حاوره: كريم بوخصاص أصعب شيء في الحرب، أن يمرض أفراد الجيش، خاصة إن كانوا يحتلون مواقع حساسة. ولعل ما أعلنته النقابة المستقلة لأطباء القطاع العام في بيان لها نشرته في 25 ماي، حول تسجيلها محاولات انتحار متفاوتة في صفوف الأطباء، مازالت قيد التتبع والعلاج، يبعث عن الصدمة بشأن وضعية أفراد الجيش الأبيض الذي يقاتل على كل الجبهات من أجل منع تفشي وباء كورونا المستجد. د. المنتظر العلوي، رئيس نقابة أطباء القطاع العام يقوم هنا بتمرين صعب في حوار الغوص في إكراهات العمل ومسببات الأزمة النفسية وما ورائيات وضع منذر بالإنفجار. فجرتم قنبلة من العيار الثقيل قبل أيام بإعلانكم تسجيل محاولات انتحار في صفوف أطباء يشتغلون في مسارات «كوفيد-19»، ماذا يحصل تحديدا؟ قبل الجواب عن سؤالكم دعني أقدم صورة موجزة عن الوضعية العامة لأطباء القطاع العام، والذين نطالب بتحسين ظروف اشتغالهم منذ سنوات من أجل تغيير ولوج المواطنين للعلاج، إيمانا منا بأن تحسين بنية استقبال المواطنين في المستشفيات سيساهم في توفير أجواء ملائمة لممارسة الأطر الصحية لعملها، خاصة أن الأطباء وباقي الأطر الصحية غير مسؤولين عن الظروف السيئة للاشتغال والوضعية الكارثية للمؤسسات الاستشفائية، فالأطباء ليسوا مسؤولين عن توفير كراس وأسرة كافية للمواطنين أو اختيار لون طلاء الغرف وباحات الاستقبال وغيرها، فهذه مسؤولية وزارة الصحة. لا أخفيك أننا نتجرع اليوم نتائج السياسات الفاشلة المعتمدة منذ سنوات، والتي تتمثل في رفع اليد عن القطاع العام لصالح القطاع الخاص، فحتى الصحة يريدون بيعها، ونحن نناضل من داخل القطاع العمومي لأنه هو الملجأ الوحيد لثلثي أو ثلاثة أرباع المواطنين غير المتوفرين على تغطية صحية، وذلك عكس ما قد يعتقده البعض من أننا نريد تحقيق مطالب شخصية. فالأطباء الذين يزاولون عملهم في القطاع العمومي هم أولاد الشعب ولا ينتمون للطبقة الغنية، فمن اختار طريق الغنى من الأطباء يهاجر للعمل في الخارج أو يلجأ للقطاع الخاص بفتح مصحة أو عيادة طبية، أما من اختار القطاع العام فإنه يصبح كغالبية المواطنين تثقل كاهله قروض السكن، وأنا واحد منهم ممن مازال يدفع أقساط قرض السكن رفقة زوجته وهو فوق الخمسين. إن مطالبتنا بتحسين ظروف العمل هي لمصلحة المواطن بالدرجة الأولى، ولأجل استعادة الثقة المفقودة بين الطبيب والمواطن، والتي ساهمت سياسات الوزارة الوصية في اتساع هوتها، خاصة في حقبة وزراء التقدم الاشتراكية، وتحديدا في ولاية الحسين الوردي، الذي كان ينهج سياسة تلميع القطاع على حساب الأطباء، من خلال تقديم طبيب أو أكثر بين الفينة والأخرى ككبش فداء عبر إلباس الضعف الذي يعتري المنظومة الصحية به. وما يتجرعه القطاع اليوم يعود إلى سنوات من غض الطرف عنه، والنظر إليه بسلبية كونه قطاعا غير منتج، كما تؤكد ذلك مهزلة التصويت في البرلمان ضد الرفع من ميزانية الصحة هذا العام، قبل أن يتأكد الجميع مع كوفيد-19 أن بعض القطاعات مثل الصحة والتعليم والبحث العلمي تنتج أشياء أخرى أهم من الثروة، فالصحة تنتج الأجساد السليمة التي تنتج العقول السليمة التي يمكنها أن تخترع وتنتج في كل المجالات. (مقاطعا) لكن هناك اطمئنان اليوم لدى شريحة واسعة من الأطباء لتحسن أوضاع العمل في زمن كورونا، خصوصا بعد توجيه ميزانيات في إطار صندوق محاربة الجائحة لاقتناء المستلزمات الطبية وغيرها، ألم تلمسوا ذلك؟ صحيح. التأم الجرح وعادت الثقة بين الطبيب والمواطن إلى حد ما، لكن مع ذلك لم تتحسن ظروف العمل مائة في المائة، لأن التحسينات طالت أساسا مسارات العمل في إطار كوفيد-19، خاصة في جانب المستلزمات البيوطبية التي لطالما نادينا بها، ولا أخفيك أن عددا من التحسينات ساهم فيها دخول الطب العسكري على الخط. ولعل من أهم التحسينات المرصودة ما يرتبط بالأمن داخل المستشفيات، خاصة في أقسام المستعجلات وخلال فترة الليل، حيث كنا دائما نشتكي من انفلاتات أمنية هناك. نحن نطالب باستمرار هذه الوضعية وأن تتم الاستجابة لحاجات كل المصالح والأقسام الطبية، وإيلاء العناية اللازمة للقطاع من خلال الرفع من ميزانيته بأن تشكل 10 إلى 12 في المائة من الناتج الداخلي الخام، كما تنص على ذلك منظمة الصحة العالمية، حتى يتم توفير الموارد البشرية اللازمة في ظل الخصاص المهول في هذا الجانب، وتوفير المستلزمات والتجهيزات الطبية الضرورية لتقليص مواعيد انتظار المرضى وتحسين ولوجهم للعلاجات الضرورية. واللذين يروا هذه المطالب ركوبا على الموجة، نقول لهم إننا نرفعها قبل وجود فيروس كورونا، فنضالنا يعود إلى سنوات خلت، ومنذ 2017 ونحن نخوض إضرابات عن العمل رغم الاقتطاع من أجورنا، وننظم الوقفات الاحتجاجية والمسيرات الوطنية والجهوية. وبالعكس، فخلال فترة كوفيد-19 أعلنا عبر بياناتنا تعليق جميع مظاهر الاحتجاج وأجلنا ملفنا المطلبي وجمدناه مرحليا، لأننا أمام نداء الوطن لا يمكن أن نتخلف عن المواطنين، كما جمدنا الاستقالات التي قدمها 1301 طبيب وصيدلي بمختلف التخصصات، من أجل خدمة المواطن الذي نناضل من أجله، لأننا نناضل من داخل القطاع العمومي وليس القطاع الخاص حتى نتهم بأننا نخدم مصالحنا. نحن نريد العمل في القطاع العمومي واخترنا ذلك طواعية منذ البداية، رغم أننا نعلم أن ذلك لن ينعكس على مستوانا المادي، فالجميع يعرف أن أجرة 10 أطباء في القطاع العام يكسبها طبيب واحد في القطاع الخاص. بعد هذه التوطئة الشاملة، هل تعتقد أن ظروف العمل وراء المعاناة النفسية للأطباء، وهي التي توصلهم إلى الانهيار التام؟ أنا قصدت تقديم هذه التوطئة للتذكير بالوضع العام الذي يعيشه الأطباء، ولكي نؤكد أننا إذا لم نمتلك الإرادة اليوم، خصوصا بعد أن أيقن الجميع أن القطاع العمومي هو صمام الأمن الصحي في بلادنا، فإننا سنعاني أكثر في المستقبل في ظل النقص الحاد في الأطقم الطبية وشبه الطبية، والتي ساهمت في تفاقمها مجموعة من التوقيفات التي طالت الأطباء في السنوات الأخيرة ومتابعة عدد منهم قضائيا، والتي كانت من تداعيات تطبيق مرسوم الإلزامية، الذي وقفنا ضده وسنستمر في معارضته لأنه أصلا جزء من المشاكل اليوم. فكما يعلم الجميع فإن عددا من الأقاليم بالمملكة تعاني من نقص حاد في الأطر الطبية، حيث بالكاد تجد طبيبا واحدا في كل تخصص، لكن الوزارة بتطبيقها لهذا المرسوم المشؤوم تطالب الطبيب بأن يعمل 24 /24 ساعة، إذ بعد اشتغاله ساعاته القانونية، يصبح في وضعية حراسة ويكون مطالبا بأن يحضر للمستشفى متى ما احتاجوا ذلك، وفي أي ساعة خارج وقت عمله، والواقع يؤكد أنهم سيحتاجونه يوميا، بل إن الطبيب إذا طلب اليوم عطلة فإنه لن يتحصل عليها لأنه لن يجد من يعوضه، ولدينا أطباء لم يخرجوا في عطلة منذ ثلاث سنوات، بل إن أطباء استفادوا من الحركة الانتقالية بعد سنوات من عملهم في المناطق النائية، لكنهم لم يستطيعوا مغادرة مكان عملهم إلى أن يتم تعيين طبيب بديل له، والذي يمكن أن يأتي أو لا يأتي، في ظل النفور العام للأطباء من الوظيفة العمومية. يزكي ذلك الإحجام عن المباريات التي تعلن عنها وزارة الصحة، حتى أصبح منذ سنوات عدد مناصب التوظيف التي يعلن عنها أكبر بكثير من عدد المرشحين لاجتياز المباراة، كما حصل في المباراة الأخيرة مطلع الشهر الماضي، إذ لم يتجاوز عدد المترشحين للمباراة الخاصة بالأطباء 158 مترشحا، بينما بلغ عدد المناصب المتبارى حولها 299 منصبا، وهذا العدد سينخفض بكل تأكيد عندما نأتي لمرحلة التوظيف. والمضحك المبكي في الآن ذاته، والشيء الكفيل بأن يدخل الأطباء في دوامة نفسية، أن التعويض الذي يتلقاه الطبيب نظير الحراسة الليلية لا يتجاوز 67 درهما، علما أنه يكون معرضا لارتكاب أخطاء بفعل حالة الإعياء الشديدة التي يعاني منها كونه يصل الليل بالنهار كأنه رجل حديدي أو آلي. رغم كل هذه الظروف، وأعيدها وأكررها، أوقفنا كل مسارات الاحتجاج والتحقنا بمواقعنا بكامل الجاهزية، وارتضينا أن تقوم الوزارة الوصية بالقيادة بطريقة موحدة، إيمانا منا أننا في حرب تبتغي توفير كل الشروط من أجل النجاح والانتصار. ماذا عن حالات الانتحار المزعومة في صفوف الأطباء، وهل للأمر علاقة بالحرب ضد فيروس كورونا؟ الذي يجب أن يعرفه الجميع، أن ظروف الاشتغال المزرية تجعل غالبية الأطباء يعيشون توترا نفسيا كبيرا، تظهر ملامحه في إدمان العديد منهم، علما أن الإدمان هو مظهر من مظاهر الاكتئاب، وقد يكون إدمانا على تناول بعض الأدوية المهدئة المضادة للاكتئاب كما هو حال كثيرين أو إدمانا على التدخين وغيره. وعلى ذكر التدخين فكثيرا ما نسمع البعض يستغرب من إدمان طبيب على التدخين وهو الأكثر وعيا بأضراره، لكن الحقيقة أن اليأس و»الفقايس» قد تسقط الطبيب في شراك التدخين وتجعله يرمي بنفسه إلى التهلكة. المشكل أننا لن نتمكن إطلاقا من إحصاء عدد حالات الإدمان على تناول الأدوية المضادة للاكتئاب والخاصة بأمراض نفسية في صفوف الأطباء، لأن غالبيتهم يلجؤون إلى تناولها دون وصفة طبية أو من خلال استشارة زملائهم، لذلك لا يتم تسجيلهم في قائمة الحالات التي تتابع بأمراض نفسية. وحتى الأطباء الذين يحتاجون إلى عيادة طبيب نفسي أو مستشفى للأمراض النفسية لا يتم تسجيل حالاتهم، حتى لا يتم اكتشافهم نظرا لتأثير ذلك على مسارهم المهني، وهؤلاء أتوقع أن يكون عددهم كثيرا جدا. وبالمقابل، هناك حالات أقل عددا قد تحتاج إلى البقاء في المستشفى أو الحصول على شهادة طبية تثبت عجزها عن الاستمرار في أداء مهامها لأيام أو أسابيع، وعندنا مثل هذه الحالات. ووسط كل هؤلاء، يصل المرض ببعض الحالات إلى درجة القيام بمحاولات انتحار، الوازع المشترك بينها أنها تنتشر في المناطق البعيدة عن المركز، حيث تتوفر فرص الإصابة بأمراض نفسية، ومؤخرا في رمضان سجلت حالة انتحار في أحد الأقاليم النائية لا أستطيع ذكر تفاصيلها احتراما لذكرى الطبيب الراحل رحمه الله ولمشاعر عائلته وزملائه. باختصار، إن غالبية الأطباء يعيشون وضعية نفسية مزرية لكنهم يعانون في صمت ولا يعلنون ذلك إلى أن يسقط أحدهم على الأرض. ولمعرفة هول ما أتحدث عنه، أعطيك مثالا واحدا بأحد أقاليم جهة فاسمكناس، حيث شهد لوحده خلال الشهرين الماضيين في ظل الحجر الصحي ثلاث محاولات انتحار لأطباء، اثنان منهم تم منحهما شهادة طبية مطولة تثبت عجزهما عن مزاولة العمل، وقد كان حتما لزاما استشفاؤهما على وجه الاستعجال، والحالة الثالثة تم تأكيد عدم قدرتها على مزاولة الحراسة الليلية لتناولها أدوية وعقاقير تسبب النوم والارتخاء. ومثل هذا العدد سجل في بحر سنة مضت بنفس الإقليم. ومما يزيد الطين بلة ويفاقم الوضعية النفسية للأطباء، أن عددا كبيرا يشتغلون تحت ضغط رهيب من بعض المسؤولين الإداريين المباشرين، الذين لا يجيدون التعامل بلباقة احترافية كما يجب، ويمارسون شتى الضغوط الإدارية، وربما «بسادية متسلطة» من مختلف الأنواع على هذه الفئة. ونحن نقول إن الزمن دوار، وإن «ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند»، في الوقت الذي لاقينا كثيرا من التفهم والعزاء والتضامن والإحساس الإيجابي من طرف مسؤولين كثر بإدارات سيادية أخرى. وفي الختام، إذا كان الناس يصفقون اليوم للأطباء ويعتقدون أنهم خارقون للعادة وذوو قدرات استثنائية، وصبر وتحمل أسطوريين، فيجب أن لا ينسوا أنهم هم أيضا بشر يمكن أن ينقضي صبرهم في أية لحظة، وأن يتعرضوا لأزمات وأمراض نفسية، لكن في ظل صعوبة الوصول إلى إحصائيات دقيقة عن عدد الأطباء الذين يتناولون مهدئات ومضادات الاكتئاب والأرق، ويعانون من أمراض نفسية، سيبقى الأطباء يعانون في صمت، في انتظار بوارق فرج رباني ينصفهم.