محمد بلخشاف باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية
منذ إقرار دستور 2011، وما حمله من تحول جوهري في بنية النظام السياسي المغربي، ظل موقع رئيس الحكومة محط أنظار الفاعلين والباحثين، بالنظر إلى ما أفرزه من تعزيز لصلاحيات هذه المؤسسة التنفيذية الحيوية، عبر تمكينها من شرعية مزدوجة، الأولى ديمقراطية تستند إلى نتائج الاقتراع العام المباشر، والثانية دستورية تستمد قوتها من أحكام الوثيقة الدستورية ، غير أن الممارسة السياسية لما بعد عشرية الدستور، كشفت عن مفارقات عميقة بين النص والممارسة، خاصة فيما يتعلق بالوظيفة الرقابية للبرلمان في علاقته بالسلطة التنفيذية، حيث بات من الملاحظ، خاصة خلال الولاية الحكومية الحالية، غياب متكرر ومنهجي لرئيس الحكومة السيد "عزيز أخنوش" عن جلسات المساءلة الشهرية بالبرلمان، وهي الجلسات التي نص عليها الفصل 100 من دستور2011 بوضوح، بوصفها إحدى آليات الرقابة البرلمانية على السياسة العامة للحكومة، وليست مجرد مناسبة لبروتوكولات التواصل أو نقاشات سطحية بين السلط.
هذا الغياب لا يمكن النظر إليه باعتباره حدث إداري معزول أو توجه سياسي في تدبير العلاقة بين السلط، بل هو مؤشر على انزلاق تدريجي نحو ضرب جوهر التعاقد الدستوري الذي يؤطر العلاقة بين البرلمان والحكومة، فالمساءلة الشهرية ليست فقط واجبا قانونيا، بل ركنا مؤسساتيا في النظام البرلماني، وآلية توازن تضمن عدم تفرد السلطة التنفيذية بالقرار العمومي دون مراقبة أو محاسبة، ما يثير تساؤلات سياسية ودستورية مقلقة حول مدى احترام روح الوثيقة الدستورية وتوازن السلط. فالمادة الدستورية ذات الصلة لا تفتح المجال لتأويل واسع، بل تحدد بشكل صريح أن رئيس الحكومة يلتزم بالحضور شخصيا لتقديم أجوبة عن الأسئلة المرتبطة بالسياسة العامة، وهو ما يجعل من تفويض الوزراء أو تكرار الغياب إخلالا بروح الدستور، وتفريغا لهذه الممارسة من مضمونها الرقابي والسياسي، وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن البرنامج الحكومي الذي تنال الحكومة على أساسه الثقة من البرلمان يمثل تعاقدا سياسيا ومؤسساتيا بين الطرفين، فإن المساءلة الشهرية تندرج ضمن منطق استمرارية هذا التعاقد، وتحقيق التوازن بين شرعية الإنجاز والمحاسبة.
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة من قبيل:
ما هي الدلالات الدستورية والقانونية لغياب رئيس الحكومة عن جلسات المساءلة الشهرية؟ كيف يقرأ هذا الغياب في ظل مقتضيات دستور 2011 الذي أعلن ميلاد تجربة برلمانية صاعدة؟ ما هي الانعكاسات السياسية لهذه الظاهرة على وظيفة البرلمان، وعلى روح العملية الديمقراطية برمتها؟
أسئلة وغيرها، سنعالجها في هذا المقال، وفق قراءة مزدوجة: دستورية من جهة، وسياسية من جهة ثانية.
لا جدال في أن دستور 2011 أحدث نقلة نوعية في موقع رئيس الحكومة داخل البنية الدستورية للمغرب، سواء من حيث مصدر تعيينه (الحزب المتصدر للانتخابات وفق الفصل 47 من دستور 2011)، أو من حيث اختصاصاته التي تشمل توجيه العمل الحكومي، وترؤس المجلس الحكومي، والإشراف على تنفيذ القوانين، كما تنص على ذلك الفصول 87، 89، 90، و92، من الدستور، غير أن الفصل الأكثر دلالة على العلاقة الرقابية بين السلطة التشريعية والتنفيذية هو الفصل 100، الذي نص صراحة على أن رئيس الحكومة يخصص جلسة شهرية للرد على أسئلة أعضاء البرلمان حول السياسة العامة، وهو ما يعني أنه لا يمكن تفويض هذه المهمة، ولا تقزيمها إلى جلسة قطاعية.
يعتبر تكرار غياب رئيس الحكومة عن هذه الجلسات خرقا صريحا لهذا الفصل، وتفريغا لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كما ينص عليه تصدير الدستور، بل ويمكن اعتباره تراجعا عن الفلسفة التي بني عليها دستور 2011، وهي تقوية المؤسسات وتحقيق التوازن بينها.
إن وظيفة الرقابة البرلمانية لا تكتمل إلا بالحضور السياسي والرمزي لرئيس الحكومة، لما لذلك من دلالة سياسية على احترام البرلمان كمؤسسة ناطقة باسم الأمة، وإذا كانت الحكومة قد نالت الثقة من البرلمان أثناء تنصيبها على أساس برنامج حكومي معين، فإن تتبع تنفيذ هذا البرنامج ومساءلة الحكومة بشأنه يشكل واجبا رقابيا لا يمكن تجاوزه.
بل أكثر من ذلك، فإن استمرار غياب رئيس الحكومة عن جلسات البرلمان، سوف يحول هذا السلوك إلى "عرف دستوري سلبي"، يهدد الأعراف الدستورية التي تبنى حول الممارسات المنتظمة، ويشرعن لإضعاف موقع البرلمان، ويحول النصوص الدستورية إلى فصول بدون أثر في الواقع العملي، إنها باختصار، مسألة تتجاوز مجرد الغياب، لتطرح أزمة احترام الوثيقة الدستورية، الوثيقة الأسمى داخل الهرم القانوني في الدولة، من قبل رئيس أهم مؤسسة دستورية داخل النظام السياسي.
إذا كان الإخلال بالدستور يندرج ضمن الانشغالات القانونية والمؤسساتية، فإن الغياب المتكرر لرئيس الحكومة عن جلسات المساءلة الشهرية أمام البرلمان، يحمل كذلك دلالات سياسية لا تقل أهمية لفهم هذا السلوك الجديد، إنه تعبير فج عن غياب الثقافة السياسية والديمقراطية، وعن عدم الوعي بوزن المسؤولية الحكومية ومقتضيات تدبير الشأن العام من موقع رجل دولة، وليس من موقع رجل أعمال، فحين يصل إلى رئاسة الحكومة شخص لا يتوفر على خلفية سياسية حقيقية، ولا يحمل تصورا دستوريا، أو ثقافة حقوقية راسخة، فإن النتيجة تكون ما نعيشه اليوم: تهرب من المسؤولية، عدم احترام للمؤسسات، وتعامل براغماتي نفعي مع موقع رئاسة الحكومة.
وإنه من غير المقبول أن يستمر رئيس الحكومة في الغياب عن مؤسسة دستورية مثل البرلمان، بينما تنشغل شركاته بالفوز بصفقات عمومية كبرى مثل صفقة تحلية مياه البحر، في خرق صارخ لمقتضيات الفصل 36 من الدستور، الذي يجرم تضارب المصالح، ويلزم المسؤول العمومي بتفادي الجمع بين السلطة والثروة.
أليس من المفروض من باب الأخلاق السياسية والدستورية، أن يقدم رئيس الحكومة استقالته بعدما ثبت أن شركته استفادت من المال العام في وقت يترأس فيه الحكومة؟ أليس في ذلك إساءة مباشرة لصورة الدولة ولمصداقية المؤسسات؟
إن هذه الحكومة، بكل بساطة، لم تنجح في تنزيل البرنامج الذي وعدت به المغاربة، ولم تلتزم بما تعهدت به أمام البرلمان، بل إنها أضافت إلى فشلها التدبيري والسياسي، خروقات دستورية موثقة ومسجلة أمام أعين الجميع، فكيف نطمئن إلى نجاعة السياسات العمومية في ظل رئيس حكومة لا يحضر للمساءلة؟ كيف نراهن على البناء الديمقراطي إذا ما غاب عن موقع المسؤولية من ينزل الاختيارات الدستورية المتوافق عليها رسميا وشعبيا؟
إن الممارسة السياسية في هذه المرحلة، للأسف، تؤسس لثقافة سلطوية مقنعة، تؤمن بالشرعية الانتخابية فقط كوسيلة للتموقع داخل الدولة، وليس كآلية للارتباط بالمواطنين ومصالحهم، وتفرغ المؤسسات من معناها الوظيفي، وتحول العمل البرلماني إلى طقس بروتوكولي فارغ من الفعالية والمساءلة.
إن خطورة هذه الظاهرة تكمن في كونها ليست معزولة، بل تحمل انعكاسات مستقبلية تهدد المسار الديمقراطي برمته، وتفتح الباب أمام سلوك سياسي يفرغ المؤسسات من مضمونها، ويحول السياسة إلى امتيازات لا مسؤوليات.
ومن هنا، فإننا ندعو البرلمان، أغلبية ومعارضة، إلى الوقوف بحزم أمام هذا الانحراف الدستوري، وتفعيل الآليات القانونية الممكنة، لإعادة الهيبة والمكانة الحقيقية للمؤسسة التشريعية، لأن ذلك فيه إعادة الاعتبار للأمة، من خلال إجبار رئيس الحكومة على احترام واجباته الدستورية، بما في ذلك تفعيل مسطرة التنبيه أو الإحالة على المحكمة الدستورية إن لزم الأمر.
بكلمة، إن المسؤول الذي لم يولد من رحم السياسة ولم يمر عبر آليات التنخيب الطبيعية ولم ينتمي إلى التنظيمات السياسية، سيظل لا محالة عاجزا عن فهم روح الدستور، وسيكون ديدنه هو المال والنفوذ، ولن تشغل باله بأي حال من الأحوال مصطلحات ومفاهيم من قبيل "المصلحة العامة والديمقراطية وإرادة الشعب…".
لذلك، لا لوم اليوم سوى علينا نحن المواطنون المنتقدون، الذين نطالب بحكومات تشبهنا، متناسين أننا نحن من تخلفنا يوم الزحف، يوم كان لا بد أن نشارك في عملية اختيار من يمثلنا في مؤسسات الدولة دون أن نترك الساحة فارغة لذوي المال والنفوذ ومنطق القبيلة ليختاروا بدلنا من لا يجيدون خطاب الساسة ولا يعرفون للمبادئ طريقا.