في ربيع سنة 1983، اقترح علي المرحوم الأستاذ العربي المساري وأنا أعمل سكرتير التحرير بوكالة المغرب العربي للأنباء، إعداد دراسة شاملة عن جريدة "العلم" شكلا ومضمونا من 1946 تاريخ صدورها إلى 1986 تاريخ الاحتفال بذكراها الأربعينية. رحبت بالفكرة وزاد من تحمسي لها ما أعددته من دراسة مماثلة لجريدة "الوحدة المغربية" التي أسسها الشيخ المكي الناصري سنة 1937 بتطوان بعد انفصاله عن حزب الإصلاح الوطني للزعيم عبد الخالق الطريس، وتأسيسه حزب الوحدة المغربية. كانت دهشتي قوية في لقائي الأول مع المواد والأبواب والتخصصات والأعمدة التي نسجتها الجريدة بتلك الدفقة القوية الملامسة لهموم الشعب ومعاناته مع الاستعمار. جريدة "العلم" آنذاك، وفي قمة القهر والتضييق والرقابة، كانت تخصص صفحة أسبوعية للطفل وأخرى للمرأة وثالثة للشباب مع تبويبات عن قطاعات التعليم والشغل والقضاء والاقتصاد، وأخبار عن أوضاع البوادي والأرياف وأحوال الزراعة والظروف المعيشية اليومية.. كانت بعبارة أشمل صحيفة وطنية للبلد كله، صوت الشعب ولسانه. كانت تصدر في 20 صفحة دون مطابع الأوفسيت المتطورة حيث الحروف تصفف يدويا، ودون وكالات أنباء أو محطات تلفزيونية تستقي منها أخبارها الدولية، حيث مصدرها الوحيد آنذاك إذاعة القاهرة التي كان يلتقط أخبارها المرحوم محمد الراضي بمهارة اختزالية فريدة في غياب آلات التسجيل التي لا غنى اليوم للصحافة عنها. قضيتُ سنة بكاملها أتصفح الجريدة بمضامينها المختلفة وأعمدتها المتنوعة التي كان يتناوب عليها نخبة من الوطنيين وأبرزها "حديث الطبال" و"أشار فأشار" و"ما كل شيء يقال"، وكلها أعمدة تلامس هموم الأمة بروح تحررية تكرس نشيد الكفاح وتقوي الشعور بعمق المسئولية الوطنية. كانت بعض صفحات "العلم" تصدر أحيانا بيضاء تحت مقص الرقابة لمجرد أن المقال فيه إشارة إلى الحرية والاستقلال، وكانت "العلم" تكتب بحروف بارزة على المقال المحذوف تارة "ح ر" بمعنى (حذفته الرقابة)، وأخرى "رق" (رقابة).. ومن الطرائف أن راسل أحد القراء مدير الجريدة آنذاك، المرحوم عبد الجليل القباج، يناشده رفقا بالحروف. فعندما يستجمع الحرفين الأولين من (حذفته الرقابة) يصادف كلمة "حر"، ويشعر آنذاك أنه يتنفس عبير الحرية ويسبح في غمارها، على حد قوله. أما الحرفان الثانيان "رق" فيوحيان له بأن زمن ال"رق" والاستعمار لا يبارح مكانه وأن الاستقلال يبقى بعيد المنال. وقد أسرّ لي المرجوم أحمد زياد في محاورة معه بقلب مكتبه بمقر الوزارة الأولى، أنه خاطب مازحا المسئول عن الرقابة محمد السجلماسي لدى عودته من أداء فريضة الحج، وقد حذف مقالا يرصد معاناة الشعب المغربي مع الاحتلال، بقوله :"بالله عليك يا أستاذي الجليل، أريد أن أفهم بعد حذفك مقالا ينشد الاستقلال لبلدك المسلم، هل أنت عائد من الديار المقدسة أم من الفاتيكان؟". اعتمدت "العلم" من حيث الأسلوب، لغة قوية في عمقها، بسيطة في تراكيبها وكأنها تحدث الناس بما يفهمون. وقد نقل لي المرحوم إبراهيم الكتاني، آنذاك رئيس لجنة الرئاسة بحزب الاستقلال، في حوار معه هو الآخر بمنزله الكائن بحي مابيلا، عن الطالب الإبراهيمي وزير الخارجية الجزائري سابقا ونجل المقاوم والعلامة البشير الإبراهيمي، أنه قال له بقلب صريح : "لقد تعلمت العربية من جريدة "العلم" التي كانت تأينا من مدينة وجدة، بعد أن كان والدي يحثني على قراءتها لتقوية مداركي اللغوية والنحوية والنهل من تراكيبها البسيطة والبليغة في آن واحد".. كانت مضامين "العلم" متناغمة هندسيا مع البناء الشكلي أو ما يصطلح على تسميته بالإخراج الصحفي من أشكال وأحجام وقوالب، ومن أنماط الحروف أيضا وأحجامها وتوزيع الوحدات الطباعية الذي كان يتم وفقا لنظام المركز البصري لجذب القراء، وما إلى ذلك من عناصر طباعية جسدت فيها "العلم" الرؤية الإخراجية الاحترافية التي لا تقل جاذبية عن صناعة الإخراج الحديثة. تلك هي "العلم" في أبهى أمجادها النضالية، وتلك هي جريدة البلد التي احتضنت أسماء خالدة من صحفيين ومراسلين ومتعاونين، وكُتاب رأي وكُتاب أعمدة، من أمثال المهدي بن بركة وعبد الرحمان اليوسفي وأمير البيان، شكيب أرسلان، وعلال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وجمال الدين الأفغاني وغيرهم..، والتي ستتحول بسرعة مع بداية الاستقلال من صوت الأمة الزاخر بالعطاء المتعدد، إلى آلة اتصالية متكاملة للتنوير والمعرفة والإطلاع، بعد أن أسست لنفسها جسورا تواصلية مختلفة اتخذ فيها التفاعل مع القراء مسارا تصاعديا..جسور بُنيت عليها وحولها كل المكونات الإعلامية، وجعلت من التنوع مصدر إثراء وتراكم يرفض لونا واحدا من الإعلام والمعرفة. سلمتُ للمرحوم العربي المساري (بعد أن استعصى علي التوفيق بين المسئولية الجديدة التي أسندت إلي بوكالة المغرب العربي للأنباء، ومهمتي ب"العلم") كل ما كتبته واستجمعته من حوارات مع بعض رموز "العلم" في سنوات الحماية من أمثال قدور الورطاسي وأحمد زياد وإبراهيم الكتاني وقاسم الزهيري وعبد الجليل القباج، أول مدير للجريدة وغيرهم.. غادرت المكتب الذي خصص لي بالجريدة إلى جانب الأخت زهور السباعي، وكلي اعتزاز بما قدمته من إسهامات متواضعة عن "العلم الشكل" و"العلم المضمون" في الفترة ما بين 1946 و1986، وكلي ارتياح أيضا بالأجواء الإعلامية السائدة آنذاك، حيث تطالعنا الصحف في كل يوم بمقالات تحليلية ونقدية لأحداث بعضها ملتقط من الصحفي نفسه، وبعضها منسوب إلى الصحيفة الفلانية أو الزميل الفلاني.. فالجسم الصحفي حينذاك منيع ومتماسك، لا تصادم ولا تراشق بين المنابر، وكل صحيفة تعمل، في حدود أنساقها التحريرية المختلفة، على صناعة خط تحريري يميزها ويعكس وجهة نظرها في ظل مناخ سليم متحرر يستوعب أحلام المتلقي من خلال الانفتاح والتفاعل مع همومه وقضاياه اليومية.