"إعلان البحرين" يُشيد بأدوار المغرب في لجنة القدس وأزمة ليبيا والتصدي للإرهاب    أسرة الأمن بالجديدة تخلد الذكرى 68 لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني    ميارة يشيد بالشراكة المغربية البرتغالية    الأمن الإقليمي بسلا يحتفي بالذكرى ال68 لتأسيس المديرية العامة للأمن الوطني    سعر الذهب يتراجع بعد مكاسب الدولار    الملك محمد السادس: الأعمال الانتقامية في غزة تتعارض مع القانون الدولي    القمة العربية تدعو إلى نشر قوات دولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لحين تنفيذ حل الدولتين    موظفو الجماعات الترابية ينسحبون من الحوار مع وزارة الداخلية    اختناقات في صفوف عشرات التلاميذ بالبيضاء .. والسلطات تشكل لجنة للتقصي    ميناء طنجة.. تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بنسبة 30% حتى متم أبريل    الملك: التهجير القسري للفلسطينيين أمر مرفوض وقطاع غزة جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية الموحدة    محمود عباس يتهم حماس ب"توفير ذرائع" لإسرائيل لتهاجم قطاع غزّة    مقترح "إلغاء الفار" ينتظر تصويت الأندية الانجليزية    تقرير: إحداث أزيد من 42 ألف مقاولة ذات شخصية معنوية نشطة بجهة الشمال    برئاسة المغرب .. مجلس حقوق الإنسان الأممي يرفض الإعادة القسرية للمهاجرين    بسبب عدم الامتثال.. شرطي مرور يشهر سلاحه والسلطات تحقق    حادثة غريبة.. استخراج جثة شابة بعد أكثر من سنة على وفاتها    المغاربة أكثر العمال الأجانب مساهمة في نظام الضمان الاجتماعي بإسبانيا    طقس الجمعة.. أمطار ضعيفة و متفرقة وتشكّل سحب بالشمال وحرارة بالجنوب    المغرب يثير من جديد موضوع استقلال الشعب القبايلي في الامم المتحدة    القمة العربية: الملك محمد السادس يعتبر محاولة إسرائيل فرض واقع جديد في غزة "أمرا مرفوضا"    على هامش تكريمه.. البكوري: مهرجان الريف يسعى لتقريب الإبداعات الناطقة بالأمازيغية إلى الجمهور التطواني    عائلات "مغاربة ميانمار" تحتج بالرباط .. وناجية تكشف تفاصيل "رحلة الجحيم"    هذه حجم الأموال التي يكتنزها المغاربة في الأبناك.. ارتفعت بنسبة 4.4%    وفاة الفنان أحمد بيرو أحد رواد الطرب الغرناطي    "حماة المال العام" يستنكرون التضييق على نشاطهم الفاضح للفساد ويطالبون بمحاسبة المفسدين    أخنوش يتباحث مع رئيس الحكومة اللبنانية    هذه العوامل ترفع خطر الإصابة بهشاشة العظام    إطلاق مجموعة قمصان جديدة لشركة "أديداس" العالمية تحمل اللمسة المغربية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    تصفيات مونديال 2026: الحكم المغربي سمير الكزاز يقود مباراة السنغال وموريتانيا    بعثة نهضة بركان تطير إلى مصر لمواجهة الزمالك    كأس العرش.. مولودية وجدة يضرب موعدًا لمواجهة الرجاء في النصف النهائي    السعودية تطلق هوية رقمية للقادمين بتأشيرة الحج    إيقاف مسؤول بفريق نسوي لكرة القدم ثلاث سنوات بسبب ابتزازه لاعباته    يوفنتوس يتوّج بلقب كأس إيطاليا للمرّة 15 في تاريخه    مانشستر سيتي يهدد مشاركة جيرونا التاريخية في دوري الأبطال    ظاهرة "أسامة المسلم": الجذور والخلفيات...    الاستعادة الخلدونية    المغربي محمد وسيل ينجح في تسلق أصعب جبل تقنيا في سلوفينيا    العسري يدخل على خط حملة "تزوجني بدون صداق"    وزارة "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    "أديداس" تطلق قمصانا جديدة بلمسة مغربية    كلاب ضالة تفترس حيوانات وتهدد سلامة السكان بتطوان    من أجل خارطة طريق لهندسة الثقافة بالمغرب    أشجار عتيقة تكشف السر الذي جعل العام الماضي هو الأشد حرارة منذ 2000 عام    مدريد في ورطة بسبب الإمارات والجزائر    أكاديمية المملكة تُسائل معايير تصنيف الأدباء الأفارقة وتُكرم المؤرخ "هامباتي با"    محكي الطفولة يغري روائيين مغاربة    زيلنسكي يلغي زياراته الخارجية وبوتين يؤكد أن التقدم الروسي يسير كما هو مخطط له    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخطر التحولات في المجتمع المغربي.. ترصدها «الأيام» و يتحدث عنها حسن أوريد وعبد الوهاب رفيقي وخالد مونة
نشر في الأيام 24 يوم 27 - 03 - 2022


* إعداد : زينب مركز
اخترنا الحديث في هذا العدد عن التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، لأنها قضية تمسنا جميعا كمغاربة على اختلاف نوعنا أو عمرنا أو حيزنا الجغرافي، باعتبارنا شهودا على مرحلة صعبة، تجري فيها تحولات عميقة وسط المجتمع. فبسبب المتغيرات الكونية التي أصبحنا محشورين فيها بشكل لا فكاك لنا منه، ولا خيار لنا فيه في سياق كوني دائم التحول، طرحت علينا أسئلة غير مسبوقة، في علاقتنا بمحيطنا، بعائلتنا الكبرى، وبأطفالنا وبعلاقاتنا المهنية والحميمية، وبعلاقة الحاكمين بالمحكومين، وبنوعية القيم المشتركة التي تجمعنا.
إن التحول هو سمة كل مجتمع حي، لكن كيف وجدنا أنفسنا غير مسلحين ولا مهيئين لمواجهة أسئلة وجود معقد من مثل ما نعيشه، وكل المغاربة على اختلاف البنيات والانتماءات والتشكيلات الاجتماعية يعيشون تحولا مشتركا، مع تنوع أو تمايز في طبيعة المشاكل التي صاحبت هذا التحول العميق في المغرب.
أغلب عناصر الجيل الماضي اليوم هي من مواليد بداية عقد الستينيات والسبعينيات وما بعدها بقليل، لم يكونوا في الأغلب منحدرين إلا فيما ندر من عائلات على حظ من التعليم أو الجاه والمال، عاشوا على الكفاف، ورسموا مساراتهم بمجهود شخصي في الغالب الأعم، درسوا في الكتاب ثم المدرسة وتعلموا في الكتب نفسها التي ورثوها عن إخوتهم الكبار قبل أن يتركوها للأصغر منهم. كان التعليم هو مدخل التغير الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة، وكانت العصا جزءا من ثقافة التربية، فوشمَهم العديد من المعلمين والأساتذة، حين كانت الروح الوطنية والمهنية سائدة في المغرب.
عمل الذكور في مهن متعددة لتوفير مال دراستهم أو حتى مساعدة أسرهم وتخفيف العبء عنها. وكانت حياتهم في الأعم بسيطة، وكذبهم صغيرا وسذاجتهم وثقتهم بالوجود لا حدود لها. وأكلهم كما نومهم جماعي، فلا عزلة ولا خصوصية لهم في فضاء ضيق مشترك يعج بأفراد الأسرة الذين كانوا في العادة بين 6 و9 أفراد.
عشقوا على إيقاع الرومانسيين الكبار فكان الحب وهما وتخيلا وحقيقة. ثم فجأة تحول كل شيء، حين كبروا وبدأوا يكونون أسرهم الصغيرة. لم يرغبوا أن يكبر أبناؤهم في نفس معاناتهم، فسعوا إلى حمايتهم من شر العالم مضحين بكل شيء حتى بمتعهم الصغيرة، ثم ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم غرباء عن أبنائهم الذين يعيشون وسط هواتفهم وعوالمه الافتراضية أكثر مما يعيشون مع أسرهم.
تغير كل شيء. هل إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟ لنترك الوقائع تتكلم، فلكل جيل أحلامه وقيمه وآلامه وآماله. جرف التحول السياسة أيضا، من زمن الأساطير الدافئة والزعماء الكبار، جيل عاش بين الخوف والمغامرة، بين الصمت والاستكانة أو الانتحار والمقاومة، جيل آمن برموز خلقت أفراح بعضه أو مآسي آخرين على اختلاف مواقعهم. وفجأة انهار كل شيء، وفي اللحظة التي فرح المغاربة بانبثاق فجر أمة وانبعاث وطن، بدأت الانتكاسات والخيبات.
جيل يعتبر أن أذواقنا كانت مرهفة، عشق الأغنية العصرية من الشرق والشام، كما الأغنية الملتزمة من داخل الوطن، دون نسيان المجموعات والشيخات والنمط الشعبي عامة. طالعوا بنهم كتابات درويش ومظفر النواب وأحمد مطر وتوفيق الحكيم وطه حسين، ثم اختلفت الأذواق مع الجيل الذي يعتبر أبناؤنا وطلبتنا اليوم جزءا منه.
وفي الاقتصاد، كان المغاربة كلهم بسطاء، لا فرق بين أغنيائهم وفقرائهم، عشنا اقتصاد الندرة، فلا مولات ولا محلات تجارية كبرى ولا ثلاجة ولا أي شيء. كبروا على اقتصاد العفاف والكفاف، وحتى حاجياتهم الغذائية كان آباؤهم يشترونها بالتقسيط.
ثم بدأت التسعينيات، وأغلب أطفالنا ولدوا وسط هذا العقد، فتغير كل شيء، ليظهر شره الاستهلاك، وغلاء الأسعار والفوارق الطبقية الصارخة، واتساع حجم الحاجيات الأساسية على حساب الكماليات.
في كل مناحي الحياة، وعلى رأسها القيم والاعتقاد الديني، كان التحول سمة مشتركة أيضا. يقوم مفكرون ومحللون في هذا الملف بتحليلها وتقديم رؤية من كل الزوايا للإجابة عن إشكاليات التحول في المغرب بين جيلين.
الأستاذ محمد عبد الوهاب رفيقي الباحث في الفكر الإسلامي: تغيرت علاقة المغاربة بالدين وهناك جرأة اليوم على نقد المقدسات السابقة
هناك العديد من التحولات في علاقة المغاربة بالدين من عدة نواح، تبين الفرق الحاصل بين الأجيال السابقة والأجيال الحالية. أبرز هذه التحولات هي النزعة الفردانية التي أصبحت تطغى حتى على مجال التعبّد وعلاقة المغربي بالدين. وتغير قيم الجماعة نحو قيم الفرد بشكل عام، انعكس أيضا على علاقة المغربي بدينه حيث لم يعد يعظم الشعائر الجماعية بالشكل الذي كان عليه من قبل، والميل إلى عدم اهتمام المتدين المغربي اليوم بتدين غيره مقابل تركيزه على نفسه، ما أدى إلى بروز هذا التحول وظهوره بشكل كبير.
تغيرت علاقة المغاربة بالدين بفعل الأثر الكبير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في خلخلة كثير من التصورات، والمساعدة على نقض كثير من المسلّمات. فكثير من المواضيع لم تكن تطرح سابقا لأنها من الطابوهات أصبحت اليوم تثار بشكل طبيعي جدا، كتصريح الكثير من الشباب اليوم بالتخلي عن الدين أو بالالتحاق بديانات أخرى أو ترك الأديان جميعا وانتحال المذاهب اللادينية والإلحاد، والتعبير عن أنفسهم داخل وسائل التواصل الاجتماعي وأحيانا حتى داخل تجمعات وهيئات. كل هذه التحولات تطبع المشهد المغربي اليوم، خصوصا عند الشباب، ومنها الجرأة على نقد الكثير من المقدسات السابقة، كالحديث عن صحيح البخاري مثلا، أو مناقشة مواضيع كانت محظورة كالإرث وعلاقته بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو انتقاد بعض روايات السنة النبوية وعدم تصديقها. ومنها الجرأة على انتقاد الوعاظ والشيوخ المتكلمين باسم الدين وضعف تأثيرهم الذي يظهر يوما بعد يوم.
ومن التحولات القائمة التي يمكن أيضا ملاحظتها في علاقة المغاربة بالتدين، هي نظرة الشباب اليوم إلى بعض الإشكاليات والنقاشات التي يخوضها الرأي العام حول الحريات الفردية والقضايا المتعلقة بالمرأة حول الموقف من بعض القيم الكونية كالتعددية والتنوع.. كل هذا كان من المحرمات في وقت سابق، والأحداث المتوالية التي عرفها المغرب انطلاقا من تفجيرات 16 ماي إلى ثورة التكنولوجيا والانفجار المعلوماتي إلى ما وقع في 2011 بسبب الربيع العربي واتساع هوامش الحرية، كل هذا أحدث خللا في تصور المجتمع للدين وفي علاقة المتدين المغربي بدينه وفي زعزعة التصورات الدينية التقليدية، ولذلك أعتقد فعلا أننا اليوم نعيش عهدا من التحول والفترة الانتقالية التي قد تصنع نموذجا جديدا وجيلا جديدا في علاقته بالدين.
لا ننسى أيضا أن الكثير من الشباب اليوم يصرحون بأن النموذج الذي يريدون تبنيه وينتصرون له هو النموذج العلماني وفصل الدين عن الدولة، خصوصا بعد فشل حركات الإسلام السياسي بمختلف الدول الإسلامية في تسيير الحكم وفي تدبير الفترة التي قضوها على رأس الحكم بشكل جيد، مما ولد ردود فعل سيئة ضد الإسلام السياسي وضد نظرياتهم مثل ظهور داعش والنموذج السيئ الذي ساهم في هذه النظرة وفي تبني الكثير من هؤلاء الشباب للنموذج العلماني.
لا يمكن أن ننسى هنا أيضا الموجة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية المتعلقة بنزع الحجاب، بعد أن كان الحجاب موضة سائدة خلال الثمانينيات والتسعينيات، وكان الإقبال عليه بشكل كبير والالتزام به يتم بشكل جماعي. اليوم نعيش موجة التخلي عن الحجاب وظهور مقولات أن الحجاب ليس بفرض ديني وانحسار حركات المد الإسلاموي وضعف تأثيرها وغيابها عن كثير من الفضاءات التي كانت تعتبر محاضن لها ومصدر قوة كالجامعات مثلا…
كل هذا يعني أننا نعيش عددا من التحولات المرتبطة بعلاقة المغربي بدينه. وأخيرا لا بد أن نرصد هنا عودة كثير من المغاربة في علاقتهم بالدين للحث على النموذج المغربي والتدين المغربي والخصوصية المغربية في الدين، واستحضار نموذج التدين المغربي قبل ما تعرض له المغرب من غزو سلفي وهابي، سيطر خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات، والذي يعيش اليوم مرحلة من الضعف والانحسار وهذا ينعكس بشكل أوتوماتيكي على تصورات المجتمع عموما للدين وعلاقته به.
الكاتب والمفكر حسن أوريد ل"الأيام": الثورة الرقمية غيرت طبيعة المجتمع المغربي والسياسة أصبحت تدبيرا والثقافة تسلية
يربط المفكر والكاتب حسن أوريد التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي ببعد العولمة والثورة الرقمية، ثم بالتحولات البنيوية التي عرفها المغرب بين جيلين في تفاعله مع التطور الذاتي للمجتمع وردود فعله حول التحولات الكونية المتسارعة والضاغطة.
يعتبر تطور المجتمعات سنة طبيعية، غير أن مخاض ومسار التحول وتوجهه يكون دوما محط نقاش، لنبدأ بالتحول السياسي الذي عرفه المغرب على مستوى الفاعلين وعلى مستوى القيم المحددة كأولويات في سلم الفاعلين السياسيين وانتظارات المجتمع، بين جيلين في المغرب؟ كيف تحولت؟ وفي أي اتجاه؟
مثلما تفضلت، التحول شيء أساسي، أولا هناك تحولات عميقة في المجتمع، حيث انتقلنا من مجتمع قروي بالأساس في غضون 20 سنة المنصرمة إلى مجتمع حضري. فاليوم أكثر من 50 بالمائة يعيشون في المدن، مع ما يطبع الحياة الحضرية من علاقات متحولة وضاغطة.
كما أن بنية المجتمع تغيرت، فقد كان المغرب مجتمعا شابا وها نحن نعيش مجتمعا يتجه بشكل متسارع إلى اتساع قاعدة الشيخوخة بسبب تحول نسبة الإنجاب بين الأمس واليوم، وهذا طبعا يغير من طبيعة العلاقات الاجتماعية.
ثانيا، المرجعيات تغيرت، حيث كانت القومية العربية هي السائدة، وبعد سقوط حائط برلين انهارت الإيديولوجيات، ومن الأمور الكبرى التي طبعت المغرب والمنطقة التي ينتمي إليها جغرافيا وثقافيا عموما هو ظهور الإسلاميين، فشهدنا المد الثاني للإسلام السياسي منذ حرب الخليج في 1991 وهاته العوامل كلها طبعا أثرت على المشهد السياسي. نحن نتحدث عما اعتمل قبل 20 سنة أو 25 سنة، الآن هناك تحول آخر، ولعل أهم الأدوات الفاعلة في زمننا أضحت هي الثورة الرقمية، التي غيرت من طبيعة المجتمع والعلاقات المجتمعية وانعكس ذلك طبعا على المشهد السياسي وعلى العلاقات الاجتماعية وعلى القيم الإنسانية.
بإيجاز شديد، يمكن أن نقول أننا انتقلنا في غضون جيلين تقريبا، من جيل الراديو إلى جيل التلفيزيون والآن نعيش ما يمكن أن نسميه جيل الثورة الرقمية.
كيف انتقلت السياسة من بُعد الصراع إلى بعد المساهمة في استراتيجية الانتقال الديمقراطي إلى التكيف وبعدها محاولة حفظ البقاء فقط في إطار عملية توزيع المنافع؟
أظن بأن التغيير الذي حدث في المغرب يرتبط بالتغيير الذي حدث في العالم، ولسنا في جزيرة معزولة. فبعد ما يسمى بالثورة أو الإيديولوجية الليبرالية اعتبرت السياسة نوعا من التدبير، لأنه في نهاية المطاف لم يعد هناك يمين ولا يسار، وإنما هناك حكامة جيدة وحكامة سيئة، وتم القضاء على دور السياسي عموما في العالم. وهذا انعكس على المغرب حيث سادت المقاربة التقنوقراطية على الفعل السياسي، ولذلك هناك من يتحدث عن موت السياسة أو ما بعد السياسة، منذ السنوات التي أعقبت سقوط حائط برلين. الآن قد نعيش عودة السياسة بوجه جديد، ففي نهاية المطاف السياسة لا يمكن أن تُختزل فقط في عملية تدبيرية ولكن تُرتبط بما يُسمى بالأحاسيس العامة، Emotions collectives، لأنه لا يمكن أن تكون السياسة مجرد تدبير تقني بل هي ترتبط بذاكرة وبتطور المجال، ترتبط بثقافة وفكر وتاريخ أمة، ترتبط بحضارة وبأحاسيس عامة. وأظن بأن المغرب بل العالم كله يعيش الحاجة إلى ما يمكن أن نسميه بالأحاسيس العامة وعودة السياسة.
اهتزت قيم كثيرة وحدثت منعطفات ملفتة للانتباه للقيم في المجتمع المغربي، كيف تقيمون هذا التحول القيمي وما هي آفاقه اليوم وغدا؟
من المؤكد بأن الإيديولوجية الليبرالية صاغت مجموعة من القيم، وهذا ما أشرت إليه بتفصيل في كتابي «مرآة الغرب المنكسرة»، لقد أصبح المال قيمة، عوض أن يبقى وحدة قياس تحول إلى قيمة، وانعكس ذلك على أشياء كان ينبغي أن تكون خارج التقييم، منها الصحة والتعليم أساسا. تأثر المغرب بالموجة العالمية في ما يخص القيم، حتى تبينت بعد جائحة كورونا الحاجة الضرورية والمُلحة إلى قيم التضامن. أظن بأن هناك خصاصا فيما يخص منسوب التضامن وهو ما ظهر بشكل جلي وبالحاجة إلى الدولة الراعية، من خلال دورها الفاعل في حماية التوازن الاجتماعي وكينونة وأخلاق وقيم والمجتمع المغربي، بدل ما أدت إليه الليبرالية المتوحشة من سطوة المال في كل شيء.
على المستوى الثقافي والفني، هل حُكم الجيل السابق على أذواق الجيل الحالي، مقابل الحنين إلى ما يسمى بالزمن الجميل، محض صراع بين الأجيال أم هو تعبير عن انحطاط في المنتوجات الرمزية والقيم التي تحملها؟
حينما نتحدث عن عولمة الاقتصاد، ينبغي كذلك أن نتحدث عن عولمة الظواهر الاجتماعية. كثير من المشاكل التي نعيشها ليست حكرا على المغرب، فقد نجد أصولها وجذورها تعود إلى ما يعتمل في الغرب. مفهوم الثقافة تغير في الغرب، انتقل من فعل تغيير إلى عملية تسلية، المثقف تغير من شخص يطرح الأسئلة إلى خبير، وطبعا انعكس ذلك على مجتمعنا. ربما قد يُضاف إلى ذلك، وهذا يؤلمنا في ما ينبغي أن نشعر به، هو انحدار وتدني الجامعة، لأنه في نهاية المطاف لا يمكن أن نتحدث عن ثقافة بمعزل عن المؤسسة الأساسية التي تسوق ثقافة عالمة وهي المدرسة والجامعة. وهناك تقارير تبين للأسف الشديد الانحدار في نوعية التعليم، من حيث الإدراك ومن حيث الثقافة ومن حيث امتلاك اللغات الأجنبية، وبالأخص الانحدار الذي عرفته العلوم الإنسانية والفلسفة.
هل هناك تحولات في علاقة المغاربة بالدين سواء على مستوى السياسة أو على مستوى القيم أو على مستوى الممارسة أيضا.. بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة؟
لا أستطيع أن أتحدث عن الموضوع انطلاقا من انطباع. هذه أمور تُدرس علميا في الإطار السوسيولوجي، وأعتقد بأن هناك دراسات في فترة معينة حول مدى تدين المجتمع. لكن الذي يهمني بالنسبة لما أشتغل عليه هو علاقة المغاربة مع الإسلام السياسي، هذا هو الذي يمكن أن أتحدث عنه، حيث أعتقد أن المغاربة تغيروا وعلاقتهم بالإسلام السياسي انتقلت من الحكم بناء على الخطاب إلى الحكم بناء على الإنجاز أو الأداء. أما قضية التدين La religiosité، فلا يمكن الحديث عنها بكفاية علمية في غياب دراسات علمية في الموضوع ومقاربات سوسيولوجية عميقة.
الباحث الأنثربولوجي خالد مونة ل"الأيام": تحولنا إلى الخمول السياسي والركود الديمقراطي والانتهازية النخبوية
يرى الأستاذ خالد مونة أن المغرب عرف تحولات كبرى، على كل المستويات. ومن خلال تحليل عميق لهذه التحولات، وأسبابها ونتائجها على الفرد والمجتمع المغربي، يخلص الباحث الأنثروبولوجي إلى خلاصة صادمة: لدينا نخبة سياسية انتهازية تبحث فقط عن مصالحها الخاصة داخل منظومة اقتصادية ريعية لايمكنها أن تقوم بعملية الانتقال الاقتصادي والديمقراطي في المغرب، ولدينا شعب يبحث عن موطئ قدم داخل اقتصاد الريع.
يعتبر التحول السياسي الذي عرفه المغرب على مستوى الفاعلين وعلى مستوى القيم المحددة كأولويات في سلم الفاعلين السياسيين وانتظارات المجتمع، بين جيلين في المغرب، مما يثير الجدل في المغرب اليوم، كيف حدث هذا التحول؟
في ما يخص التحول السياسي، فالأمر غير مقتصر على المغرب، وإنما هو تحول سياسي عرفه العالم مع نهاية الحرب الباردة وصراع القُطبين، وسيطرة قيم ونظام اقتصادي واحد هو النظام الليبرالي الرأسمالي خصوصا في 1994 مع الاتفاقية التجارية الدولية «الغات» بمراكش، التي نصت على إلغاء الحدود التجارية وظهور ما يُسمى بالعولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة. وما يميز النظام المغربي مقارنة مع مجموعة من أنظمة المنطقة في خضم هذه التحولات هو قدرته دائما على خلق نوع من الاستباقية في الدخول لدوامة التحولات. فحكومة التناوب في عهد الحسن الثاني كانت توطئة وأرضية للانتقال السياسي في المغرب من أجل تحويل الحكم بشكل سلس إلى العاهل الجديد محمد السادس. هذه التحولات السياسية ستعرف تحولات موازية على مستوى النُخب، على خلاف نُخب ما بعد الاستقلال التي ترعرعت داخل الصراع والتي تميزت بمرجعيات وبقوة كبيرة في تحريك الشارع وفي الاحتجاجات إلى غير ذلك. حتى دار الحكم كانت متماهية مع هذا الصراع، فعهد الحسن الثاني كان فترة صراعات داخلية مع نُخب سياسية تُحاول أن تبحث عن موطئ قدم داخل السلطة وعن بناء مجتمع ديمقراطي، أما النخبة الحالية فنشأت داخل خطاب شعبوي، لأن آليات الصراع على السّلطة تغيرت، لم تعد تطالب بأي تحول ديمقراطي هي تابعة وتنتظر في طابور اقتصاد الريع. هذه النُخبة الجديدة لم تولد من فراغ، بل هي نتاج تحولات حصلت على مستوى البنيات المؤهلة والمكونة لهذه النّخب.
ما طبيعة هذه التحولات وفي أي اتجاه تسير؟
لا تسير نحو الأحسن بطبيعة الحال، ومن بين المؤسسات الأولى التي ستعرف رّدة كبيرة على المستوى الثقافي والاجتماعي هو التعليم بشكل عام، فالجامعة المغربية كانت هي المورد الأساسي للنخبة السياسية. هذه النخب تكونت وترعرعت داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وحتى أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، كانت الجامعة موردا لهذه النخبة السياسية، فرغم كون الاتحاد الوطني لطلبة المغرب عاش أزمات هيكلية وكان له غياب عن مستوى الحضور ووصول الإسلاميين إلى الجامعة إلخ. ضلت الجامعة المغربية تعيش زخما للفاعل السياسي الذي يتكون داخلها، والذي كان في نهاية المطاف يلتحق بالديناميات السياسية الموجودة خارج أسوار الجامعة من حركات اجتماعية وبمؤسسات الأحزاب السياسية، وكانت الدولة أيضا تستقطب هذه النخب من داخل الجامعة.
انطلاقا من أواسط التسعينيات سيعرف التعليم أزمة كبيرة على كل المستويات. السؤال الذي سيُطرح هو: ما هو دور المدرسة داخل المجتمع المغربي، ستُطرح أيضا إشكالية الجامعة المغربية، مع إدخال الإصلاح الجديد «لي إم دي» Licence master doctorat، حيث لم تعد الجامعة تؤدي الدور المنوط بها في بناء نُخب جديدة. إذن ما نعيشه اليوم على مستوى الشارع السياسي من تحول من جيل له هوية وطنية إلى جيل آخر له هوية انتهازية، همه الوحيد هو الوصول إلى السلطة هو تحصيل حاصل، هذا التحول هو مرآة تعكس البؤس الذي تعيشه مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية من أسرة ومدرسة.
كيف انتقلت السياسة من بعد الصراع إلى بعد المساهمة في استراتيجية الانتقال الديمقراطي إلى التكيف وبعدها محاولة حفظ البقاء فقط في إطار عملية توزيع المنافع؟
السبب في انتقال الفاعل السياسي الحزبي خاصة من الصراع إلى الخمول وهو التوصيف الأقرب إلى الحقيقة، هو تحول في منطق اللعبة السياسية في المغرب، حيث لم تعد الملكية في صراع مع أحد اليوم، فبعد أن عاشت ثلاثة أو أربعة عقود من الصراع، الذي اتجه أحيانا إلى محاولة قلب النظام السياسي في المغرب مع بداية 1971 وأيضا كل أشكال الاحتجاج الشعبي مثل 1965 / 1981 / 1984 / 1989. فمرحلة حكم الحسن الثاني تميزت بالصراع ليس فقط على السلطة، ولكن على الشرعية ما بين الأحزاب السياسية وبعض النخب التي شاركت في الاستقلال مع السلطة المركزية (الملكية)، هذا الصراع كان مبنيا بالأساس على ملكية تريد من جهة التحكم في مسار القرار، وأحزاب سياسية أو نخب سياسية كانت تحاول فرض ذاتها كشريك في اتخاذ القرار.. هذه النخب أنتجت أو وُلدت في مخاض صراع سياسي مع المستعمر وفي مخاض صراع سياسي داخلي، عرف المغرب خلالها في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ما سُميّ بسنوات الرصاص، حيث السجن والقمع.. إلخ هي اللغة المتداولة. هذه المرحلة انتهت بالمرور إلى ما سمي بمرحلة الانتقال الديمقراطي، وهي كلمة في الواقع لا تحيل على تحول ديمقراطي بقدر ما تحيل على مرحلة انتقالية. واليوم نحن نعيش مرحلة جديدة، هي مرحلة الانتقال السياسي، وهي مرحلة تكون نخب جديدة تعيش قطيعة إبستيمولوجية مع الماضي، مع التاريخ السياسي للمغرب، في نفس الوقت هذه النخبة تعيش نوعا من التماهي مع المجتمع الجديد، لأنها مرآة لما نحن عليه. هم منا، هم أولادنا، وأخواتنا، وأصدقاؤنا.. لذلك يجب أن لا نزايد على بعضنا البعض C'est notre image، فالمجتمع المغربي اليوم هو مجتمع يعيش نوعا من الفردانية التي فيها تحقيق مصالح ذاتية.
بغض النظر عن المشترك الذي نعيشه، فالقطيعة التي نعيشها اليوم كمغاربة تعاش أيضا على المستوى السياسي، هذه القطيعة لم تأت من فراغ، بل هي نتاج البنيات التعليمية. لدينا تعليم خاص مغربي، تابع لدول أجنبية، وتعليم خاص مغربي ولدينا تعليم عمومي، وكل شكل من أشكال هذا التعليم له مرجعياته الخاصة. إذن إذا أخذنا هذا الجيل اليوم الموجود يمكننا أن نتساءل عن المشترك بين هذا الجيل. أتساءل في بعض الأحيان ماذا يقتسم؟ فهم لا يدرسون في نفس المدرسة، ليست لديهم نفس القيم ولا نفس الأهداف، لا ينظرون إلى المستقبل بنفس الطريقة.. هذا الجيل الذي نربيه في المدارس وداخل قيم تعليمية مختلفة وفي غياب تام للرقابة المفروض أن تمارسها الوزارة، لا يمكن إلا أن ينتج لك نخبة فردية تبحث عن تحقيق أهداف شخصية بعيدا عن أي انتقال نوعي أو كيفي للمجتمع المغربي بشكل عام.
هل أنتج التعليم قطائع في المجتمع ضمنها النخب السياسية بين الماضي والحاضر؟
الفكرة الأساسية التي أريد أن أوصلها هي علاقة الاستمرارية الموجودة بين النخبة الحالية والتحولات الحاصلة داخل المجتمع، نخبة تتميز بنوع من الانتهازية والوصولية لتحقيق أهداف شخصية. لا تعيش قطيعة مع المجتمع المغربي وإنما هي مرآة واستمرار للتحولات التي يعيشها هذا المجتمع. لدينا مجتمع يعيش الكثير من التناقضات داخله أفرزت نخبا سياسية تعكس هذه التناقضات على مستوى طموحاتها الشخصية، والذي ليس له الإمكانيات لتحقيق طموحه ينتظر الفرصة كي يهاجر إلى الضفة الأخرى، فبالنسبة له أن يقع تحول ديمقراطي في المغرب أو لا، لا يهمه ذلك.
اهتزت قيم كثيرة وحدثت منعطفات ملفتة للانتباه للقيم في المجتمع المغربي، كيف تقيمون هذا التحول القيمي وما هي آفاقه اليوم وغدا؟
هذا التحول مرتبط بما تحدثنا عنه حول تحول المدرسة، أنا لا أبجل تاريخ المدرسة القديمة كما يراها البعض ولا أعتبرها نموذجا للنجاح المدرسي، لأن حتى مستوى التمدرس إلى حدود الثمانينيات كان بنسب ضعيفة، بمعنى آخر أن ما يسمى بالمصعد الاجتماعي لم يكن موجودا. جيلي أنا الذي ينحدر من طبقات فقيرة وأقل من متوسطة هو فلتات فقط، بمعنى آخر أن المدرسة سابقا لم تكن مدرسة نموذجية كما نريد رؤيتها، الشيء الذي يحسب لهذه المدرسة هو تحقيقها للعدالة المجالية والطبقية لأن أبناء الفقراء كانوا يقتسمون مع أبناء الأغنياء نفس الفضاء، وكانت في بعض الأحيان تحقق فلتات ونجاحات اجتماعية مهمة كما هو الحال الآن، وهذه النجاحات كانت تنعكس أيضا على القيم الموجودة داخل المجتمع.
الأسرة تغيرت، العلاقات الاجتماعية تغيرت، يعني أننا انتقلنا من فرد مراقب من طرف الجماعة تمارس عليه مجموعة من الضغوطات، حتى في حالة اختراق القواعد الاجتماعية مثلا من قبيل تدخين السجائر، حيث كانت تتم داخل نسق ثقافي واجتماعي معين. كنا نعيش الرقابة الاجتماعية التي كانت تمارس علينا والتي كان يمارسها الأكبر سنا، التحول الحاصل على مستوى القيم، نتج أيضا عن تحول المجتمع، لأن هذه الأسرة أصبحت ضحية للتحولات الحاصلة اليوم على المستوى الرقمي والتحولات التكنولوجية مع وصول الأنترنت للبيت، للهاتف وللحاسوب. كل هذه الآليات غيرت من القيم الموجودة داخل المجتمع وأخرجت الفرد من هذه الرقابة الاجتماعية التي كانت تمارس عليه وأصبحت له حريات متعددة اليوم. الحرية ليس أن تخرج إلى الشارع إذ يمكنك البقاء في البيت وتمارس مجموعة من الأمور. بمعنى أنك حاضر جسديا داخل الأسرة لكنك غائب، فأنت تتنقل بين التيك توك والتويتر والأنستغرام والفيسبوك إلى غير ذلك.. العالم الافتراضي أخرج الجميع من هذه الرقابة الاجتماعية وأصبح هو العالم الذي يعيش فيه الأفراد بمعزل عمّا هو محلي.
هل مس التحول الذي عرفه المغرب بين جيلين، المرجعيات التي كانت لجيل الماضي وجيل اليوم؟
بالطبع، فالمرجعيات اليوم لم تعد محلية، إنها مرجعيات كونية، هذا أولا، كل فرد يجد مرجعيته الخاصة داخل هذه المرجعيات. وهذا لا ينفي بأن هناك صراعا مع بعض الأشخاص الذين يتبنون قيم الماضي ويتشبثون بمجتمع نموذجي بالنسبة لهم، ويجب العودة إليه. إذن هناك صراع بين الماضي والحاضر خصوصا في المجتمعات التي تعيش أزمة هوية كمجتمعنا المغربي، والتي في الواقع ليس سببها الأسرة، ولكن عدم وجود مؤسسات تعليمية يمكنها أن تقوم بدور الحاضن تنقل لنا مرجعيات موحدة نشترك فيها تصون وتحفظ حقوق وكرامة الجماعة والأفراد.
السؤال المطروح اليوم، إذا ذهبت إلى المدرسة المغربية، وطرحت على تلامذة الابتدائي سؤال: ما معنى أن تكون مغربيا؟ فسترى نوعية مختلفة من الأجوبة، لا أحد لديه تعريف لما معنى أن تكون مغربيا، لأن ليس لدينا مشترك نشتغل عليه. لم تعد المدرسة والأسرة تقومان بدورهما لأنها متجاوزتان من حيث التحولات الحاصلة اليوم على المستوى التكنولوجي. نحن أمام جيل جديد يطالب بالحريات الثقافية الجنسية، وجيل يحارب كل أشكال التحول القيمي داخل المجتمع، لأن الرقابة بالنسبة لهم على الحريات الجنسية هي جزء من القناعات والمبادئ الدينية، إذن أين هو المشترك؟ هناك من يطالب بإلغاء الفصل 498 وهناك من يمارس علاقات جنسية خارج إطار الزواج ويطالب بتطبيق هذا الفصل. لذلك فالمجتمع المغربي يعيش داخل تناقضات قيمية متعددة، بين الحريات الفردية وبين دفاعه عن قيم هو في الواقع لا يمارسها، نحن مجتمع لا يناقش القيم التي يعيش داخلها من أجل وضع ضوابط لها بل نناقش ما يجب أن نكون عليه.
هل هناك تحولات في علاقة المغاربة بالدين على مستوى السياسة وعلى مستوى القيم وعلى مستوى الممارسة أيضا.. بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة؟
الممارسات الدينية دائما تتغير، هناك فقط نوع من النوستالجيا التي نقوم بها في علاقتنا بالدين، لكن ممارسة الدين دائما تتغير. تديّن أجدادنا ليس هو تديّننا اليوم نحن كمغاربة، ربما الأجيال السابقة كانت أكثر تسامحا على المستوى الديني من جيل اليوم. عدد كبير من أبناء حيي لم يكونوا يصومون رمضان، وكان هذا أمرا «عاديا»، بينما اليوم رغم أنك مريض ومطالب بتناول الدواء أو الأكل فيجب أن تختبئ.
المجتمع اليوم لديه هاجس المظهر، فكيف ينظر لنا الآخر هو المهم وليس كما نرى نحن أنفسنا، إذن، نظرة الآخر جد مهمة بالنسبة لعلاقتنا بالدين. في ممارساتنا الدينية، كما في رمضان، التي هي في الواقع غير مرتبطة بالدين أكثر ما هي مرتبطة بهوية الجماعة، فالشخص الذي لا يصوم يرفضه المجتمع، ليس لأنه لا يصوم ولكن لأنه يهدد بالنسبة للبعض القيم الجماعية، ربما اللحظة الوحيدة التي يشعرون فيها أنهم مسلمون هي حين يصومون.. في غياب المشترك. فالشيء الذي تبقى لنا هو الدين، إذا زال لم يعد هناك شيء.
كيف تقيمون تحولات المجتمع المغربي بين جيلين على مستوى التمثلات والمعتقدات، وأولويات سلم القيم، وطبيعة العلاقات الاجتماعية في ظل التحولات التي فرضتها العولمة والثورة الرقمية؟
في الواقع، هذه التحولات عاشها الفرد في البعد الأنثربولوجي، فالفرد هو المكون للجماعة، التي هي بناء سوسيولوجي أكثر منه بناء اجتماعي، الفرد يندمج داخل مجموعة معينة، يتقاسم معها مشاعر الانتماء وقيما مشتركة وهموما اجتماعية اقتصادية ثقافية إلخ..
اللحظة التي عاش فيها الفرد هذا التحول على مستوى شبكات التواصل في العالم الافتراضي، كان بالضرورة على الأسرة التي يتكون منها هذا الفرد أن تتغير في نفس الوقت، فهناك علاقة انعكاسية ما بين التحولات الحاصلة لدى الفرد وما بين التحولات الحاصلة لدى الجماعة، لأن الجماعة مكونة من مجموعة من الأفراد، وهؤلاء الأفراد تغيروا انطلاقا من هذا العالم. التحولات حاصلة اليوم على مستوى القيم الكونية، وهذا المشترك الكوني هل هو سيء أو جيد، هذا جانب آخر. ربما أن الفرد الذي يعيش مجموعة من الضغوطات الاجتماعية وجد ذاته في هذا العالم الافتراضي، وأصبحت اليوم حتى الأنظمة السياسية، بغض النظر على المغرب أو الدول المجاورة في المنطقة المغاربية، مستفيدة أيضا من هذا الوضع.
أصبح لديك جيل غير متّصل معك، لا يعيش معك، فهل هناك ديمقراطية أم لا؟ غياب حقوق الإنسان؟ اعتقال الصحفيين أو حتى اعتقال الشعب بكامله…؟ لا يهمه ذلك، هو يعيش معك فقط جسديا. إذن من بين النتائج السلبية هي انعدام التواصل اليوم بين الأفراد والواقع الاجتماعي وارتباطهم أكثر بالعالم الافتراضي. هو وجود مجتمع يعيش ركودا ديمقراطيا ونكسات حقوقية، حققنا في فترة ما نوعا من الانتقال على مستوى حقوق الإنسان ، لكن اليوم يتم التراجع عن هذه المكتسبات التي حققها المغرب في فترة معينة، فالمواطن الذي يمكن أن يكون حاميا للبنات الأولى للبناء الديمقراطي وحقوق الإنسان إلخ.. أصبح الحاضر الغائب، لا يعيش معك، فهذا التحول القيمي الذي تحدثنا عنه له تبعاته أيضا على التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لدينا نخبة سياسية انتهازية فاسدة أخلاقيا ليست لديها أي قيم ولا أي مؤهلات لخلق نقلة نوعية وكمية يمكنها أن تقوم بعملية الانتقال الاقتصادي والديمقراطي في المغرب. نخبة همها الوحيد هو الحصول على مناصب وتثبيت وضعها داخل اقتصاد الريع، ولدينا شعب يريد أن يجد موطئ قدم داخل هذا الاقتصاد.
على المستوى الثقافي والفني، هل حُكم الجيل السابق على أذواق الجيل الحالي، مقابل الحنين إلى ما يسمى بالزمن الجميل، محض صراع بين الأجيال أم هو تعبير عن انحطاط في المنتوجات الرمزية والقيم التي تحملها؟
ليس هناك أي انحطاط، ومن يتحدث عن الانحطاط الفني والقيمي والذوقي.. هذا يعيش في الماضي ومنحسر فيه. كل المجتمعات تعرف تحولات على مستوى التعبيرات الفنية، يعني أنا مثلا أحب «الراب» حيث كبرت معه وكان يعبر عن جيلنا… لقد كانت هناك رداءة أيضا في أغاني الماضي، نجاة اعتابو كانت تغني «شوفي غيرو راه الكلبة تابعاه» وكانت من الزمن الجميل، ونجاة بأغانيها قريبة للشعب لأنها تتكلم بلغته. عبد الوهاب الدكالي وغيره هم من رواد الفن المغربي والثقافة المغربية، ولكن يجب إعطاء هذا الجيل الجديد حقّه، هذا الجيل قدّم الشيء الكثير للفن المغربي وفتحه على لغات ومناطق أخرى. لا يجب أن ننسى أن اللهجة المغربية اليوم أصبحت مفهومة في المشرق ويُتغنى بها، بينما في السابق كنا نذهب إلى مصر كي نغني بالمصرية، اليوم المشارقة يأتون عندنا كي يغنوا باللهجة المغربية، هذه قيمة إضافية حققها الجيل الجديد.
على مستوى الإبداع الفني، لا يجب أن ننسى أن الزخم الذي تعيشه اليوم بعض المدن على مستوى المتاحف والأنشطة الثقافية فرضه الجيل الجديد، فلم يعد ذلك الجيل القديم من الفنانين الذين يتغنون للسطان وبالسلطان تزلفا وتقربا منه. هذا الجيل يعيش بين دبي ونيويورك وباريس…
المغرب لديه مجموعة من الوجوه العالمية في عالم التشكيل، الغناء، التصوير.. التي أصبحت اليوم رموزا يُحتذى بها وحوّلت المغرب إلى قبلة على مستوى شمال إفريقيا في الإبداع الفني. إذن أين هي هذه الرداءة؟ لا يمكن أن نقارن الحاضر بالماضي، فقط المجتمعات التي تعيش أزمة هوية هي التي تعيش نوعا من الانحسار وتقارن دائما حاضرها بماضيها، أما المجتمعات المنفتحة على المستقبل فتعيد دراسة حاضرها من أجل تطوير مستقبلها.
في الزمن الجميل كان لدينا تلفاز يبدأ في السادسة مساء وينتهي في الثانية عشرة. «باش كان هاد الزمن جميل»؟ غير العائلة لا شيء كان جميلا في الزمن الجميل. نحن في مجتمعاتنا نعيش نوستالجيا، فكيف يمكن أن تبني قيما جديدة داخل مجتمع يعيش الحنين لزمن كانت تنعدم فيه كل أشكال الحريات؟
لقد حققنا نوعا من الانتقال الديمقراطي ومن خلال الإنصاف والمصالحة، لكننا لم نعمل على ببناء متاحف تتحدث عن تاريخنا، وألزمنا المتمدرسين بالقيام بزيارات لهذه المؤسسات لتثبيت ثقافة حقوق الإنسان ونحكي لهم على التاريخ الأسود للمغرب، كي يتشبث هؤلاء التلاميذ بالمجتمع الحاضر ويحاولوا أن يدفعوا به للأمام. شبابنا لا يعرف شيئا عن ماضيه، فقد نقلنا لهم فقط صورة خاطئة عن ماضينا، وأعطيناهم صورة بأن الفريق الوطني في الثمانينيات كان أحسن فريق في تاريخ المغرب، ونقلنا لهم بأن المدرسة في الماضي كانت أحسن من مدرسة اليوم. بينما نسبة التمدرس في الثمانينيات لم تكن تتجاوز 35 بالمائة بينما نسبة تمدرس الإناث اليوم هي 97 بالمائة والذكور 96 بالمائة. الماضي هو فقط مرآة لاستخلاص الدروس وليس معبدا للقداسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.