوهرات المغربية: تثمين التراث ومواكبة تحديات التحديث والتسويق الدولي    إقليم زاكورة يستعد لاحتضان الدورة ال4 للملتقى السنوي للجالية المغربية بالخارج    الرجاء يحصّن عرينه بخالد أكبيري علوي    المغرب، بقيادة جلالة الملك، يؤكد مكانته كقوة اقتصادية صاعدة (رئيس البنك الإفريقي للتنمية)    دراسة تكشف أكبر فجوات الأجور في تسع دول غربية متقدمة    دراسة تكشف العلاقة العصبية بين النوم وطنين الأذن    تهنئة : سكينة القريشي تحصل على شهادة الدكتوراه في الإقتصاد والتدبير بميزة مشرف جدا    ماذا لو كان للشعب قادة؟؟؟    المساعدات الدولية للبلدان الفقيرة في مجال الصحة قد تسجل أدنى مستوياتها منذ 15 عاما    دراسة: تناول البيض بانتظام يقلل خطر الإصابة بمرض الزهايمر لدى كبار السن    زمن النص القرآني والخطاب النبوي    "مدارات" يسلّط الضوء على سيرة المؤرخ أبو القاسم الزياني هذا المساء على الإذاعة الوطنية    التوفيق: معاملاتنا المالية مقبولة شرعا.. والتمويل التشاركي إضافة نوعية للنظام المصرفي    التوفيق: المغرب انضم إلى "المالية الأساسية" على أساس أن المعاملات البنكية الأخرى مقبولة شرعاً    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العربي المساري: الإبداع في نضالية الصحافة.. بقلم // عبد القادر الإدريسي
نشر في العلم يوم 27 - 07 - 2015

رزئ المغرب في فقد أحد أقطاب الصحافة الذين أبدعوا في المهنة فكانوا رواداً، وتفوقوا في العمل فكانوا نجوماً، وتألقوا في الأداء فكانوا أساتذة، وأعطوا فكان عطاؤهم جزيلاً وافراً ومتميزاً. لقد تجمعت في الأستاذ محمد العربي المساري مواهب مبدعة وملكات مثمرة ومهارات منتجة وقدرات مذهلة على العمل النافع والإنتاج الوافر، لم تتجمع لدى أحد من أبناء جيله، فكان بحق فريدَ عصره في دنيا الصحافة والفكر والثقافة، وكأنه جاء في الوقت المناسب، لينهض بالمهمة المناسبة، وليؤدي الدور المناسب الذي كان أهلاً له وجديراً به. فقد بزغ نجمه في مسقط رأسه تطوان حينما كان ينشر مقالاته في صحف المهجر الأمريكي، وهو بعدُ طالب في المعهد الرسمي الذي كان في ذلك العهد من أواخر الأربعينيات ومطالع الخمسينيات من القرن الماضي بمثابة كلية هي أرقى شأناً من كليات زماننا. وقبل أن يحدد وجهته إلى الرباط بعد الاستقلال، اختار أن يتوجه إلى اسبانيا ليقضي فترة خصبة من حياته الدراسية في غرناطة كان يصفها لي في أحاديثي معه، بأنها كانت مرحلة التدريب الوجداني والشحن الذهني والترويض الفكري، قبل أن يلتحق بالإذاعة المغربية منتجاً للبرامج الثقافية، مواكباً لفترة التحولات الكبرى التي عرفها المغرب في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات. فلفت إليه الأنظار بما كان يقدمه للإذاعة من زاد ثقافي متميز، وبما كانت تتوهج به برامجه من أنوار المعرفة، مما جعل من الإذاعة مدرسة طيبة الأعراق.
ولما أوفدته الإذاعة إلى القاهرة لقضاء فترة ستة شهور في إعادة التكوين والتأهيل المهني والمعرفي، كان مثالاً للمثقف الذي ينتهز الفرص للتزود بالمعرفة، وللانفتاح على العالم من حوله، وللتعرف على ماجريات الأحداث التي كانت مصر ترسم خطوطها وتصنع ظروفها. فكانت تلك الفترة القصيرة من حياة المساري بمثابة الاستحمام الثقافي والتطهير الفكري والصقل المهني. فقد كانت القاهرة في سنة 1958، وما أعقبها من سنوات، عاصمة العرب، وكانت الصحافة المصرية والإذاعة المصرية مصدراً للإبداع وللتنوير وللتثقيف، ومدرسة للنضال السياسي والثقافي والفكري. وكان المساري الطالب ذا النباهة العالية والفطنة الفائقة والشهية المفرطة في التهام المعرفة على تعدد حقولها. وبذلك جمع المساري بين الحيوية التي اكتسبها في تطوان المزدهرة بالحركة الثقافية والصحافية، وبين الانفتاح على الثقافة الغربية من نافذة الثقافة الإسبانية، وبين الاغتراف من منابع الثقافة السياسية ومناهل الصحافة الوطنية الملتزمة في مصر التي كانت في تلك الفترة أم دنيا العرب بحق وحقيق.
وكان مما يتفق وطبائع الأشياء أن تضيق الدنيا بالمساري في الإذاعة، لأن قدراته ومواهبه واستعداداته للعطاء أكبر من الإذاعة، ولذلك لم يتردد في الاستجابة لنداء زميله الأستاذ عبدالجبار السحيمي بأن يلتحق بجريدة «العلم» ويأوي إلى ظلها الوارف، فكان دخوله إلى «العلم» في فاتح يناير 1964، دخول الفاتحين تحقق به فتحان اثنان؛ الأول في جريدة «العلم» التي فتحت أبوابها أمام موهبة مكتملة النضوج، متدفقة العطاء، فوّارة لا تستكين، والثاني في حياة المساري الذي انتقل إلى المرحلة الأكثر تقدماً من مراحل مساره المهني، عرف كيف يُنضجها وينفخ فيها من روحه الوثابة، ويجعلها تتطور حتى بلغ أقصى ما يتمنى أن يصل إليه حامل قلم نذر حياته للمهنة ولخدمة الوطن.
جاء المساري إلى «العلم» في وقت كان الوطن يجتاز مرحلة دقيقة، وكان حزب الاستقلال يخوض معركة بناء الدولة المغربية الديمقراطية في ظل الملكية الدستورية. ولم يكن المساري حينما دخل إلى مكتبه الذي يشاركه فيه زميله السحيمي، قد انضم بعد إلى حزب الاستقلال ببطاقة الانخراط، ولكنه كان وطنياً غيوراً على الوطن، مؤمناً به، مؤثراً له على كل شيء، يحمل قلماً مطواعاً وفكراً مستنيراً، ويمتلك قدرات هائلة للعمل في بلاط صاحبة الجلالة الذي لم يكن بعيداً عنه وهو في الإذاعة. ولكن كان لابد أن ينزل إلى الساحة وينصهر في بوتقة الصحافة ليعيش حياته صحافياً حتى وهو وزير للاتصال، وسفير في البرازيل، ورئيس الفريق الإستقلالي في البرلمان، فقد كانت صفة الصحافي هي الغالبة عليه وهي عنوانه والطابع المميز له. قال لي ذات يوم إنه جعل من السفارة جريدة يومية نشيطة، فكان يتحرك كما كان يتحرك في «العلم»، سواء في عهد رئاسة التحرير، أو في عهد المدير المسؤول، أو قبل هذين العهدين. فليس من المبالغة في شيء أن نقول إن الصحافة كانت تسري في دم المساري.
فكما هو الشأن بالنسبة لمحمد حسنين هيكل الذي كان رئيس تحرير «الأهرام»، فلما غادرها في سنة 1974، صار لقب (الجورنالجي) هو الأحب إليه، فكذلك هو المساري الذي انصرف في السنوات الأخيرة من حياته، إلى التأليف في التاريخ السياسي والثقافي والوطني للمغرب، فأصدر مجموعة من الكتب القيمة كان آخرها الذي صدر وهو على فراش المستشفى (اسبانيا الأخرى) الذي جاء بعد ثلاثة كتب مهمة للغاية (ثقوب في الذاكرة: أربع وثائق وطنية)، و(المغرب خارج سياج الحماية: العلاقات الخارجية للحركة الوطنية)، و(علال الفاسي: حضور وعطاء ودور). كما كان حريصاً على إصدار الطبعة الرابعة المزيدة والمنقحة من كتابه الذي دخل به التاريخ (محمد الخامس من سلطان إلى ملك). وهو السبيل الذي سار فيه هيكل في مصر الذي أصدر مجموعة من الكتب عن التاريخ المصري المعاصر. مع الفارق الذي لابد أن يسجل هنا، وهو أن المساري مؤرخ وطني منصف ومحق في أحكامه وموضع ثقة من جميع الأطراف، في حين أن هيكل لايملك هذه المؤهلات.
لقد جعل المساري من الصحافة ساحة للنضال من أجل الوطن، فعاش حياته صحافياً مناضلاً، أو مناضلاً صحافياً، وأبدع في هذا النضال، بل لقد تألق تألقاً عالياً بما لا يقارن به مع غيره. فكان أستاذاً ليس في الصحافة التي تعلمناها منه وعلى يده، بل كان أستاذاً في نضالية الصحافة، وأحد أقطاب الرواد الذين دخلوا تاريخ الصحافة المغربية.
لم يلبث المساري أن يندمج كلياً في الصحافة لما التحق بالعلم. بل نراه قد اندمج في العمل الوطني حينما انضم إلى حزب الاستقلال، وتدرج في سلم النضال الوطني، إلى أن انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لعدة دورات، فكان صوت الصحافة المدويّ في الحزب، وكان صوت الحزب المجلجل في الصحافة، بل في الحياة العامة. لأن المساري صار من الوجوه المشرقة في الحياة السياسية والنضالية في المغرب منذ أن انضم إلى حزب الاستقلال وصارت العلم هي بيته والصحافة هي حياته ولا أقول هي مهنته فحسب.
لقد أعطى المساري للصحافة البريق المبهر والإشراق المبهج والدور الرئيس في صناعة الفكر الوطني، فكان مدرسة في الإبداع والتجديد والتحديث والتطوير، وكان مثالاً للمناضل الصحافي المؤمن بقضايا الوطن، بقدر ما كان أستاذاً لأجيال من الصحافيين تعاقبت على المهنة. فهو قمة في التحليل السياسي، كما هو قمة في التوثيق التاريخي، وقمة في التأصيل الفكري، وقمة في الخلق الرفيع، رحمه الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.